الاعتذار الأخير
فراس حج محمد /فلسطين
ما كنت أنوي الاعتذار لأنه لا سبب يوجبه منطقيا، وعن ماذا أعتذر؟
عن حلم حلمته في حالة زمنية رأيتها هاربة من زمن جميل كنتُ أراه ورديا مفعما بالجمال وصفاء القلب، ما كنت لأعتذر عن الجمال والذكرى المدهشة المتكونة من فرح لم يكن هذا وقته، ولربما جاء متأخرا أو لم يكن له مبرر أن يمر بخاطر شخص تعذب بما يكفي على امتداد عمر شقي، مجبول بالحزن من أول أيامه، ليختم مشهد هذه الحياة برياح كاوية تصلي الروح بنارها.
ما كان يجب أن أفكر بإخراج الحلم إلى عالم النور، لأن أحلامنا نحن العابثين لا تعرف النور ولا تعرف الورد، ولم تعتد إلا على الأشواك المدمية التي تتصبب ألما في كل حين.
فيا ليت تلك الأحلام ظلت قابعة في النفس، يلوكها الوهم ويعجنها الأمل، ولكنها خرجت لتعلن صرختها المدوية، كفاك أيها الغبي شقاء وبلادة، ألم تتعلم من تجارب الماضي؟ ألم تكن لك أحلام ذرتها الريح رملا ووزعتها في ذكريات مهيضة كسيحة لا تقوى على التشخيص إلا في عالم الخيال؟
ما كان يجب عليّ الاعتذار لولا فادحة النتائج الصادمة التي أبرزت العبث بأقبح تجلياته، فليس بمقدور الفلسفة والنظريات أن تغير واقعا مليئا بالنتوءات السوداء، المنتشرة بثورا على وجه الغيوم لتسح مطرا حامضيا متجمعا في الحلق، فيختنق الصوت وترتد الكلمات خجولة لا يثني خجلها إلا نداءات المجهول السابحة في الصدى والسراب.
ما كان يجب علي الاعتذار لولا ما رأيته من جميل المشاعر وبوارق الأمل السابحة في بحور هادئة مطمئنة الأمواج، فإذا ما ثارت ثورانها الأخير حتى قلبت السفينة رأسا على عقب مخلفة أحلامنا حطاما غارقة في وجع مرير تعاني الغربة عن ذاتها وواقعها.
يا له من جنون أن تصدق ذاتك البعيدة القابعة في الريح، وتنسى أن الناس لا يمتلكون ما كنت تظن أنهم يمتلكون من مشاعر إنسانية لها واقعيتها وحنينها وقلبها النابض بعروق الحمام الساجع ألحانا على أغصان الزمن.
ما كنت لأعتذر لولا خسارات خسرتها، وآلام أنا سببتها لأناس ليس لهم ذنب بآمالي وأحلامي، ما ذنبهم وقد أشقيتهم وأدخلتهم دهاليز الحيرة والوله والشوق؟ وهم في العجز مثلي بل أعجز عن أن يقاوموا رياحا أعتى من أجرامنا الضعيفة الواهنة، ما كان ذنبهم وقد غرقوا في وهم تغيير القناعات ظنا منهم أن كل الناس لهم قلب أبيض مثل قلبهم، ولم يدروا بأن سياف الزهور أقسى من سفاح الرقاب، لا يحلو له ولا يطيب له المنام إلا إذا داس الورود الناعمة ليفتك بها في لحظة سيطرة، يظن أنه قادر على أن يكون هو الدكتاتور الوحيد في تشكيل القرارات وتفتيت أحلام الآخرين، فما يرينا إلا ما يرى، وهو الهادي إلى طريق الموت المجاني إذا لم نلتزم برؤياه النبوية الممنوحة له لظروف ليس هو من سببها.
لم أكن لأعتذر لو أن النفس ظلت سالمة من فداحة مصابها الأخير، ما كنت لأعتذر لو أن شريك القارب لم يترك قاربنا يموج في عُرض البحر، وفر هاربا، فأحدث خللا لم يقو أحد على منحه التوازن من جديد، ما كنت لأعتذر لو أنني صدقت نفسي وكذبت ما تصدّق به علي الآخرون من وهم الحكايات العتيقة التي لم تعش إلا في سطور الرواة الحالمين.
لكل ذلك أعتذر يا امرأة مصوغة من رحيق الورد:
عن سناء شع برقا فاكتوى قلبي الحزين |
عن جنون جر روحي نحو شر لا يلينْ |
عن سقامي المر في وجع صادٍ مبينْ |
عنك أنت اليوم في ترحالك البادي الأنينْ |
عن رياح الكون تشقينا على مر السنينْ |
إنها في الليل دمع فادح فظ سخينْ |
إنها عزفٌ على أمسٍ تلظى في الحنين |
ما لقلب كنتِ فيه الوردَ أبيضَ ياسمينْ |
ما لروح كنت فيه الحبّ أشهى ما يكون!! |
ليس ذنب القلب أن يهوى، فرفقا بالظنونْ |
ذاك ذنب ميتٌ، والذنب ذنب الميتينْ |