مثلَ عشبٍ عاشقٍ
نمر سعدي
تقتاتُ أشعاري على قلبي الذي يقتاتُ من قلَقٍ
طقوسيٍّ..سخيِّ الوجدِ.. صوفيٍّ.. خريفيٍّ
يُربِّي طفرةَ الأشياءِ..ماءَ اللا سكينةِ مثلَ أيِّ خميرةٍ بيضاءَ
في أفكارِ ذاكَ الشاعرِ الكليِّ
ذاكَ الحالمِ الرائي المضمَّخِ بالرؤى فرناندو بيسوا..
أُحاولُ أن أُضيءَ عبارةً سريَّةً أو وردةً جوريَّةً
بخطايَ أو بحقيقةٍ خضراءَ
لا قمرٌ يُشيعُ صدايَ
لا قدَرٌ يطيعُ إشارتي
وجميعُ أشياءِ المدى الخاوي تسوطُ دمي
تُسمِّرني على شمسِ الظلامِ
قصيدتي بيدي ترفُّ كصولجانِ البرقِ أو كنبوءةِ الأنهارِ
ينزفُ من شراييني مجازٌ طافحٌ بنجومهِ وغيومهِ..
لا برَّ في جسدي يفِحُّ لأقتفي طيرَ الشذى
لا بحرَ في قلبي ولا لغتي لأرفعَهُ
على شفقِ الدماءِ كبيرقٍ أعمى
ولا شجَرٌ وحيدٌ طاعنٌ في الصمتِ..
يجلسُ كالنساءِ المرهقاتِ من التأمُّلِ في الخريفِ الدُنيويِّ
أو التطفُّلِ في المحبَّةِ والبكاءِ على طلولِ العمرِ
وهيَ تذوبُ كالأزهارِ في الصحراءِ
أو كالأنجمِ البيضاءِ في ليلِ المجوسِ العاطفيِّينَ
انتبهتُ من الرمادِ رأيتُ حقلاً من حباحبَ في الثرى الخاوي
ونهراً حافياً يعدو على جمرِ الحصى المهتاجِ
كيْ يرقى إلى حوريَّةٍ تكتظُّ بالسمكِ المضيءِ وبالزجاجِ
بما تناثرَ من شفاهِ الفُلِّ في الأمواجِ
ها هيَ مرَّةً تدنو وتُمعنُ مرَّةً في الصدِّ
ها هيَ ذي تجلَّتْ في مقامِ الوردِ
شمساً علَّقَتْ أنهارَ قلبي من أصابعها
على رملِ السماءِ وكربلاءِ الروحِ
يا لأنوثةِ الأشعارِ فيها
أمطَرَتني لؤلؤاً من نرجسٍ وسقَتْ ورودَ دمي الصغيرةَ
ثُمَّ عضَّت نارَ عُنَّابي بما يهتاجُ في فمِها
من البرَدِ المصَفَّى والمقفَّى..
طفلةٌ روحي على أعتابها إذْ تُتقنُ الأحلامَ
أو فنَّ التذكُّرِ والهشاشةِ
طفلةٌ بيضاءُ ملءَ نصاعةِ الرؤيا وملءَ براءةِ الغيمِ الصديقِ
قصيدةٌ زرقاءُ مثلُ شذى النُعاسِ
وريحُها خضراءُ كالأشواقِ لا تكتظُّ إلَّا باليمامِ
وخيلِ لوركا الطفلِ...
لا صحراءَ في لغتي ولا شفتي
ولا أفياءَ أو أنداءَ
لا عنقاءَ تنهضُ من رمادِ ذكورتي
لا رغوةَ امرأةٍ تفِحُّ.. تفورُ من دمعي
تطيرُ اليومَ من ضلعي
كأيِّ حمامةٍ خضراءَ سرياليَّةٍ في جوِّ ذاكرتي
يُطرِّزُ ريشُها شالَ الجبالِ ومعطفَ الأجواءِ
بالقُزحِ الجميلِ وبالخيولِ
وبالنوارسِ وهيَ تغزلُ من خيوطِ الغيمِ
والمسكِ المفخَّخِ بالعذابِ قصيدتي الأولى
وأسرارَ التبتُّلِ واختلاجاتِ الضبابِ
وما ترمَّدَ من دمي فوقَ انكساراتِ السحابِ
وفوقَ أهدابِ البحيرةِ في المساءِ المستضاءِ
بكُلِّ أعراقِ البنفسجِ والرذاذِ
وبالأصابعِ والشموعِ أو الدموعِ
تدُقُّ كالأجراسِ غابَ الروحِ
لا صفَةٌ أُعلِّقها على ذاتي ولا شِعري
ولا شفَةٌ تضيءُ القُبلةَ الخرساءَ في ليلِ الجحيمِ
وتبتني للجمرِ صومعةً
وللماءِ المقطَّرِ من هوائي شرفَةً عُلويَّةً سحريَّةً
عبثيَّةَ المعنى أو المبنى..
سكبتُ على الرمالِ عبارَتي
فاخضوضَرَتْ شمسٌ على مرمى الضلوعِ
وأشرَقتْ لغةٌ تُزوِّجُ وردةً صخريَّةً
تنسّلُّ من تشرينَ قلبي للربيعِ
كما تُزوِّجُ عاشقَينِ مضمَّخينِ بلهفةِ القُبَلِ السريعةِ
حينَ تمحو فوقَ دربِ الروحِ كُلَّ خطى الصقيعِ
وحينَ تشتَمُّ العبيرَ الدافقَ الخفَّاقَ
في حبرِ النصاعةِ والصباحاتِ القصيرةِ
هل سرابُ العمرِ غيرُ فقاعةٍ يمتصُّها عطشُ الزمانِ اللا نهائيُّ؟
الحياةُ كأنَّها قيلولةٌ بيضاءُ فوقَ ثرى الوجودِ
وبينَ معركتينِ دائرتينِ
بينَ المثخنينَ بلسعةِ الأملِ العصيِّ ولدغةِ اليأسِ الجريحِ
كيقظةٍ ما بينَ كابوسينِ يقتتلانِ في قلبي
أو امرأةٌ تعذِّبني بلا وجَعٍ خفيفِ الماءِ والرؤيا
تغازلني فتخذلني.. تقبِّلني فتقتلني
وما في القلبِ غيرُ خيالها الناريِّ يخطفُ في دمي الأزهارَ
ما في الروحِ غيرُ رمادها الفضيِّ والمرفوعِ فوقَ الغيمِ كالأسرارِ..
هل أكلَت قوافي الحُبِّ قمحَ فمي.. ووردَ القلبِ؟
هل أكلَتْ لسانَ الروحِ مثلَ الذئبِ؟
أم ضاقَ الكلامُ عليَّ واتَّسَعتْ على مرمى الغوايةِ
في المدى رؤيايَ كالنفريِّ؟
أرعى صمتَ روحي مثلَ عشبٍ عاشقٍ
قد شاخَ في أشعارِ رمبو قبلَ عصرِ الحزنِ؟
أسألُ هل أنايَ العاطفيَّةُ في القصيدةِ والحياةِ أنايَ؟
أسألُ مالكَ بنَ الريبِ هل مرثيَّةٌ بيضاءُ واحدةٌ
تليقُ بموتِ هذا الشاعرِ الضلِّيلِ والمنسيِّ والصُعلوكِ أو تكفيهِ؟
هل قمرُ البنفسجِ والحمامِ ينامُ في كفَّيهِ؟
أو هل يحتفي بسمائهِ ويصُبُّ في عينيهِ كالأنهارِ بعدَ اليومِ؟
هل فُلٌّ يطوِّقُ وحدةَ الأشجارِ وهيَ تشِّعُ أسفلَ قلبهِ في الليلِ؟
هل يكفيهِ ما ينحَلُّ من شمسِ المحبَّةِ فيهِ
وهوَ يعودُ من تغريبةِ الإنسانِ للإنسانِ؟
بحرٌ واحدٌ لا غيرَ في شفتيهِ يردمُ هوَّةَ النسيانِ في دمهِ
يُعانقهُ فيُدني قلبَهُ الأعمى
يُقبِّلُهُ ويرفعُهُ على عينيهِ مثلَ قميصِ يوسفَ
هبَّ من فردوسِ أحلامِ الصغارِ
قصيدتي بيدي ترِفُّ كصولجانِ البرقِ أو كنبوءةِ الأنهارِ
ينزفُ من شراييني مجازٌ طافحٌ بنجومِ ذاكَ الحالمِ الرائي
المضَمَّخِ بالرؤى- قلبي-
أُحاولُ أن أُضيءَ عبارةً سريَّةً أو وردةً جوريَّةً.. رمليَّةً.. صخريَّةً
بالماءِ أو بالعشبِ من جلجامشِ المطرودِ من فردوسهِ السريِّ
أحملُ في دمي قمَرينِ مشتعلينِ..
برَّاً في مدى جسدي يفِحُّ وأقتفي طيرَ الشذى
الموشومَ فوقَ دمي وفي أنفاسِ أحلامي
أُحاولُ أن أُضيءَ خطى النجومِ
بما ترمَّدَ من شفاهي في الترابِ الحيِّ
من نارٍ تخاتلُ ذئبَها الفضيَّ في شفقِ الغوايةِ..
أيها المنسيُّ لا طُرُقٌ تقودُ إلى قصائدكَ الرجيمةِ
لا سماءٌ طفلةٌ تفتضُّ سرَّ الأزرقِ الشفَّافِ في أقصى شغافكَ..
لا طيورَ تبُلُّ شمسَكَ بالغناءِ أو البكاءِ
ولا سلوقيٌّ يشُمُّ حنينَ روحكَ للأنوثةِ
لا معارجَ ترتقي فيها إلى المجهولِ
لا ظلٌّ يليقُ بكبرياءِ النَسرِ فيكَ
ولا نوافذَ في القصيدةِ كيْ تطلَّ على اختلاجاتِ الندى منها
ولا شفقٌ يليقُ بعنفوانِ الوردِ في قدميكَ
لا ماءٌ يُفسِّرُ هجرةَ الأنهارِ في عينيكَ
يشفعُ لانطفاءِ حصاكَ
يكفيكَ الذي ينحَلُّ من شمسِ المحبَّةِ فيكَ
يردمُ هوَّةَ النسيانِ
وهوَ يهبُّ من فردوسِ أحلامِ الصغارِ.