أَزِفَ الوداعُ
يوسف عُبَيْد (أبو ضياء)
انتهى المجلس وانفَضَّ الزَّائِرونَ وأَدارَ ظهرَهُ مُتَّجِهاً إلى ظلام غرفتهِ الحزينِ وسَلاسِلِ سِجْنِهِ الرَّهيب.
ملحوظة: إن كان أبو العلاء المعري رهين المحبسين، رهين العمى ورهين التشاؤم فشاعرنا رهين لثلاثة محابس، محبس العمى ولكنه استعاض عنه بالأهل والولد، ومحبس البيت استعاض عنه بالشعر والكلمة المعبرة الهادفة، ومحبس المجتمع وقد استعاض عنه بالإرادة القوية والأمل المضيء.
أَزِفَ الْوَدَاعُ
يَهتزُّ جفني للِّقاء بدمعةٍ أندى على قلبي المشوقِ
من قطرة السَّلسال من رشفِ الرَّحيقِ
وتُشعُّ شمسٌ في الفؤاد المظلمِ
وتغرِّد الأشواقُ نَشوى في دمي
وأراكَ مبتسمَ المحيَّا مشرقَ القسماتِ مرتفعَ الجبينْ
ما غَيَّرَتْكَ على مدى الأيَّام عاديةُ السِّنينْ
وظلام غرفتكَ الحزينْ.
وسلاسل الأغلالِ في سجن الطُّغاةِ الظَّالمينْ
وتكاد تخذْلُني خطايْ
لمَّا دنوتَ ومسَّ كفكَ معصمي
عند اللقاء الحلو وارتعشتْ يدايْ
أهلاً.. وتزدحمُ الدُّموعُ بمقلتي
وأودُّ لو أنِّي أضمكَ في اشتياقِ التربةِ الظَّمأى إلى القطر
النَّدِي
ويذوب همسكَ في العروق كأنَّه النُّعمى من الفردوس قد
سِيْقَتْ إليْ
أو أنَّ لحناً من غناء الحورِ داعبَ مسمعيْ
وبدفءِ أنفاسِ الحنانِ العذبِ تغمرُ وجنتيْ
***
ألقاكَ والذِّكرى عروسٌ في الخيال تتيهُ بالحُلَل الجميلةْ
أيَّام كان الدَّهر ينفحنَا بأنداءٍ من اللُّقْيَا بِلَيلَهْ
وينير غرفَتَنا ضياءٌ من سَنا الأشواقِ لا نخشى أُفُولهْ
وترقُّ همستُنا وراء ستائر الشُّبَّاك أَنساماً من النَّجوى
عليلهْ
وتموج ضحكتُنا كأنَّ رنينها القيثارُ أو عبثُ الطُّفولهْ
وتمرُّ ليلتُنا كأنَّ ظلامها المسدولُ أحضانُ الخميلهْ
***
وأفيقُ من حلمي وصوتُ الزائرينْ
متمازجُ النَّبراتِ حين يسلِّمونْ
يتعانقونَ لدى اللقاءِ ويَجْهَشونْ..
من كلِّ أمٍّ قد يَرَاهَا الشَّوقُ ثائرةَ الحنينْ
وشقيقةٌ خَجْلَى تسير كأنَّها مغلولةُ القدمينِ أو شيخٌ حزين
مترنحُ الخطوات ممَّا أثقلتهُ بحمله أيدي السنينْ
أو زوجةٌ ملتاعةُ الأشواقِ حَفَّ بها البناتُ أو البنونُ
***
ويدقُّ شرطيٌّ على باب الحديد بكفِّه أَزِفَ الوداعْ
ويعيدُها أزف الوداعُ أتسمعونْ؟
أزف الوداعُ لقد مضى الوقتُ المحدَّد للزيارهْ
هذا الَّذي سمحتْ به في السجن لائحةُ الإِدَارهْ!
هيَّا إلى الغُرُفْاتِ مرَّ الوقتُ وانتهتِ الزِّيارهْ
***
ويذوبُ كفي في يمينكَ عندما أزف الوداعْ
أزف الوداعُ إلى اللقاءْ..
ونزعتَ كفكَ ثم قلتَ إلى اللقاءْ
أحسستُ أنَّ القلب من جنبيَّ يُنزعُ ثم تنهمرُ الدِّماءْ
سيغيبُ عن عيني ضياكْ
ودقيقةٌ تمضي ثوانِيها السِّراعُ فلا أراكْ
وأدرتَ ظهركَ حين غاصَ الجفنُ بالدَّمع المضمَّخ في
شذاك
تمضي وطرفي في وجومِ الصَّمتِ متَّبعٌ خُطاكْ
سيغيبُ خلفَ اللَّيل، خلف رُؤَى دُجاه وخافقي في الصَّدر
محتضنٌ رُؤاكْ
وأجرُّ في بأسٍ خطايْ
منهارةَ الآمالِ يغمُرني أَسايْ
وَيَرِنُّ في سمعي نداءٌ ثم يجري وسوساتٍ في دِمَايْ
أَزِفَ الوداعُ إلى اللقاءْ
أزف الوداعُ إلى اللقاءْ
أزف الوداعُ إلى اللقاءْ
سأظلُّ أحلْمُ باللقاءْ..
في البيت خلف ستائرِ الشُّبَّاك في الأحلام يغمرُ رُوحيَ الظَّمأى هَواكْ
في السِّجن خلف جِدارهِ اللَّيليِّ خلف حديدهِ ألقاكْ
والعين ظامئةُ الجفونِ إلى لقاكْ

