ظمأى ليالي الروح ...
وإنَّما لِمَن تمادى أو جفا = هديَّةُ الباري مصيرُ الغرورْ(1)
عطشى ليالي الروح ...
هوامش :
(1)الغُرُور : الغُرُور هو إيهام يحمل الإنسان على فعل ما يضره ويوافق هواه ويميل إليه طبعُه.
* نشرت في مجلة حضارة الإسلام الدمشقية العدد 3 السنة الحادية والعشرون جمادى الأولى 1400 ه
غفوةُ عانٍ ذُوِّبَتْ في النَّفيرْ = كصيحةِ الحشْرِ ليومِ النُّشورْ
على صداها شفةٌ لم تزلْ = تشقًّ أطباقَ الأسى بالهديرْ
أذهَلَتِ القلبَ فيا للرؤى = مائجةً فائرةً كالسَّعيرْ
تشبُّ يابشرايَ ذا فجرُها = ينسُجُهُ الحقُّ بنارٍ ونورْ
أجْرِ بها بقيَّةً في الجوى = من سالفِ العزَّةِ خلفَ العصورْ
لوَّعَتِ الروحَ هنا غُمَّةٌ = مُنْشِئُها جرَّ بِها كي يُغيرْ
ساقتْ نفوسًا خِسَّةٌ فاستوى = في أرضها قاحلةً في البكورْ
ظمأى ليالي الروح فاسْتَمطري = من معصراتِ الغيبِ سقيا تُثيرْ
وأيقظي مَن نامَ تحتَ الونى = أو لفَّ عمرَه بثوبٍ وثيرْ
لاتبعثُ المكدودَ من رمسِه = إلا رياحُ الشَّوقِ ضجَّتْ نذيرْ !
ما جزعتْ نفسٌ وفي بالِها = ذكرٌ حباها من جليلِ الشُّعورْ
أو ردَّ كأسَ الموتِ إلا فتى = أسبلَ في الدنيا إزارَ الحريرْ !
وفي هواها أمنياتٌ خلتْ = كما خلا في السَّاحِ قلبُ الجسورْ
ففي السماوات العلى جلجلتْ = أسمى نُفَيْحَاتِ المنى والسرورْ
تردُّ للروحِ سنا مجدِها = بعابقٍ من حانيات الزهورْ
ما قيمةُ العيشِ على لقمةٍ = معسولةٍ بمُرِّها والمريرْ
وهذه الدنيا فصولٌ شكتْ = يسيمُ واديها الظلامُ النكيرْ!
وما صَفَتْ وليس تصفو وذا = جليلُها يُطوَى ويُطوَى الحقيرْ
يعزُّ فيها ماجنٌ أرعنٌ = يهزأُ بالأقدسِ أنَّى يدورْ
فهل يرى المسلمُ أشواقَه = وينهضُ اليومَ لأمرٍ كبيرْ
وهل زمانُ الراحلينَ الأُلى = يغشى زمانَ اخرين الخطيرْ
كم صائحٍ نادى على أهلِه = بالأسفِ القاتلِ بل بالثُّبُورْ
خَبا بديجورِ وجودِ الأسى = شعاعُه القُدسيُّ بين القبورْ
فباتَ يشكو في مناحاتِه = هولَ المقاديرِ وضيق الصُّدورْ
وفي فجاجِ الأرضِ أقدامُه = كانت تهزُّ الراسياتِ الصخورْ
لمَّا مشى للهِ في دربِه = وعافَ من بهرجها والحريرْ
وما عَرا من ظالمٍ من أذى = أو عاقَه لفحُ عجاجِ الزَّئيرْ
قد لان للثائرِ رحبُ المدى = فطافَ في أرجائه كالأثيرْ
مَن كان في الأرضِ كريمَ الرؤى = ومَن أشادَ المجدَ عبر الدهورْ
ومَن أقامَ العدلَ في ركنِها = وزلزل الباطلَ عند الثغورْ
واليوم ! ياويحَ القلوب التي = عطَّرها الذِّكرُ بروحٍ فخورْ!
واليوم ! أين مُنْيَةٌ لاتُرى = إلا كلمحٍ فوقَ خفقِ السطورْ !
اليوم يشقى المسلمُ المصطفى = من بينِ أشتاتِ الورى بالمصيرْ
مكَبَّلٌ يرمي لياليه العنا = كأنَّه بين البرايا أسيرْ
عطشى ليالي الروح ما أكبرتْ = نفسي ربيعَ العصر واهٍ حسيرْ
تسردُ للأيامِ أُقصوصةً = أوَّلُها مرارةٌ والأخيرْ
ضائعةٌ بمسربٍ داكنٍ = وإن توشَّى صبحُه بالنَّثيرْ
ما حوَّمتْ فوقَ الجموعِ التي = جابَ سناها كلَّ أفقٍ عسيرْ
أو صفَّقتْ أجنحةٌ للهوى = حول بداياتِ الحنيف الأثيرْ
ما رأتِ الروحُ تَجَلِّي عِزّةٍ = تكتبُ للروحِ جليلَ الظُّهورْ
ولا تَثَنَّى الشَّوقُ في مهجةٍ = أسكرها الصَّائحُ خلفَ البحورْ
ترعفُ بالهولِ سُوَيْعَاتُها = واجمةً وفي الدياجي تسيرْ
وأدبرَتْ عن ربِّها والهدى = وأكبرَتْ خذلانَها والفجورْ
ظمأى وهذا العصرُ أزرى بها = وهدَّها مكدودةً والعثُورْ
ظمأى وأين أُمَّةٌ لم تزلْ = تسقي الظماءَ من صدور السَّعيرْ!
ودون إصباحٍ لها أُمَّةٌ = تُخْرِجُ من عاتي الرَّزيَّاتِ نُورْ
غدًا... غدًا لابعدَه ينجلي = صبحُ محيَّانا فَربِّي نصيرْ