دفاع عن الأزهر وشيخه
عندما جرى التحريض على شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب، وأغرى به "أهل الحُكم" سفهاءهُم، تذكرت واقعة هجوم الدكتور فرج فودة في منتصف الثمانينات، على الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر.
فقد صَدَرَت "الأهالي" جريدة حزب اليسار في مصر "التجمع الوطني التقدمي الوحدوي"، ذات أربعاء، وهي تحمل مقالاً للدكتور فرج فودة، وجَّه فيه هجوماً عنيفاً ضد شيخ الأزهر، وعلى نحوٍ غير مسبوق. وفي اليوم التالي نشرت جريدة "الأهرام" خبر لقاء الشيخ مع مبارك، وكانت "الأهرام" تنشر زاوية في صفحة "الدولة" عن لقاءات الرئيس، والخبر ليس أكثر من صورة، تجمع بين الرئيس ومن يلتقي بهم، دون تفصيل!
كان واضحاً أن الشيخ ذهب للرئيس شاكياً من هذا التجاوز على مقامه، وكان واضحاً أن تدخلاً من الرئاسة قد حدث، وهناك وقائعُ نشرٍ في صحف الأحزاب، كان مبارك يتدخل على أثرها بالاتصال برؤساء هذه الأحزاب، وقد عاصرت اتصالين هاتفيين برئيس حزب "الأحرار" الأول بسبب خبر يخص الجيش، والثاني ليبلغ اعتراضه على تحقيق صحفي أساء إلى أرملة الرئيس الراحل أنور السادات.. وإذا كنتُ في هذه عرفتُ تفاصيل ما جرى في الاتصال، فإنه في واقعة جريدة "الأهالي" لا أعرفُ كيف تدخلت الرئاسة، لكن ثمرة هذا اللقاء أنه منع "فرج فودة" من الكتابة نهائياً في جريدة "الأهالي"، والذي اشتكى لي من أنه أُخبر بالمنع من الكتابة في الجريدة بدون إبداء أسباب، ولم يكن يساوره شك، أن لقاء الشيخ جاد الحق مع مبارك، كان بسبب مقاله، وأن المنع من الكتابة كان بتدخل رئاسي لدى رئيس حزب "التجمع" خالد محيي الدين!
إذا وضعت ما سبق على مائدة التحليل الخاصة بالدكتور مصطفي الفقي مدير مكتب المعلومات بالرئاسة سابقاً، فسوف يُرجِعُ ما حدث إلى أن مبارك كان يحمل في قلبه احتراماً خاصاً للشيخ جاد، لأنه كان صديق والده، ولأنه من توسَّطَ له وأدخله الكلية الجوية، عندما كان قاضياً شرعياً وكان والد مبارك يعمل حاجباً في الدائرة التي يترأسها، وإن كان الفقي سيُعلن، كما أعلن من قبل، أن والد مبارك من رجال العدالة!
"مبارك" ليس مكترثاً بوالده ، والعلاقة بينهما لم تكن على ما يرام، وهناك تفاصيل في هذا الشأن أحجم عن التطرق لها، وقُدِّر لي التعرف على محامي والديه بعد الثورة، وما قاله يجعلنا على يقين من أن تدخله في قضية إهانة شيخ الأزهر لم تكن بدافع "إكرام الوالد" في شخص الشيخ، وإذا كان الأمر خاصاً بوساطة الشيخ لإدخاله الكلية الجوية، فليس مبارك ممن يحفظون في أنفسهم تقديراً لأصحاب الفضل عليهم، وقد تدخَّلَ في الإساءة لـ "جيهان السادات"، رغم أنه عمل على تهميشها وبحسب ما قاله لي "طلعت السادات" ابن شقيق الرئيس الراحل، أنَّ مبارك عنده مشكلة مع اسم "السادات" بغض النظر عن حامله!
في مكالمته الهاتفية مع "مصطفي كامل مراد" رئيس حزب الأحرار، قال مبارك: "إن من يهاجم جيهان اليوم سيُهاجم سوزان في الغد".. وهذا هو "مربط الفرس"!
الدافع الحقيقي وراء تدخل مبارك لوقف التطاول على شيخ الأزهر هو أنه كان شديد الحرص على الحفاظ على مؤسسات الدولة، فيرى أنها جزءٌ من نظام الحكم بما في ذلك الأحزاب السياسية بوضعها الذي ورثه من السادات، وقد تدخل مضطراً للموافقة على إزاحة "إبراهيم شكري" من رئاسة حزب العمل، وإحداث انشقاق داخله، وهذا موضوعٌ شرحه يطول، لكن كان هذا هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، وهي ضرورة الحفاظ على المؤسسات برموزها وتقاليدها، ومن هنا غضب لأن مقالاً نشر بجريدة "الأهالي" يتطاول على مقام شيخ الأزهر.
لم يكن الشيخ جاد الحق علي جاد الحق طيِّعاً، وفي تقديري أن مبارك نفسه فوجئ بصلابته هذه، والرجل كان محسوباً على شيوخ السلطة، وكان واحداً من أربعة من شيوخ الأزهر تصدوا للرد على شهادة الشيخ صلاح أبو إسماعيل في قضيتي اغتيال السادات والجهاد الكبرى، وبطلب من مباحث أمن الدولة، وعندما وصل الرد للمحكمة وبَّخت من قدمها لأنها لم تطلب ردوداً من أحد، وهي سيِّدة قرارها!
ثم أنه ممن شاركوا في صياغة قانون الأحوال الشخصية الذي وُصف بأنه "قانون جيهان"، ولهذا فقد ترقى ترقيات سريعة من مُفتٍ للديار المصرية، إلى وزير للأوقاف، إلى شيخ للأزهر، وهنا استشعر الرجل عظمة المكانة، فأخذ المشيخة بعيداً عن السلطة وإلى درب الاستقلال!
ومع أن الرجل لم يكن يخضع للسلطة بالقول، من مقامه هذا، فإن مبارك تدخل لوقف الهجوم عليه، وربما استقام رئيس حزب "التجمع الوطني التقدمي الوحدوي" أكثر من المطلوب فمنع "فرج فودة" من الكتابة تماماً، وإعمالاً للنصيحة التي تقول: "الباب الذي يأتي منه الريح سده واستريح"! بيد أن عبد الفتاح السيسي يحرص على دفع المصريين دفعاً للتحسر على عهد مبارك، وعلى قاعدة: "لا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه"!
"سوابق الطيِّب"
بداية، لا يزايد عليَّ أحد فيما يختص بالموقف المعارض للشيخ الطيب، فقد كتبت نقداً حاداً له عندما كان رئيساً لجامعة الأزهر، وحدث اعتداء الأمن على طلاب الإخوان واعتقالهم، وهو الاعتقال الذي مهَّدت له جريدة "المصري اليوم" بنشر خبرٍ في صدر صفحتها الأولى عن أن الطلاب بممارسة لعبة الكاراتيه في اعتصامهم يعملون على قلب نظام الحكم. وهاجمت اختياره شيخاً للأزهر قادماً من لجنة السياسات التي يترأسها جمال مبارك، ثم هاجمته بعد ذلك عندما ظهر في مشهد الانقلاب ووزير الدفاع "السيسي" يعلن وقف العمل بالدستور، وعزل الرئيس المنتخب!
وعندما قامت الثورة، طالبتُ بضرورة عزل الشيخ أحمد الطيب، بعد عزلِ من عيَّنَهُ في موقعه، وكنتُ ضدَّ لجنة إعداد الدستور في عهد الرئيس محمد مرسي وهي تعمل على عدم إغضاب الشيخ بترقيع النص الخاص بالعزل السياسي لضمان عدم سريانه عليه!
لكن، لا أستطيع أن أنكر أربعة مواقف له، أكد بها أنه يريد أن يكون "جاد الحق" وليس "سيِّد طنطاوي"، وإن كانت طبيعة شخصيته هي الأقرب للأخير، فهو صوفي مثله، وهو لا يتمتع بصرامة الشيخ جاد الحق التي طبعت شخصيته بسبب عمله السابق في السلك القضائي!
الموقف الأول: تمثَّل في خطابه في يوم الانقلاب، فقد تعامل مع ما جرى على أنه "أخفُّ الضررين"، وعند من يفهمون فإن هذا موقفٌ يُذكر له فيُشكر!
الموقف الثاني: أنه لم يبرِّر الدم، ولم يحرِّض على القتل كما فعل المفتي السابق علي جمعة، ولكنه ندَّد بأحداث الحرس الجمهوري، وقال في بيان تلاه بنفسه: "نستنكر وندين ونتألم أشد الألم لما حدث فجر اليوم من سفك للدماء المصرية الزكية"، وطالب بفتح تحقيق عاجل في أمر هذه الدماء التي سالت في هذا اليوم وقبله وإعلان نتائج التحقيق أولاً بأول على الشعب.
الموقف الثالث: كان يوم فضِّ رابعة، فأكَّد على حُرمة الدماء وعلى عِظَمِ مسؤوليتها أمام الله وأمام الوطن وأمام التاريخ، وأعلن عن أسفه وحزنه لوقوع عدد من الضحايا، وترحَّم عليهم وعزَّى أسرهم.
الموقف الرابع: كان في أحداث ما بعد الفض، وأكد على نفس الموقف وعلى نفس المعاني!
وكان المشترك في بياناته هو الدعوة للمصالحة، وتحديد فترة المرحلة الانتقالية على ألا تزيد عن ستة أشهر! وإذا كان البعض يأخذ عليه أنه لم يخرج للشارع وهو يهتف: "مرسي رئيس ومعاه الشرعية"، فليس كل الناس في شجاعة البعض!
السيسي مهرطقاً
وبعيداً عن كل هذا فقد بدا من الواضح أن هناك حملة تستهدف حمل الرجل على الاستقالة على نحو يُمَكِّنُ عبد الفتاح السيسي، من أن يعيِّن لهذا الموقع شيخاً طيِّعاً من أمثال الذين وصفوه بأنه نبيٌّ مُرسلٌ من السماء وأنَّهُ سيدنا موسى عليه السلام في حين أن وزير داخليته قبل أن يُقال طبعا هو "هارون أخي"!
السيسي يميل للهرطقة الدينية، ولديه عناوين تفتقد للمتون، وكلمات غير مكتملة تحتاج إلى من يكملها، وإحساس بالعبقرية يريد من يتبناها، وهو يرى أن الأزهر ينبغي أن يكون هو من يكمل العبارات الناقصة، ويتبنى العبقرية الفذة، ويضع المتن للعناوين الهائمة في ملكوت الله الفسيح!
لقد قال السيسي بتجديد الخطاب الديني، وهو عنوان وَجَدَ تصفيقا صفيقا في الخارج، لكنه لم يقل المقصود بتجديد الخطاب الديني، ولم يطرح مثالاً يوضح به المراد!
ولأن لديه اعتقاداً راسخاً بأنه مسؤول عن دين المسلمين فقد اجتهد فأجرم لأنه لا يمتلك أدوات الاجتهاد أو مَلَكاتِ المُجتهد عندما قال إنَّ الطلاق لا يقع إلا أمام المأذون وكان واضحاً أن لديه مشكلات خاصة يريد أن يحلها بالتشريع، تماماً كما فعلت أستاذة جامعية وعضو معين في مجلس الشعب، عندما كانت متحمسة لقانون الخلع وتبين أن ابنتيها تعيشان أزمات زوجية، والطلاق للضرر "حباله طويلة"!
وما كان للأزهر أن يساير عبد الفتاح السيسي في هذا الجنون، فاجتمعت هيئة كبار العلماء وأقرَّت بالإجماع رفضها لهذه الهرطقة السيساوية، التي تجعل من الأزهر إدارة تسبغ الشرعية على العلاقات الجنسية المحرمة، واللافت أنَّ من بين أعضاء الهيئة مفتي الدماء علي جمعة، فرغم تقربه للسيسي زلفى، فإنه وجد أنه لا يجوز مجاراته في إباحة "الحرام البيِّن"!
والحال كذلك، فقد قيل "يا داهية دُقِّي"، وتابعنا حملة تستهدف الشيخ الطيِّب والمشيخة، ولا أريد أن أقول لأن المقصود هو الإسلام ذاته!
وانطلقت الأذرع الإعلامية للسيسي تهاجم الرجل، وانضمت أصوات مسيحية إليهم في عزفٍ لا تخفي الاذن دلالته.. فقد هاجم "الأنبا مرقص" التعليم الأزهري، وعندئذ قلت: لقد اتضحت الرؤية!
لقد تم استغلال تفجيرات كنيستي "مار جرجس" و"مار مرقص"، ككلمة سر بانطلاق الحملة وأعلن "عمرو أديب" أنهم سيموتون بسبب صمت شيخ الأزهر، وعدم تكفيره لـ"داعش"، وكأن إيمان "داعش" هو الذي يَحولُ دون مواجهتهم بسيف القانون، ومِن نظامٍ استباح قدسية المساجد بشكل لم تسبقه إليه سوى الحملة الفرنسية، لكن الحملة استباحت حرمة جامع واحد هو الأزهر الشريف، في حين أن السيسي وقواته استباحوا حرمة مئات المساجد!
ولم تتوقف الحملة عند حدود النقد المباح، لكن تجاوزتها إلى سبِّ الرجل وإهانته حتى يستشعر المهانة ويستقيل ويحقِّق للسيسي ما يصبو إليه، فهناك دافعٌ مهم وراء الحملة على شيخ الأزهر، وهو أن عبد الفتاح السيسي لديه حساسية شديدة تجاه المواقع المحصَّنة وهو يريد أن يكون صاحب فضل بشكل مباشر على كل قيادات الدولة المصرية، ولهذا عمل المستحيل من أجل إقالة "هشام جنينة" من رئاسة الجهاز المركزي للمحاسبات، رغم أن الرجل وأهل بيته تقربوا إليه بالنوافل!
وينام السيسي وهو يحلم بقيامه بتعديل الدستور لتغيير النص الذي وُضعَ خصّيصا لتحصين موقعه عندما كان المقرر أن يستمر وزيراً للدفاع، ألا وأن من استفاد به هو "صدقي صبحي" فهو يريد أن يعدِّل النص بما يُمكِّنه من تعيين وزير دفاع آخر، فهو يريد أن يصنع دولته بنفسه، وباختيار قيادتها بـ "النفر"!
اللافت، أنه في مثل هذه الأيام ومنذ أربع سنوات كانت هناك حملة عنوانها "شيخ الأزهر خط أحمر"، وكان حزب "الوفد" هو من أكثر المشاركين فيها، وكانت تحمل تهديداً للإخوان من الاقتراب من الشيخ ومن موقعه، ولم تكن هناك ضرورة لذلك فالإخوان لم تكن معهم مشكلة مع الشيخ أو البابا!
الآن، لا أحد يرفع شعار شيخ الأزهر خطٌّ أحمر، لأن من يقود حملة اغتياله هو عبد الفتاح السيسي بنفسه، ليعيِّن كليمه أسامة الأزهري في موقعه، وهو المستعد لأن يزين له سوء عمله ليراه حسنا! إنها حملة مجرمة يقودها من يرى في قدرته أن ينتج لنا ديناً جديداً، وأن يجدِّد الخطاب الديني وهو عاجزٌ عن أن يقدِّم خطابا سياسياً صالحاً للقراءة!
وسوم: العدد 716