بعد استشهاد صلاح كان الترقب وانتظار الإعدام مسيطراً عليّ لعدة أشهر في ظل ثلاث حفلات أسبوعيا.. كانت تقام صباح كل سبت واثنين وأربعاء... وحبل المشنقة يتراءى لي في أحلامي ملتفاً على عنقي.
بعد حوالي ستة أشهر عاد الجرح ينكأ في صدري, وكانت قواعد نظم الشعر استقرت في رأسي... كان الألم طاغياً, والحزن يعصف بي, فأستعين بإيماني بالله ووعده بتكريم الشهداء... فجاءت قصيدتي الثانية.. حوار بيني وبين الشهيد... أشكو له أحزاني وهمومي...
الشهيد... أشكو له أح ا زني وهمومي...
شرَّفْتَني أن كنتُ للبطل الشهي ........دِ أخاً وحسْبُ المرء ذا كي يفخرا
الخطبُ أطلق ناطقي فتحرَّرا=وحكايتي بُدِئتْ بفصلٍ أحمرا
إن الحيَاةَ مدارسٌ أيَّامُها=فيها العظاتُ لمن وعى وتدبَّرا
الخلقُ فيها كُلُّهم طُلابُها=طوبى لمن دَأبَاً سعى وتذكَّرا
والويلُ للطاغي الجهولِ وجُندِهِ=أعمى الخطى بعظاتِها ما أبصرا
نجمٌ يداعبُ خاطري في خلوتي=ويؤرّقُ الأجفان مني في الكرى
يا لَيتَهُ يأوي إلي معانقاً=فيُحِيلَ مُرا من حياتي سكرا
مَلكٌ تهادى طيفُهُ في ناظري=وجهٌ كريمٌ بالضِياء تنوَّرا
ورنَا إليَّ ببسمَة قد طالما=كانت تواسي خاطِري المتكدِّرا
فهتفتُ مل ء جوارحي واغرورقتْ=عينايَ دمعاً ساخناً متقطِّرا
مهلاً أُخيَّ ألا وقَفتَ تكرُّماً=رفقاً بقلبٍ كاد أن يَتَفَطَّرا
ما كنتُ أحسَبُ أن يعاجلَنا القضا=لكنْ كذا شاء الحكيم وقَدَّرا
وقع القضاءُ ولستُ أنسى وقعَهُ=من غير إنذارٍ لنا أو أن أُنظَرا
وإلى جنانٍ رحبَةٍ غادرتَنا=ورسولُنا يسقيك كأساً كوثرا
وتركتَني أتَجرَّعُ الآلام في=حرِّ الصحارى حائراً متحسرا
أيكونُ شأني أن أعيشَ معذباً=بين الذئاب وفي السجون مُكَدَّرا
وأخي صلاح للإبَاء مُهَنَّدٌ=بالحق يرمي من طغى وتجبرا
من ذا الذي هو مؤنسٌ في وَحشَتي=دَوماً أراُه مُؤازراً ومُبَشِّرا
من ذا الذي أُفضي إليهِ بشَكوَتي=ويذودُ عني إن صديقي أنكرا
من ذا الذي في عُسرتي هو منجدٌ=يَهَبُ الحيَاةَ ولا أراه تذمَّرا
عوَّدتَني الإحسَانَ منكَ مؤاثراً=أكرمتَني حياً وفي جوف الثرى
علَّمتَني أنَّ الأخُوَّةَ نِعْمَةٌ=لكنها مجهولَةٌ بين الورى
علَّمتَني الإيمانَ يسمو رِفعةً=يأبى الهوانَ ... من القيود تحررا
علَّمتَني أن الشهادةَ مِنَّةُ=قد خصَّها ربُ العبادِ لمن يرى ..
فيه الكرامةَ والهداية والتُقى=يهوى الحياة عزيزةً فوق الذرى
كلآلئِ البحرِ العميقِ ينَالُها=من لم يهبْ عصفَ الرياح وأبحرا
بالله فرِّج عن أخِيك بدعوةٍ=آن الأوانُ لِكَسرِنا أن يُجبرا
فعسى الشهيدُ بأن يجابَ دعاؤهُ=أو أن يُشَفَّعَ في أُسارى تدمرا
همسَ الشهيدُ بخاطري مالي أرى=في مُقلَتَيك مدامعاً وتأثُّرا
وعلامَ تأسى؟ والجنانُ ديارُنا=قد مَنَّ ربي بالهِبا ت وأكثرا
مالي وللدنيا وزيفِ بريقِها؟=وضَبابُها من غاب فيه تهوَّرا
أين النعيم السرمديُّ من الضنى=شتَّانَ ما بين الثريَّا والثرى
انفضْ غبارَ الحزن وامضِ مجاهداً=مُستيقنا بالنور يأتي مُبْكِرا
انظر رِفاقي... للحبالِ تسابقوا=اليوم نَلقى ما وُعِدْنا مُحْضَرا
نبِّئْ أبي: لايحزنَنَّ لمصرعي=إني أرى نصرَ الإله مؤزَّرا
راياتُهُ معقودةٌ ويَصونُها=جيشُ الإلَهِ مُهلِّلاً ومُكَبِّرا
وطلائعُ الإيمَان تزهو بالهدى=تجتَثُّ أصلَ الظالمين المُنْكرَا
هذي حروفُ حِكايةٍ قد خطَّها=قلمٌ تَغَمَّسَ بالدماء وسطَّرا