المتوالية الموضوعية
المتوالية الموضوعية ، (قصيدة) متوالية الأنفاس يشغلها هم واحد. و قد كتبت في أعقاب مآساة حماة سنة 1982مـ ، و قد غلبت الموضوعية فيها على الفنية ، وقد كانت المشاعر جميعا في شغل شاغل ، بعد الدمار الذي أصاب حماه ، و بعد المصائب التي وقعت بأهلها، وبعد الشتات الذي أصاب الجماعة ، وقد أصبحت لاجئة في بلاد الغير. و هي مآساة لما توفّ حقها إلى اليوم . وقد كتبت في بغداد سنة 1982 م. وما جاء فيها من أفكار مستنبط من حمأة واقعها الذي عشناه يوما فيوما وساعة فساعة ، والذي لما يزل بعد يعيش في داخلنا مشاعر غاضبة . وماجرى في سورية منذ 2011 وحتى اليوم ، هو بعض من ذلك المصاب ، الذي أدمى ولايزال يدمي القلوب جميعا .
يا للشموسِ كأَنَّها لم تُشْرقِ والبدرُ لم يألقْ بليل غاسقِ
والوردُ لم ينبُتْ على تلك الرُبى أبداً ولم يَنْشُر شذاهُ بخافِقِ
والرَبْعُ لم يأنَسْ بأصحابِ الحجا يوماً ولم يُكْرَمْ بهمةِ صادقِ
والساحْ لم يحفَلْ بأجْنادِ الهُدى وكأنَهُ ساحٌ للصٍّ سارقِ
غبرت سنو المكرماتِ فهل ترى أثراً لعيشِ مكارمٍ متساوقِ
تبكي المكارِمُ عِزَّها في مهدِها ذلَّتْ وحَطَّتْ غيلةً عن شاهِقِ
فإذا الرُبُوعُ كأنَّها رُبَعُ الهوى للجارمينَ وكُلِّ وغْدٍ فاسِقِ
وفلذَّةُ الكبد التي كانتْ إلى تقوى تُقادُ وكُلِّ حَبْرٍ حاذقِ
أضحَتْ تقادُ إلى مواطنِ قَتْلِها ودَمارِها بيدِ الزَنيمِ المارِقِ
(2)
نَقِّلْ حَنَانَيْكَ الخيالَ لعلَّهُ يقفو إذا ما اسطاعَ ضوءَ يقينِ
فلقد غدا الملموسُ أبعدَ والهوى جرحٌ بقلبِ معذّبٍ مسكينِ
قد صارَ أعمقَ والشعورُ كأنَّهُ رَجْعٌ لِعُمْقِ تأوْهٍ وأنينِ
هو في انفعالٍ حيثما ذهبت به ريحُ الصبا أو غالبتْ بحنينِ
ذكرى تُؤرّقُ جَفْنَهُ ولعلَّها فُرْطُ التوجُعِ ذاتُهُ والهُونِ
فإذا وقفتَ به عشيَّةَ طعنِهِ فارأفْ لحالةِ صاحبٍ مَطْعُونِ
والمسْ بِرُفْقٍ ما استطعتَ جِراحَهُ ولعلَّ ذاكَ العودُ للمحزونِ
أرفِقْ ولا تَبْخَلْ ببسمة عائد وبرقِّة المأمونِ للمأمونِ
وانظرْ بِعُمْقٍ في قضيِّة جارمٍ زرعَ الشجى في ملحماتِ جُنونِ
قد صَاغَها في هِمِّةٍ وَحشِيِّةٍ وعزيمة المستأسدِ المأفونِ
فإذا بها تأتي على وَطنٍ لنا فتُحيلُهُ دِمناً لذاتِ شجونِ
(3)
يا صاحبي يا من يناجي حائراً رفقاً بِمحمومِ المشاعِرِ مُلْهَبِ
رفقاً بِمَنْ رَقّتْ مشاعِرُهُ وما بَعُدتْ مَرامِيهِ ومرمى صاحبِ
أحرقتَ قلباً ذابَ مِنْ تحنانِهِ هُوَ غيرَ نَهْج إخائِه لا يحتبي
إنْ أنَّ إخوانٌ له أو أولموا فأنينُهُمْ وقعُ الأسى المتحَزّبِ
هو مِديَةٌ في القلبِ تفري دَرُّها والجَرْحُ يَرْعفُ من خصيمٍ مُرعِبِ
ولعلَّ رمزَ إخائِهِ أنْ نبضُهُ رَجْعٌ لنبضِ مُرَوّعٍ ومُعَذَّب
ويَقِينُهُ أنّ الحياةَ مكارم تُغْشى بكُلِّ محبّبٍ ومُقَرِّبِ
ومحجّةٍ بيضاءَ يألَقُ نورُها في الليلِ طرّاً رُغْمَ أنْفِ المغربِ
والمسلمون جميعُهم أهلٌ له إن شئتَ سَمِّهِمُ لأمٍّ أو أبِ
لا فرقَ بينهمُ فكلُّهُمُ سوا سِيَةٌ فأعجمُ كالفصيح المعربِ
(4)
يا صاحبي عذري حيالك واضِحٌ أنا لستُ صاحِبَ خِطَّةٍ وقرارِ
إن جاسَ أعدانا خِلال معالِمٍ أو أوغلوا في حاضر الأطهارِ
أو هتَّكوا حرماتٍ أخواتٍ لنا أو أثخنوا في مَعْشَري الأبرارِ
أو هدموا حجراً تألَّق بالهدى واستنسروا في الساحِ كالغوارِ
أو قِيلَ دَكّوا في البلادِ معالِماً أو لطَّخوا أقداسَها.. بالعارِ
والقوم عنهم عُزّلٌ في معزلٍ عن ردّ عاديةٍ وكبحِ سُعَارِ
والصحب منَّا في مهامِهِ محنةٍ قد حيلَ بينهم وبين الدارِ
قد حال بينهمُ الأميرُ وجارَ في عدوانِهِ جور الأثيمِ الضاري
فتفرقوا من يوم ذاك وصابهم ما صابهم من هذه الأضرارِ
(5)
أنا شاعر والشعر ليسَ خريطةً فيها تحمَّلُ خِطّةُ المسؤولِ
تجلو المهام لكل ذي مركوبةٍ عن فعلِ مطلوبٍ وعن مأمولِ
فالشعر بَهْوٌ قد يُطِلُّ على دنا لكن بإحساسٍ وخِصْبِ عقولِ
فإذا أطَلَّ فلا تُلِمْهُ إن وعى أوقالَ قولةَ نابِه مجبولِ
فَلِفُرْطِ حسٍّ قد يشفُّ حقيقةً تنبي وقد يروي حكايةَ جيلِ
أو قد يبين من الطريق معالماً هي درب كلّ موفّقٍ معقولِ
فإذا وقفت على رسومِ قصيدةٍ فانظر معالم دارسٍ مجهولِ
فلربَّ غراء القصيد تلوحُ في عُتَمِ الدُجى بالموِسِرِ المقبولِ
(6)
أنا شاعرٌ والشعر ليسَ برامجاً للدارسين وكادر التدريبِ
يجلو المهامَ لدارسٍ ومُدَّرِسٍ للدرسِ أو للبحثِ والتنقيبِ
لكنَّه طَلْعٌ تألَّقَ نُسْغُهُ يزهو بلحنٍ في الحياةِ رتيبِ
فإذا سمعت فسائغٌ مسترسَلٌ ومنضّدٌ خَلْوٌ من التثريبِ
وإذا عقلت فملهَمٌ يجلو الحقيــــــــــــــــــــــــــــــــقة مولع بالفهم والتصويبِ
حِسٌّ يكادُ الكونُ يلهجُ أنَّهُ قَبَسٌ من الإلهامِ جد مصيبِ
(7)
أنا شاعِرٌ والشعرُ ليسَ مناهجاً متكامِلاً فيها بيانُ الأُمّةْ
لكنَّني حِسٌّ أبينُ مخاطِراً قد توجبُ اليقظانَ عالي الهمّةْ
أو أظهِرَ الخطرَ الرهيبَ بصيحةٍ فتكونَ دعواها لأكرمِ لَمَّهْ
أو أنْ يكونَ أميرُها و مُشيرُها هو ذلك الفاني عريضُ الذمّةْ
(8)
أنا شاعرٌ والشعر يبدو مُلْهَماً ببيانِ قَدْرٍ أو بضوءِ يقينِ
مادامَ حِسَّاً قد أحَسَّ بما يرى فأزاح سِتْرَ مُقَصِّرٍ مجنونِ
عَرَّى المخازيَ تارةً وأبان في وضَحِ النهار ِفضائحَ المأفونِ
ولتارةٍ أخرى تراهُ مُؤَذّناً في الناسِ يدعو لانتصارِ أمينِ
ولذاكَ إن أرخَوْا عليه ستائراً أو عاملوا بالغبنِ والتقنينِ
(9)
أنا شاعرٌ هاكَ الأحاسيسَ التي للوهلةِ الأولى الغداةَ أُحِسَّتِ
أنَّى أُلَفَّتُ لا أرى مستحسناً أو واضحاً قد شَعَّ عبرَ الظلمةِ
أو قيماً... فيه انتباهُ مُفَكّرٍ لوقيعةٍ من مجرمٍ وخديعةِ
أو محكماً فيهِ البناءُ لأمّةٍ باتت تنادي يالجندِ الأمَّةِ
أو مُتقناً قد أحْسَنَ الصُنْعَ الذي في طوقِهِ وَسْعٌ لِنَبْذِ الفرقةِ
ويكادُ حِسِّي أن يعبِّرَ هكذا عن عارِضٍ عَرَضاً يتيهُ بِفِعْلِةِ
وإذا نظَرتَ إلى سلوكِ مُعَلِّمٍ أمسَيْتَ تُمْقَتُ من شِجارِ الإخوةِ
وكذاكَ كلُّ معسكرٍ... مُتَنافِرٍ أو مُبْعَدٍ عن كُلِّ إحكامٍ فتي
فالعدلُ يأنَسُ بالسعاةِ إلى تقى بحصافة التقوى وعمقِ الحنكةِ
بالسعي يبدو دائباً مُتَساوقاً مُتَسابقاً كرماً بأنبَلِ شيمةِ
والصبحُ إن سُئِلَ الأنامُ فلم يكُنْ مِيقاتُهُ إلَّا بنبلِ الصحبَةِ
فهو الوجاءُ لعالمِ ومُفَكِرٍ وهو الطريقُ إلى صَعودِ القمَّةِ
(10)
صدِّقْ أخي في اللهِ صدِّقْ صاحبي أنَّ اللئيمَ اصطادَنا بالفاسِ
قد شقَّ ظاهِرَ صَفِّنا في هَجْعَةٍ مِنْ مَعْشَري وبغيبةِ الحرَّاسِ
نَفَثَ السمومَ بحوضنا ثُمَّ انبرى يسقي بنينا الغُرِّ أقتلَ كاسِ
وأصابَ بيضَتَنا فكانتْ حاضِراً يروي على مَرِّ الزمانِ مآسي
تركوهُ غمراً قد تغَمَّرَ بالأسى غرقاً بِلّجَيّهِ لأقصى الراسِ
تعتامُهُ ذكرى تمورُ بساحِهِ وقتامَةٌ محروقَةِ الأنْفاسِ
ولعلَّهُ أضحى كبعضِ معالِمٍ تروي البطولَةَ عن خيارِ الناسِ
هي كالطلولِ اليومَ تبكي أَهْلَها الأبرارَ إخوانَ التقى والباسِ
عُمَّارَها إبانَ كانتْ.. مَعْقِلاً لم يُخْشِهِمْ ظرفٌ بليلٍ قاسي
أبداً ولا الأعدا وقد جمعوا لَهُمْ مِنْ فارِسٍ أو حارِسٍ خنَّاسِ
خَطُّوا مع الباغي ملاحِمَ إخوةٍ هي للنضالِ اليومَ كالنبراسِ
(11)
يا ربعَ أندَلُسٍ ذكرتُكَ شاجياً المُلْكَ والأيّامَ يألقُ حانيا
ومرابعَ العمارِ طُهراً زاكيا. والقومُ أغناهُمْ تقى وسواسيا
خفوا إلى ساحٍ تألّق زاهيا بالمكرماتِ وقد عَهِدْنَ تآخيا
فأذبت في صحنِ الأسى تحناني
وذكرتُ هولاكو وجنداً معتدي قد داسَ أطهاري وحرمة مسجدي
أدمى بِهِ قلبي ولم يتردَدِ عن قتلِ كُلِّ مُكَرَّمٍ ومحمّدِ
ومعزز ومُبَجَّلٍ ومُسَوَّدِ بل هَدْمِ كُلِّ مُقَدَّسِ وممجَّدِ
قد كانَ يزهو بالندى الريَّانِ
ووقفتُ وِقْفةَ خاشِعٍ مُسْتعبِرِ مُتَبَصِّرٍ فيما جرى ومُفَكِّرِ
ومعلّلٍ أسبابَهُ.. ومُقَدِّرِ ما كانَ مِنْ أَمْرٍ مَرِيجٍ مُحْضَرَ
في زِي حُكَّامٍ وهيئةِ عَسْكَرِ عاثوا فساداً واستَقَوْا مِنْ مُسْكِرِ
في حاضِرٍ أضحى السقيم العاني
قامتْ لإسرائيلَ فيهِ دولةٌ ونمتْ غِراسٌ للغزاةِ وشَوكةٌ
في ساحنا، لم تُخْشِها ثوريّةٌ أو يُخْشِها جنْدٌ هناكَ وقُوَّةٌ
أو وقفةٌ تُرجى الغداةَ ونهضةٌ إذ أن أرضي مَزَّقَتْها فرقةٌ
وزهى الأثيمُ بِزِيِّهِ العلماني
لم يُخْشِهِ بئسَ المصيرُ يَهُمُّهُ أو يستحي إن شاءَ فينا فِعْلُهُ
حتى بدا وسط الحِمى ولعلَّهُ نفسُ الغريبِ ورمحُهُ أو سَهُمُهُ
فلقد تغشّاني الظليمُ وظلْمُهُ وذكرت "قاضي الفرد" حيث كأنَّهُ
قاضي الغزاةِ الفارِسُ السكسوني
يسعى وَقَدْ نَكِرَ الأصالَةَ في السعي مُتَبَرِّجاً مُتَحَلِّلاً قطْ لا يعي
ما قد يقولُ كأيّ مخْمورٍ دعي أمثالُهُ كُثْرٌ بلا أيّ وَعي
هُمْ سَطْوةُ الجاني وخلّانُ الشقي فمحاكِمُ التفتيشِ قاضيها البغي
في كُلِّ حينٍ بلْ وكُلِّ مكانِ
لم يُعْفِ أيتاماً ولمْ يَتْرُك لَهُمْ أبداً مُعيلاً أو يُواسي جرحَهُمْ
أو يَمْتَنِعْ عنهُمْ ويَمْسَحُ بؤسَهُمْ فهو الأثيمُ فكمْ رمى إيذاءهُمْ
والمسلمونَ هُمُ الجناةُ فَحُكْمُهُمْ القتلُ والتشريدُ عن أرضٍ لهمْ
سِيّان عدلٌ قائم أو جان
فطروا على حُبِّ الفدا منذ الأولى وأميرُهُمْ بِفُؤادِهِ النارَ اصطلى
عاشوا بها لم يُحْسِنوا فيها البَلا وأضرَّهم، من قد تَسَدَّرَ أو علا
ما بينَ نيرانٍ وقد شهد الملا وخُصُومُهُمْ غُرْبٌ وإن نسبوا إلى
قحطانَ أو نُسِبوا إلى عدنانِ
ولعلَّ مَنْ يقرأْ تآريخاً لنا ويعيش بين المُتْعَبينَ أولي العنا
ويرى المخازيَ كيف يشهد ساحُنا ويشاهِدُ النذلَ الأخَسَّ ممكّنا
مستنسراً قد شَقَّ بيضةَ صَفِّنا بل كيف صار القومُ أشتاتاً هنا
يدركْ حقيقةَ كرةِ العدوانِ
فالأمرُ يبدو في المخاضِ الأضيقِ يزورَّ في حَمَأ وقد لاذَ التقي
في مَهْمَهٍ يبغي النجاةَ ويتَّقي بحقافِها مِنْ كُلِّ مُزوَرٍّ شقي
سيّان ذلكَ مغربي أو مشرقي إذ أنَّ تاريخ المآسي يلتقي
فجميعُها من منشأٍ شيطاني
(12)
إنّي ذكرتُك إذ لمحتُ السهرة عُريانةً فيها تبوحُ الخمرهْ
وتُرى تميلُ مع الكؤوسِ الشقرا محروقةً في آذوبِ الأنْفاس
ولمحت سيّدها يداعِبُ شارب والقوم بين مُباعِدٍ ومقارب
من كل عانسة وأخرى كاعب في معزلٍ وبغفلةِ الحرَّاس
ورأيتُ كلَّ مغلمن سكسوني بالظرف يحكي ميعة السكران
ولهاً يتيهُ بطرفِهِ الوسنان فيهيم فيه واجد ذو باس
ونظرتُ أخرى في مجالس قرطبةْ فإذا العصا تهوي ودعوى غاضبة
عُميّة عصبية متكالِبَهْ فيها الهوى آذتْ جميعَ الناس
وأشحتُ شرقاً حيث ساح الأمّة فإذا النخاسُ عرائساً مُلتمّة
تُشرى لكلّ مُتَوَّجٍ ذي هِمَّةْ ومُدلّهٍ يغفو بظلِّ الكاسِ
وإذا الأنامُ كأنَّها محشورةْ في ساحَةٍ عمّيَّةٌ مخمورةْ
صخباً تتيهُ وما وعت مقدورا ما بين فكي حاقد خنّاس
وبحثتُ عن قصرِ الخليفةِ متعبا وظننتُ أنَّه قد مضى في كوكبةْ
إن لم يكُنْ قد قادَ جيشاً ضارِباً لِيُوَاجِهَ الأعدا بشدَّةِ باسِ
فإذا به في حجرةٍ مذويَّاً يؤتى الطعامَ لبكرةٍ وعشيَّةْ
قط لا تحالُ له شؤونُ رعيّةْ فالحكمُ بينَ مخالبِ الحراسِ
فعلمتُ أنَّ القومَ لمَّا جاؤا شغفوا بأربَعَ سادتِ الجهلاءُ
واستأسرتْهُمْ خمرةٌ سوداءُ هي ظلُّ ما في الناسِ من أرجاسِ
وسألتُ أينَ القوم أهلُ الشورى أهلُ العزائِمِ والحجا المشهورةْ
فإذا بها وكغيرها مأسورةْ في ظلِّ عرشٍ ظاهِرِ الإفلاسِ
وغدوتُ أنبش في ركامة حاضِر قد كانَ قبلاً كالرياضِ الزاهِرِ
ساحاً لفيضِ مكارِمٍ ومآثِرِ وشذى لنُعمانٍ وآخرآسِ
فإذا بها نفسُ المصائب جَمَّةْ نفسُ الكؤوسِ ونفسُ ذاتِ الهِمَّةْ
الفارسُ السرحان داس العمّةْ ومضى مع الهبيز أشأمِ ناس
(13)
و غدوت أسأل عن لبانِ الفارس فإذا به ابناً لِأُمٍّ مومس
قد أبضعت من غادِرٍ عدواني إبّانَ حَطّ بظاهِرِ الشطآن
لم يتّخذِ بين الخليقةِ.. منزلاً إلّا وأفسدَ بعدُ ذاكَ المنزل
فعجبتُ كيفَ اسطاعَ عَبْرَ الأُمّهْ أن يُوتِرَ القوسَ ويرمي سَهْمَهُ
والقومُ أهل ثقافةٍ ونباهةْ فيهم. وفيهم جدُّ أهل وجاهةْ
ولَهُمْ خيولٌ للوغى مركوبةْ ومَدَافِعٌ فوق الذرى منصوبةْ
فلقد مضوا قِدماً بِردِّ العادي وحموا السوادَ وجلّقاً والوادي
لم يألفوا ذلّاً ولم يَرْضَوْهُ والمستبدُّ بسيفهِم أردَوْه
وسألتُ حبراً حاذقاً وأريبا فَقهَ الحياةَ عجيبةً وغريبةْ
عن ذلك المدعو "الأمين القومي" المستجمّ على جماحمِ قومي
فأجابَ أن الأمْرَ يبدو أَكْبَرْ فله يُخَطَّط خارجاً ويُدَبّر
فالخصمُ يَعْتَبِرُ البلادَ جميعا وشعوبَها لا تعرِفُ الترقيعا
إذ أنَّها لا بُدَّ يوماً تثأرْ أو تلتقي في الساحِ رُغْمَ الأغبرْ
ولذاك خصَّ المسلمينَ خصوصا متفرِّداً في حكمه منصوصا
بضرورة الذوبانِ والتمييعِ والقتلِ والإجهاضِ والتضييعِ
كيلا تقوم لهم بأرضٍ قائمةْ تأبى التخلُّفَ أو حياة السائمةْ
وكحاذقٍ خبرَ الحياةَ فنوناً فقِهَ الفنونَ وأتقنَ القانون
فاختارَ صِلاً أغبراً وشجاعاً وساقطينَ وهُمّلاً أتباعاً
في كُلِّ أمرٍ بل وكُلِّ مُهِمِّةْ فَتَخَرَّجوا تِبَعاً كأشأمِ أُمّةْ
إذ ذاكَ أدركنا بأنَّ المشربْ قد كانَ مِنْ فَمِ حاقِدٍ كالعقربْ
(14)
يا صاحبي ماذا أقولُ وأنْتَ
ذاتَ المرامِ إذا أرومُ رَمَيتَ
ما خِلتُ أنَّكَ في المرامِ نأيتَ
أو أنَّ همي عنكَ قد أبعدتَ
فلقد معاً ثرنا نحرر.. بيتا
من غادِرٍ متآمِرٍ.. عدواني
ومعاً شربنا من ثمالةِ كاس
ذقنا اللظى ومرارةً ومآسي
حتى كأنّا واحد في النَّاس
يرموننا وبِكُلِّ صعبٍ قاسٍ
ورحى تدورُ بكاهِلٍ والراسِ
كُنّا لها في الساحِ كالسنْدَانِ
كنَّا ولا زلنا بأنبلِ شيمةْ
نعنو بكلِّ شجاعة وعزيمةْ
لمآبِ جيلِ تَقَدُمٍ ذي قيمةْ
قَطْ لا يلذُّ العيشَ عيشَ بهيمةْ
والقوم بين سيوبةٍ وخصومةْ
قد أوغلوا في الزورِ والبهتانِ
كُنَّا معاً نبغي التقدمَ أجمعا
والعزة الغلباء أن تتضعضع
ومعاً رفضنا عيش ذلٍّ أوضَعَةْ
أو أن نوافَى في الحياةِ المصرعا
ونبيد، أو نغدو العبيد الخشّعا
في حضرةِ النذلِ الأخَسِّ الجاني
ماذا عليَّ إذا الغداةَ التمّتِ
مِحَنٌ وأُتْرِعَتِ الكؤُوس وجُمَّتِ
وبدا كأنَّ النازلاتِ التمّتِ
من حولنا أو أنّها قد هَمَّتِ
والصارمُ البتّارُ قبل وقيعةِ
لم يُمْتَشَقْ لملاحمِ الإخوان
إنّي أُحَذِّرُ خِشْيَةً مِنْ واقِعْ
حذراً من الذئبِ الأصلِّ الجائِعْ
أنْ يَنْتَحي بأخي وقيدي موجِعْ
وذخيرتي بيد الأّذل الخانع
الآبق المأفون ، بل والخاضع
للأجنبي الحاقد العدواني
ماذا عليَّ إذا التشرّد ضرّني
وسببتُ أوبات اللئيمُ يسبني
ومضيتُ لم أحفل بجرحٍ مَضَّني
أتَلَمَّسُ الدنيا لعلي أغتني
ونسيتُ أو أُنْسِيتُ أمراً هَمَّني
فغدوتُ غَدْوَ التائِهِ الحيران
ماذا عليَّ إذا فقدتُ سلاحي
وعلا نشيجي في الحيا ونواحي
ووقفتُ لا أدري بأي صحاح
أمضي إذا لم يستَطِعْ مَلّاَحي
أن يَعْبُرَ اللجيَّ بعدَ مراحي
وبكل إخلاصِ، وكلِّ أمانِ
ماذا عليَّ إذا يقالُ نَبِيهُ
ويُرى النبيهُ مضيَّعاً ويتيهُ
آذاهُ فيما يبتغي .. أهلوهُ
وأذلّهُ في الضائقات أخوهُ
وعراهُ ضَنْكُ العيشِ والتسفيهُ
لم يُشْقِهِ غيرُ الأذى البهتاني
ماذا عليَّ إذا الحرائر هُتّكَتْ
أعراضُها أو أنَّها قد قُتِّلَتْ
أو قِيْلَ في أقصى البلادِ تَشَرَّدَتْ
إن لم أكنْ مِنْ أمَّةٍ قد رُصِنَتْ
أحكامُها وعلى الكريهة بايعتْ
للحربِ أفهَرَ قائدٍ ربانيْ
ماذا عليَّ إذا تَحَدَّثَ ذو شَنَبْ
التيهُ يملّؤهُ... ويملَؤهُ العُجُبْ
وبدا وقد زعم العراقة والنسب
يختال بالأُبه الكذوب وبالغلب
ويقولُ وهو المهتدي والمنتَجَبْ
فأباتُ بين تَوَجُّعي وإهاني
ماذا عليَّ إذا تحدَّثَ عن قصور
من لم يكن في مهمهِ التيهِ صبور
وبدا الضعيف كأنَّهُ الليثُ الهصور
يشتدّ أو يعتدُّ والدنيا تمور
وإذا به الرأسُ المدبّرُ في أمور
ومقدمٌ يرجى لخيرِ.. أماني
ماذا عليَّ إذا تهجم أو أصَرْ
مستكبر أنْ يرأسَ الجمعَ الأبرْ
فاسطاعَ عبرَ مساربٍ أن يستقِرْ
في مجلسِ الشورى وبين أولي الأمِرْ
فإذا بأهلِ الرأي يعلوهم نَكِرْ
وقطيعةٌ آذتْ كبارَ الشانِ
ماذا عليَّ إذا تناقلت الخَبَرْ
صُحُفٌ أشارتْ بالحديثِ وبالصورْ
ووقفتُ لا أدري وقد حلَّتْ غيرْ
ماذا وكيفَ وقد تَدَاخَلَتِ الفِكَرْ
فعييتُ أو أدركتُ أنَّ المؤتمرْ
تخذ القرارَ لعلّةٍ في الشانِ
ماذا عليَّ إذا سمعتُ بكلِّ أَمْرْ
وعرفتُ عُرْفَ حقيقةٍ حلواً ومُرْ
وتَعَمَّقتْ رؤياي أو أدركتُ ضُرْ
وبدت سدوم أو تسدَّلت السُتُرْ
والقومُ في أرجوحةِ.. اللامستقر
ما بين حتفٍ راعبٍ وهوان
ماذا عليَّ إذا الغداة أتاني
نقّالُ أخبارٍ من الميدان
متدثّراً بملاءة الأحزان
يحكي ملاحِمَ إخوة الإيمان
ومساكنا كانتْ لأمس أماني
أضحتْ طلولاً بعدَ جُرْمِ الجاني
ماذا عليَّ إذا رأيت المسلمين
عودي عليهم ثُمَّ عودي بالمئينْ
ورَأَيْتَهُمْ كُلَّاً على كُلِّ فطينْ
يتربَّصُ الزلَّاتِ يفعلُ مايُشينْ
وخصامُهُمْ يعلو وآه المتعبينْ
وخَصَاصُهم نهباً لذي شنآنْ
ماذا إذا الإسلامُ طُمَّ سناهُ
وتحاوشته غيلةً أعداهُ
وتكدرتْ أطيابُهُ ورؤاهُ
واستنسر الباغي وحُمَّ بلاهُ
وازداد بين المسلمين أداه
من بعد مجد باذخٍ وأماني
وسوم: العدد 719