الدار الحزينة
د. عبد الحكيم الزبيدي
في رثاء الشيخ حسن بن محمد الزبيدي شيخ قبيلة آل الزبيدي في الإمارات، الذي وافاه الأجل المحتوم في أبوظبي. وكان الشاعر مسافراً خارج الدولة وحين عاد زار قبر الفقيد ثم زار منزله ليقدم واجب العزاء لأسرته، فكانت هذه القصيدة.
مررتُ بعد ازديارِ القبرِ بالدارِ
أقلِّبُ الطرفَ في سورٍ وأحجارِ
وقفتُ فيها أواسيها وأسألها
أين الذي كان فيها فيضَ أنوارِ
أين السراجُ الذي قد كان مؤتلقاً
وأين بدرُ سماها المشرقُ الساري
أين الذي كان فيها أنسَ بهجتها
يزينُها بعبيرٍ منه معطارِ
أضحت كئيباً حزيناً ما يفارقها
همٌ مقيمٌ وكانت أنسَ سُمَّارِ
تبكي على خيرِ شيخٍ كان يسكنُها
يقطِّعُ الليلَ في ترتيلِ أذكارِ
شيخٌ تربى على التقوى فآلفها
يراقبُ الله في جهرٍ وإسرارِ
شيخٌ حكيمٌ تولى في يفاعتِه
أسمى المناصبِ في عزمٍ وإيثارِ
فقاد بالعدلِ والشورى أزمَّتَها
وكم حماها لدى جُلَّى وأخطارِ
وجاد بالمالِ لم يبخل بنائِلهِ
ولا تأخرَّ في يُسرٍ وإعسارِ
وكم تنقل من أرضٍ إلى بلدٍ
يجوب للحقِ أقطاراً لأقطارِ
حتى استقرَّ بأرضٍ عزَّ ساكنُها
يقودها للهدى شيخٌ بإصرارِ
وفي (الإماراتِ) حطَّ الرحلَّ مُتئداً
وحلَّ فيها عزيزَ الضيفِ والجارِ
وصافحت كفُّه كفاً تفيضُ ندىً
(لزايدِ) الخيرِ كم جادت بأثمارِ
وعاش فيها قريرَ العين مغتبطاً
يحاطُ فيها بإجلالٍ وإكبارِ
ونال كل مقيمٍ من قبيلته
عيشاً كريماً ورزقاً هطلَ أمطارِ
فكم نوالٍ أصاب القومُ من يده
وكم شعابٍ جرت منها وآبارِ
وظل يسعى إلى ما فيه صالِحُهم
وما تردَّد في بذلٍ وإكثارِ
وكان منهم وفيهم مثل أوسطِهم
وما تميَّزَ في لُبسٍ ولا دارِ
ولا سعى يبتغي قصراً ومصلحةً
ولا تعذَّرَ عن حقٍّ بأعذارِ
وكان فيهم أباً يحنو بأصغرهم
وللكبير أخاً يعفو عن الثارِ
واليوم يمضي إلى الرحمنِ يسبقه
حسنُ الثناءِ لربٍ جلَّ غفارِ
فبات كل فؤادٍ كان يعرفه
كأنما شُقَّ نصفاه ببتَّارِ
تبكي (أبوظبيُ) شهماً حلَّ ساحتَها
و(حضرموتُ) عليه دمعُها جاري
بكت عليه وجوهٌ من عشيرتِه
بحرِّ دمعٍ على الخدين مدرارِ
وشيَّعوه إلى مثواه في أسفٍ
العين مخضَّلةٌ والقلبُ في نارِ
كأنَّهم إذ مشى للقبرِ موكبُهم
مشوا حفاةً على شوكٍ وصبَّارِ
ووسَّدوه وودوا أنهم دفنوا
فدىً له كلَّ مملوكٍ وديَّارِ
لكنه الأجلُ المحتومُ قدَّره
ربُّ البرية جلَّت حكمةُ الباري
آمنتُ بالله ربِّ العرش خالِقنا
وخالقِ الموتِ والمحيا لأقدارِ
والموتُ دربٌ وكل الناس سالكه
وما الأنامُ سوى ضيفٍ وسُفَّارِ
وما على الأرضِ من نفسٍ مخلَّدةٍ
وإنما الخلدُ في ذكرى وآثارِ
والخطبُ إن جلَّ فالعُقبى لمحتسبٍ
وكلِّ برٍّ على اللأواءِ صبَّارِ
فارحم إلهي فقيداً كان ذا أثرٍ
ملءَ القلوبِ وأسماعٍ وأبصارِ
أمِّنه يا ربُّ من خوفٍ ومن فزعٍ
إذا الغفورُ تجلى باسم جبارِ
ولقِّه منك يا ربَّاه مغفرةً
تمسحْ ذنوباً وتغسلْ إثم أوزارِ
واجعل له القبرَ روضاً واسعاً أنفاً
يفوح طيباً وعطراً مسكُه الداري
واجمعه فضلاً بآباءٍ له سلفت
دعاةِ خيرٍ لبيتِ اللهِ عمَّارِ
وارحم بنيه وبارك في سُلالتِه
ليشرقوا في سمانا مثلَ أقمارِ
ويكملوا نهجَ حقٍ كان رائدُهم
مضى عليه ويقفوا إثرَ أبرارِ
واشمل إلهي بلطفٍ منك أرملةً
تُمسي وتصبحُ في همٍ وتذكارِ
وامننْ عليها بسُلوانٍ ممتعةً
بحسنِ صبرٍ وبارك طول أعمارِ
واخلف علينا بخيرٍ منك تكرمةً
واجبر قلوباً وخفف حزنَها الضاري
واجعل لقانا به يا ربُّ في غرفٍ
من النعيم ِحواها روضُ أزهارِ
في رفقةِ المصطفى الهادي وعترتِه
والآلِ والصحبِ في جناتِ أنهارِ