مواطنون دونما وطن
قصتي مع قصيدة نزار قباني
التي منعت من النشر و تجدون تعليقي عليها تحت نصها
د.هاشم عبود الموسوي
ألقاها الشاعر نزار قباني في مهرجان المربد الخامس في بغداد عام 1985
وقد أحدثت ضجة كبيرة داخل الأوسط الأدبية لجرأتها في حينها
وتم التعتيم والتشويش عليها و منعت من الصدور على الصحف العراقية وقنوات الإعلام...
كانوا ينتظرون من نزار قصيدة مدح على غرار الشعراء السابقين
فكانت القصيدة عكس ذلك
قصيدة تتكلم عن الواقع المرير الذي مر ويمر بنا
يقول نزار_قباني:
مواطنون دونما وطن
مطاردون كالعصافير على خرائط الزمن
مسافرون دون أوراق ..وموتى دونما كفن
نحن بغايا العصر
كل حاكم يبيعنا ويقبض الثمن
نحن جوارى القصر
يرسلوننا من حجرة لحجرة
من قبضة لقبضة
من مالك لمالك
ومن وثن إلى وثن
نركض كالكلاب كل ليلة
من عدن لطنجة
ومن عدن الى طنجة
نبحث عن قبيلة تقبلنا
نبحث عن ستارة تسترنا
و عن سكن
.......
وحولنا أولادنا
احدودبت ظهورهم وشاخوا
وهم يفتشون في المعاجم القديمة
عن جنة نظيرة
عن كذبة كبيرة ... كبيرة
تدعى الوطن
***************
مواطنون نحن فى مدائن البكاء
قهوتنا مصنوعة من دم كربلاء
حنطتنا معجونة بلحم كربلاء
طعامنا ..شرابنا
عاداتنا ..راياتنا
زهورنا ..قبورنا
جلودنا مختومة بختم كربلاء
لا أحد يعرفنا فى هذه الصحراء
لا نخلة.. ولا ناقة
لا وتد ..ولا حجر
لا هند ..لا عفراء
أوراقنا مريبة
أفكارنا غريبة
أسماؤنا لا تشبه الأسماء
فلا الذين يشربون النفط يعرفوننا
ولا الذين يشربون الدمع والشقاء
***
معتقلون داخل النص الذى يكتبه حكامنا
معتقلون داخل الدين كما "فسره إمامنا
معتقلون داخل الحزن ..وأحلى ما بنا أحزاننا
مراقبون نحن فى المقهى ..وفى البيت
وفى أرحام أمهاتنا !!
حيث تلفتنا وجدنا المخبر السرى فى انتظارنا
يشرب من قهوتنا
ينام فى فراشنا
يعبث فى بريدنا
ينكش فى أوراقنا
يدخل فى أنوفنا
يخرج من سعالنا
لساننا ..مقطوع
ورأسنا ..مقطوع
وخبزنا مبلل بالخوف والدموع
إذا تظلمنا إلى حامى الحمى
قيل لنا : ممنـــوع
وإذا تضرعنا إلى رب السما
قيل لنا : ممنوع
وإن هتفنا .. يا رسول الله كن فى عوننا
يعطوننا تأشيرة من غير ما رجوع
وإن طلبنا قلماً لنكتب القصيدة الأخيرة
أو نكتب الوصية الأخيرة
قبيل أن نموت شنقاً
غيروا الموضوع
******************************
يا وطنى المصلوب فوق حائط الكراهية
يا كرة النار التى تسير نحو الهاوية
لا أحد من مضر .. أو من بنى ثقيف
أعطى لهذا الوطن الغارق بالنزيف
زجاجة من دمه
أو بوله الشريف
لا أحد على امتداد هذه العباءة المرقعة
**********
أهداك يوماً معطفاً أو قبعة
يا وطنى المكسور مثل عشبة الخريف
مقتلعون نحن كالأشجار من مكاننا
مهجرون من أمانينا وذكرياتنا
عيوننا تخاف من أصواتنا
حكامنا آلهة يجرى الدم الأزرق فى عروقهم
ونحن نسل الجارية
لا سادة الحجاز يعرفوننا .. ولا رعاع البادية
ولا أبو الطيب يستضيفنا .. ولا أبو العتاهية
إذا مضى طاغية
سلمنا لطاغية
*************************
مهاجرون نحن من مرافئ التعب
لا أحد يريدنا
من بحر بيروت إلى بحر العرب
لا الفاطميون ... ولا القرامطة
ولا المماليك ... ولا البرامكة
ولا الشياطين ... ولا الملائكة
لا أحد يريدنا
لا أحد يقرؤنا
فى مدن الملح التى تذبح فى العام ملايين الكتب
لا أحد يقرؤنا
فى مدن صارت بها مباحث الدولة عرّاب الأدب
********************
مسافرون نحن فى سفينة الأحزان
قائدنا مرتزق
وشيخنا قرصان
مكومون داخل الأقفاص كالجرذان
لا مرفأ يقبلنا
لا حانة تقبلنا
كل الجوازات التى نحملها
أصدرها الشيطان
كل الكتابات التى نكتبها
لا تعجب السلطان
*****************
مسافرون خارج الزمان والمكان
مسافرون ضيعوا نقودهم .. وضيعوا متاعهم !!
ضيعوا أبناءهم .. وضيعوا أسماءهم ... وضيعوا إنتماءهم
وضيعوا الإحساس بالأمان
فلا بنو هاشم يعرفوننا .. ولا بنو قحطان
ولا بنو ربيعة .. ولا بنو شيبان
ولا بنو ' لينين ' يعرفوننا .. ولا بنو ' ريجان '
يا وطني .. كل العصافير لها منازل
إلا العصافير التى تحترف الحرية
فهى تموت خارج الأوطان.
د.هاشم عبود الموسوي
أستاذنا الفاضل عادل حبه ، لك كل الإمتنان والشكر على إعادة نشر هذه القصيدة والتي لي ذكريات معها .. أحب أن أدلي بها اليوم على صفحات النور
كنت في تلك الفترة أسكن في منطقة الزعفرانية ببغداد ، وقد إعتدت ، بين يوم و آخر أن أزور الشاعر العراقي الكبير "كاظم السماوي" رحمه الله في شقته بعمارة المسبح وفي حي المسبح ببغداد .. هذه الشقة كانت أشبه بالمنتدى الثقافي المصغر يحضره عدد من الشخصيات السياسية والثقافية المحترمة والمعروفة ( وإذا ماحالفني الحظ فسأكتب يوما ما عن جلسات وأماسي تلك الشقة الحافلة بالنوادر ) .. وكان في آخر أيامه في بغداد ، بعد أن جاءته رسالة من صديق عمره العلامة العراقي هادي العلوي يدعوه للمجيئ الى الصين لأنهم يحتاجونه هناك للتدريس وللعمل بالصحافة . جضرت في أحد الأيام بعد الظهر عند الأستاذ كاطم ، شاهدته مستعجلا يريد الخروج من باب العمارة ، وطلب مني أن أرافقه ، ولم أسأل الى أين
وإتجهنا مشيا الى ساحة عقية بن نافع ، وفي الطريق أخبرني بأن نزار قباني إتصل به من احد الفنادق المتواضعة عند تلك الساحة ، طالبا منه المجئ إليه .. وعند لقائنا بالشاعر نزار الذي كان مشوشا ومنفعلا ،رحب بنا على عجل وذكر للأستاذ كاظم ( أرجوك كاظم ألا تخبر أحدا بأنني في هذا الفندق ، لقد حجزت عائدا في هذه الليلة ، وقاطعت جلسات المهرجان، لا أريد أن يتابعني الصحفيون .. ) ، ثم تحدث بمرارة عما حدث له بعد قراءة القصيدة .. لم أصبر كثيرا حتى رجوت الأستاذ كاظم السماوي ، أن يطلب منه نسخة منها .. تردد بعض الشئ ثم سلمني النسخة ، وقال لي ستواجه بعض الصعوبات والعقبات في نشرها فخذ الحذر .. سأله الأستاذ كاظم :"هل تريد أن تأتي الى شقتي إن وجدت في مكانك هذا خطرا عليك؟" فتشكر منه وإعتذر.. وبعد أن شربنا قهوتنا .. طويت صفحتي القصيدة ودسستها في جواربي .. وعدنا مشيا الى عمارة المسبح ونحن نلتفت بعد كل عشر خطوات الى الوراء لنتأكد بأن ليس من أحد يتبعنا ..
إعتذرت من شاعرنا الكبير كاظم السماوي ، بأني لا أستطيع أن أحضر مجلسه في تلك الأمسية .. وعدت مستعجلا الى بيتي لأبدأ بإستنساخ القصيدة بعدة نسخ ، ولتكن في اليوم التالي جاهزة ضمن أدب الإستنساخ العراقي ، الذي إبتكرناه ، ونجحنا في نشره بالرغم شراسة ذلك النظام .
تقبل مني كل الود والمحبة.
وسوم: 634