(إسرائيل) تستقوي بالعرب
د. مصطفى يوسف اللداوي
هل يكذب رئيس الحكومة الإسرائيلية (بنيامين نتنياهو) أم أنه يُخرف، ولم يعد يدري ما يقول، أم أنه يحلم ويتمنى، ويُحاول أن يخدع شعبه، ويُمني حكومته، ويُطمئن نفسه قبل غيره، بأنه وبلاده أصبحوا أقوى وأكثر أمناً، وأكثر إحساساً بالاستقرار، فلم يعد الكثير ممن حولهم أعداءً لهم، بل باتوا أصدقاء، تربطهم بها علاقاتٌ جيدة، قد تكون أحياناً سـريـة بالنظر إلى طبيعـة المرحلـة وصعوبـة الظروف، لكن سـريتها لا تنفي حقيقـة وجودها، ولا تُعبر عن عمقها وقوتها الحقيقيـة، ولا تمنع تبادل الزيارات، وتنشـيط العلاقات، وتحريك المبادرات، وفتح السـفارات والممثليات، وعقد الصفقات، وتنسـيق المعلومات، والتشـاور والاسـتماع إلى الآراء!!
أم أنـه يوجـه رسـائل تحذيريـة إلى الشـعب الفلسـطيني وقيادتـه وفصائلـه، أن الماضي لن يعود، وأن المسـتقبل سـيختلف عما مضى، فلن تقف الحكومات العربيـة في صفكم، ولن تجدوا الدعم والإسـناد الذي كان منهم، بل إن الحكومات العربيـة سـتبدأ في إجراءات عقابكم وحرمانكم، وسـتلجأ إلى وسـائل حصاركم وتجفيف منابعكم، وسـتُحارب كل من سـاندكم ووقف إلى جانبكم، أو أيديكم في قتال (إسـرائيل)، أو شـجعكم على التصلب والتشـدد، ورفض العروض والامتناع عن القبول!!
فما تقوم به الحكومات العربية اليوم، ضد القوى والتنظيمات، والأحزاب والحركات التي أضرت بالكيان الصهيوني، أكثر بكثيرٍ مما قامت به (إسرائيل)، وأكثر وجعاً وإيلاماً، وأشد تأثيراً وفعالية، فضلاً عن أنه يكتسب صفة الشرعية، ويمضي في مساراتٍ قانونية، وينفذ بقراراتٍ قضائية، بما يجعلها أكثر ثباتاً واستقراراً.
لذا فإن حال الإسرائيليين يقول، عليكم الانسجام مع محيطكم، والتعامل معنا كما تتعامل حكومات دولكم، فلا ترفضوا عرضاً قبلت به الدول العربية، ولا تعترضوا على علاقاتٍ بناها العرب أنفسهم، وآمنوا بها ووثقوا بخيرها، وسيمضون بها حتى النهاية، ولا تعتقدوا بأن الحكومات العربية ستُحصن قراراتكم، أو أنها ستُبارك صمودكم ورفضكم، وستُؤيد اعتراضاتكم، بل العكس من ذلك هو الصحيح، إذ أنها أقرب إلى العقلية الإسرائيلية، وأكثر فهماً لها، وإدراكاً للمسارات السياسية، ومستقبل المنطقة برمتها.
بهذا خاطب (بنيامين نتنياهو) أعضاء منظمة (إيباك) الصهيونية، وطمأنهم بأن مستقبل (إسرائيل) واعدٌ، وغدها سيكون مشرقاً، وحالها سيكون مختلفاً، بما يسر كل صهيوني، ويُسعد كل يهودي، ويُرضي كل محبٍ لهم، ومتعاطفٍ معهم، وستكون أرض (إسرائيل) كما أرادها الرب لهم، مملكة السمن والعسل، وأرض المن والسلوى، وسيلتقي فيها يهود العالم، وسينعمون بـ "أورشاليم" موحدة، وسيُعيدون مجد ممالكهم، وسيُعوضهم الرب عن التيه والضياع، وعن المحرقة والعذاب!!
يؤمن (نتنياهو) بما قال، ويعتقد بما يحلم ويأمل، ذلك أنه يقول أن أغلب الحكام العرب قد طمأنوه وبلاده، وأنهم خاطبوه وغيره، أنهم لا ينظرون إلى بلاده على أنها عدو، ولا يرون أنهم في حالـة حربٍ معها، فهم لن يُقاتلوا (إسـرائيل)، بل لن يدعموا أحداً يُقاتلها، أو يُعرض أمنها للخطر، وقد باتت الكثير من الأنظمـة العربيـة تُحاسـب من يُفكر بإيذاء (إسـرائيل)، أو المسـاس بأمنها وسـلامـة مواطنيها، وما تقوم بـه الحكومات العربيـة من حملات تضييقٍ وتجفيف، إنما يصب في خدمـة (إسـرائيل)، ويُحقق لها الكثير من الكسـب والنفع...!!!
ويرى (نتنياهو) أن المستقبل القريب سيشهد إعلاناً لتطبيع العلاقات مع بعض الدول العربية، وسيُخرجها من إطارها السري إلى الإطار العلني، وستشهد العلاقات العربية الإسرائيلية حالة تنافسٍ إيجابية، ذلك أن الحكومات العربية ترغب في بناء علاقاتٍ طيبة مع (إسرائيل)، وترى أن مصالحها ترتبط بها أكثر، وأن استقرارها منوطٌ بها أكثر من غيرها، فهي تُعادي من يُعادي العرب، وتنوي مقاتلة من يُهدد أمنهم، ويُراهن على مستقبلهم، ما يجعلهم معاً في خندقٍ واحد، في مواجهة عدوٍ مشترك، ويرى أنهم يعترفون بمصداقية بلاده وجديتها في التعامل معهم، ويثقون بها، ويُصدقون روايتها، ويؤمنون برؤيتها.
الإسرائيليون فرحون جداً، مستبشرون بالغد، واثقون من المستقبل، "مؤمنون بأن الرب قد أكرمهم، وبارك لهم، وعوَّضهم على صبرهم ومعاناتهم خيراً"، فما تقوم به الدول العربية من إجراءاتٍ تضيقية وعقابية، إنما هو تحولٌ استراتيجي، وقرارٌ تأسيسي كبير، يشمل عموم العرب، ولن يقتصر على البعض، وسيفتح الباب واسعاً أمام تغييراتٍ جذرية، ستؤدي بالضرورة إلى تحسين البيئة المحيطة بكيانهم، وستقضي في القريب العاجل على البنية التحيتة لكل من يُفكر بتهديد (إسرائيل)، أو المساس بأمنها وسلامة مواطنيها.
الآمال الإسرائيلية في الإجراءات العربية الرسمية كبيرة جداً، فهي تأمل في مزيدٍ من الإجراءات العقابية الرادعة والزاجرة لقوى المقاومة الفلسطينية، ولهذا فهي تزود الأجهزة الأمنية العربية بأسماء البنوك والمصارف ومكاتب التحويل والأشخاص المتعاونين مع المقاومة في عمليات تحويل الأموال، كما تزودها بمعلوماتٍ أمنية حساسة عن خطوط تهريب السلاح وتجاره، وآليات تمويله، والمسارات التي تسلكه، وتُعزز تقاريرها بصورٍ وبياناتٍ وتسجيلاتٍ صوتية، ومكالماتٍ هاتفية، ومواعيد ولقاءاتٍ رسمية.
كما تأمل الحكومة الإسرائيلية من الأنظمة العربية في سياستها الجديدة، التي تبدو أنها حاسمة وجادة، أن تُمارس ضغوطاً حقيقية على السلطة الفلسطينية، للقبول بالعروض الإسرائيلية، لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي في ظل إدارة (أوباما) الحالية، خاصة أن أصواتاً كثيرة في إدارته بدأت ترتفع وتُطالب بضرورة الإنسحاب من رعاية المفاوضات بين الطرفين.
وفي المقابل فإن المخابرات الخارجية الإسرائيلية تزودها بصور الأقمار الإصطناعية، ومختلف البيانات والمعلومات التي تحصل عليها، عما يجري ويدور من أنشطة غير قانونية في الدول العربية، في محاولةٍ منها لتعزيز الثقة الأمنية معهم، بل إنها تعرض عليهم القيام بعملياتٍ أمنية مشتركة، أو تنفيذ عملياتٍ خاصة لحسابهم.
لا نستخف بالأحلام الإسرائيلية، ولا ندعي أنها فقط أضغاث أحلام، وأماني ساذجة، وتوقعاتٌ سخيفة، بل إن منها جزءاً كبيراً من الحقيقة، لا يُمكننا تجاهله أو إهماله، إذ أن مفاعيله على الأرض بادية وواضحة، وآثاره بينة وجلية، ومعاناة الفلسطينيين منه حقيقية ومؤلمة.
إنها نذر خطرٍ حقيقية، وصافراتُ رعبٍ مدوية، لكن الأمل في الله يبقى دوماً، أن الخير في هذه الأمة إلى يوم الدين، وأن شعوبنا العربية والإسلامية لن ترضَ بهذا الحال، ولن تستسلم لهذا الواقع، ولن تنقاد إلى حكوماتها، ولن تخضع إلى سياساتها، بل ستبقى سنداً للفلسطينيين، وعوناً لهم، يُناصرونهم ويُقاتلون معهم، ويُضحون من أجلهم، ولا يتأخرون يوماً عن مساعدتهم.