لماذا تتم المصالحة الفلسطينية الآن؟
عُقدت راية الصلح بين أكبر تيارين سياسيين ونضاليين في الساحة الفلسطينية، وهما يعتبران من أهم الفاعلين في الساحة الوطنية، التقى الجمعان على الرغم ممن يمنعهما من هذا اللقاء، وأهم ما يمنعهما هو التباعد الأيدولوجي والسياسي الذي ينطلق منه كل منهما. فأحدهما يؤمن بالمقاومة كأداة لتحرير فلسطين والثاني يؤمن بالخيار السياسي بعدما تمرّس في الاشتباك مع الاحتلال. ها هما يجتمعان مجددا بعد فُرقة مريرة عانى منها الشعب في شقي الوطن والشتات. نعم اجتمعا لكن هل هو اجتماع الأشقاء في بيت الوطن الكبير؟ أم هو ضرورة أملتها الظروف الموضوعية الداخلية والإقليمية على كليهما؟
من الجدير بالذكر أنها ليس المرة الأولى التي نسمع بها عن إنهاء الانقسام، بل سبقتها محاولات عديدة سواء في القاهرة، الدوحة، مكة المكرمة وغيرها، ونتج عن هذه اللقاءات تفاهمات لم تطبق، ولم يُكتب لها الحياة، وأضحى قطاع واسع لا يؤمن بيوم اللقاء والتصافي – إلا من رحم ربي- . إذن ما الذي يميّز اليوم عن الأمس؟
السلطة الفلسطينية المتمثلة بحركة التحرر الوطني فتح التي تعصف بها تيارات داخلية، تكاد تقتلع أوتاد هذه الحركة خاصة، بعد بروز القوة لأحد أعضائها المتواجد في إحدى دول الخليج النافذة ماديا وسياسيا، ناهيك عن الأزمة المالية التي تعصف بالسلطة، وعدم مقدرتها على تحقيق تقدّم في التسوية السياسية، تقدّم يكون المواطن قادرا على تحسّسه في حياته اليومية، فما زالت الحواجز العسكرية الإحتلالية تمنع حرية الحركة، والأرض تسرق بفعل التوسع الاستيطاني، عوامل كثيرة أدت إلى اتساع فجوة الثقة بين السلطة وأبناء شعبها. أضف إلى ذلك مطالب الساحة الدولية منها بضرورة لملمة أركان البيت الفلسطيني كضرورة ملحة من أجل التقدم في العلمية السليمة، حتى خرج زعماء إسرائيل ليقولوا " لا شريك بالطرف الآخر ومحمود عباس لا يمثل كل الفلسطينيين" . أضف إلى ما ذُكر آنفا المتغيرات الحاصلة في خريطة التحالفات العربية بين دول المنطقة الكبرى، فتراجعت القضية الفلسطينية؛ لتقبع في أدنى قائمة أولويات هذه الدول، وبات الرئيس محمود عباس شبه معزول في المقاطعة بمدينة رام الله، وخفت وهج لقاءاته مع الزعماء العرب، حتى أنّ علاقته مع مصر الرسمية قد بردت بعدما لعب أحد أقطاب حركته المتواجد في الخارج دورا كبيرا لذلك، مستغلا علاقاته الوطيدة مع حكام دولة الإمارات التي تضخ المال الوافر في ميزانية جمهورية مصر المُثقلة بالديون. ما ذكر بعض من أمور دفعت رئاسة السلطة إلى إرسال حكومة الوفاق الوطني إلى قطاع غزة لمباشرة عملها هناك، واستقبلتها قيادة حركة حماس ورحبت بها أشد ترحيب، استقبالها هذا جاء بعد إعلان رئيس المكتب السياسي للحركة وبشكل مفاجئ في القاهرة استعداد حركته بتسليم المعابر والإدارة في القطاع لحكومة الوفاق الوطني. أعتقد بأنّ الحركة تمر في أصعب مراحلها على المستوى الداخلي وعلى مستوى تحالفاتها الاقليمية، خاصة بعد انهيار حكم الإخوان المسلمين في مصر، وأزمة حصار دولة قطر الحاضنة لأغلب أعضاء مكتبها السياسي السابق –قد طُلب من قطر إخراج أعضاء المكتب السياسي لحركة حماس في وقت لاحق-، مضافا إليه بوادر انتصار النظام في سوريا في الحرب الداخلية بعد سبع سنوات صِعاب، وربما ادراكها بخطئها بالخروج من محور الممانعة ( سوريا، إيران، حزب الله ) دفعها أيضا بالإتجاه نحو المصالحة. أمّا على مستوى حكم القطاع المُحاصر، فبعد حكمها له لأكثر من عشر سنوات فقد وجدت نفسها غير قادرة على الاستمرار وغير قادرة على رفع الحصار، واستنفذت بعض مواردها وجٌفف بعضه الآخر، وأيضا وجدت نفسها معزولة نوعا ما، فبادرت بإعلان وثيقتها السياسية قبل انتخاباتها الداخلية الأخيرة، ومع ذلك لم تسعفها كثيرا تلك الوثيقة ، فلاح شبح ضمها لقائمة "الإرهاب" العربية.
وجد الطرفان أنّ مخرجهما الوحيد من الأزمة هو بوابة المصالحة، خاصة بعد الحديث عن " صفقة القرن " وملامح التطبيع العربي الرسمي المجاني مع إسرائيل. وربما حصل الطرفان على معلومات من مصادرهما الخاصة عن ملامح تلك الصفقة –صفقة القرن- واستشعرا باقتراب نار الإقصاء النهائي من أجندة المنطقة لهما. وربما تبادر لمسامع حركة حماس عن اقتراب بلورة اتفاق سياسي مع الطرف الإسرائيلي برعاية أمريكية وعربية، فأرادت أن تنأى بنفسها عن أيّة مسؤولية عن هذا الاتفاق أمام الشعب وأمام التاريخ، وأن تُحمّل حركة فتح وحدها المسؤولية عنه وعن نتائجه السلبية المتوقعة. لذا حين تجري الانتخابات التشريعية والرئاسية حسب تفاهمات القاهرة، لن تضع حركة حماس ثقلها في هذه الانتخابات، وستقتصر مشاركتها بما يضمن حقوق التواجد داخل المجلس التشريعي، وستركز أكثر وستضع ثقلا أكبر على انتخابات المجالس المحلية، في عودة حرّة إلى العمل الجماهيري والميداني؛ كي تحمي قاعدتها الجماهيرية؛ وكي تضمن توسيع قاعدتها الشعبية بشكل أفقي. هذا في الضفة، أما في غزة فسوف تصر حركة حماس على إبقاء الموظفين الموالين لها في مناصبهم في قطاع الخدمات والأمن الداخلي، وسوف تصر على عدم الخوض في نقاش وحدة السلاح، وذلك كي تضمن " خط الرجعة " في حال تغيرت الظروف وتبدلت النوايا من قِبل حركة فتح والسلطة الفلسطينية، وهنا بوادر فُرقة جديدة، نزاع على تثبيت أركان الحكم في القطاع.
لكن ما يعرفه كلاهما جيدا أنّ الأطراف الراعية لاتفاق المصالحة لن تسمح لهما أبدا بالاختلاف، أو إفشال اتمام المصالحة –على المدى المتوسط على الأقل- ويدلل على هذا القول طلب وزير المخابرات المصري من الرئيس عباس عدم الخوض في مسألة سلاح كتائب القسام لما بعد اتمام المصالحة، وما رسالة عبد الفتاح السيسي المتلفزة لحكومة الوفاق إلا دليل واضح آخر لأهمية أتمام المصالحة بالنسبة لجمهورية مصر، ولكل من يقف خلفها من دول المنطقة وخاصة دول الخليج الساعية لزيادة الحصار على دولة قطر من ناحية، وتحييد دور الدولة التركية – المنشغلة الآن في المسألة الكردية، فتلاقت مصالحها الحالية مع إيران - في المنطقة واستئصال النفوذ الإيراني بعدما أصبح على أعتاب انتصار واضح له في الساحة السورية بمشاركة الاتحاد الروسي .
إذن المصالحة أضحت ضرورة اقليمية ودولية- وربما إسرائيلية أيضا- وليست داخلية فقط، خارطة التحالفات الإقليمية آخذة بالتغيير بشكل رهيب والمنطقة مقبلة على مرحلة عصيبة، وقد فتح بوابة المرحلة القادمة استفتاء اقليم كردستان الداعي للانفصال، والتلويح الأمريكي بإلغاء الاتفاق النووي الإيراني مع دول مجلس الأمن الخمس وألمانيا الاتحادية.
وسوم: العدد 741