قصة هذه القصيدة
أعترف بادئ ذي بدء بأني تَعَجَّلْت بكتابة هذه القصيدة التي لم تجئ على النحو الذي كنت أتمناه، ويتمناه معي من سيطّلع عليها، في حين أنني أزعم أن هذه القصيدة كانت مكتوبة في ضميري وعلى صفحة خلدي قبل أن أسطّرها على الورق، وجاءت حميميّة الأهل والأصدقاء مطالبة بإنجازها، ونقلها من صفحة القلب إلى الورق، فجاءت كما ستراها قارئي الكريم، وما كان ذلك مني إلا لرهبة تملؤني كلما وقفت أمام جمال بلدي الذي نَمتْني خيراتُه، وغذّتني طيباته، وأمدتني روعتُه بأضعاف ما كان مأمولاً مني أن أقدر على ردِّه له، فقلبي، ولحمي، ومخي، وعظامي، وحتى أحلامي مجبولة فيه ومنه، وروحي مفطورة على حبِّه، وأنا متَّقد الحنين أبداً إليه... وما أحسب أنني وُفّقتُ في الكتابة يوماً كما وُفّقت حين قلت عن مرابعه الجميلة الساحرة وطفولتي فيها:
حتى لكأنني عيونٌ لم تُطْبقْ عليها الجفونُ وهي تتملى روعة ذلك الجمال المتجدد أبداً.
وعلى امتداد عقود البعدِ عنه، برغم الانشغال بهموم الحياة اليوميَّة المُلهية المُعطِّلة عن زيارته كما أحب، أو الإقامة فيه كما أتمنى، لم تغب عن عيني روعةُ جماله، ولم تخفَّ عليَّ وطأة الحنين إليه، دعْ عنك وقفتي برهبةٍ أشدَّ أمام عظمة تاريخه، وشموخ أولئك الرجال الذين صنعوا له مع أندادهم من الغيارى المؤمنين المخلصين ذلك التاريخ المجيد.
تراني قلتُ تاريخه؟!
عفوَ تاريخه الذي طوِيَ، وربما سيظل مطوياً، وقد لا يرى النور ـ لا سمح الله ـ إذا لم تنهض له، وتتحرك باتجاهــه همَّةٌ عاليةٌ، وجهودٌ مقتدرة، وإخلاصٌ عنيدٌ للتاريخ، والأهل والتراب.. هذا التاريخ الذي يبدو لي ـ ويا للأسف الشديد ــ أنه مجهولٌ حتى ممن يُفترض أن يكونوا ورثته وحماته.. وأعترف أني واحد من أولئك، وإن تكن الأمور نسبية.
كثيراً ما عشت متسائلاً، ووقفت سائلاً أولئك الرجال الذين أحسب أن الله قد هيأهم ليكونوا رجال ذلك البلد بكل ما تعنيه وما تتطلبه هذه الكلمة حينما كنت أعيش مصغياً إلى خفقات قلوبهم، وترقرق دموعهم، وابتسامات ثغورهم، وتهدج نبراتهم وهم يتحدثون بكل البساطة والعفوية البريئتين عن ذكرياتِ جهادهم العنيد:
ــ لماذا تُبقون صفحات جهادكم مطوية، ولديكم ما تملؤون به أسفاراً وأسفاراً؟
ولم تكن الإجابات جديدةً عليَّ.. فلقد أصبحتْ مألوفةً لأنها واحدةٌ عند الجميع..
ــ أوليست الحقيقة التي عاشوها واحدة؟
ــ أوليست العقيدة التي نشؤوا عليها واحدة؟
ــ أوليس الهدف والغاية والآمال واحدة أيضاً؟
إنهم لم يجاهدوا لِيُذكروا، ولا ليُحْمَدوا.. إنهم مقتنعون أن ما فعلوه، وما ضحوا به ليس إلا أقل الواجب عندهم، والواجب يجب أن يستحيي فاعله من ذكره.. فكيف إذا ذكرَه مُعَظِّماً له، مُفاخراً به؟
ذلك ما يتنافى مع طباعهم التي فُطروا عليها.
وعندما كنت أقول لهم:
ــ لكن غيركم قد فعل.. وربما ليس عنده إلا أقل مما عندكم؟ سرعان ما كانت تأتي الإجابة واحدة أيضاً:
ــ ليس يهُمنا ما فعل غيرنا، وكيف فعل، ولماذا فعل.. ثم يردفون قائلين:
ــ أتريدنا أن نضيّع ما كنا نبتغيه من مثوبة عند الله الذي أمدنا، على ندرة ما في أيدينا وقلة عددنا، بذكرِ هذا الذي تطالبنا به وهو لا يُقدِّم ولا يُؤَخِّرْ؟
حسبنا أننا ابتغينا به وجه الله، ثم حب هذه الأرض الغالية.
إن الجعجعة لا تُنبت قمحاً، ولا تطحنه.
هؤلاء الرجال الذين استعرتُ من مواقفهم الشامخة قطرة عِطْرٍ واحدة ورششتها في بعض أبيات هذه القصيدة، وقفت وأقف أمام جلال إبائهم وعزتهم أعجزَ ما أكون عن إعطائه ولو أقل الواجب، ولستُ في هذا مبالغاً ولا متواضعاً.. فليس التواضع مقبولاً عند قول الحقيقة.
وإن جهادهم لحقيقة أيضاً..
ألا ترى معي، قارئي العزيز، أن أمر هؤلاء الرجال عجيب حقاً؟
لم أجد بُدّاً وأنا أذكر هذا عنهم من أن أذكر ـ ولو خَطْفاً ـ شيئاً مما فعلوه وألهموه في هذه القصيدة التي لا تعدو أن تكون محاولة للتقرب مما كانوا عليه أو تقريبه.
وَلأَقِفْ معك، قارئي الكريم، عند قصةٍ صغيرةٍ جداً عن رجلٍ أعرفه حقَّ المعرفة لنتبين، بعد هذا الذي حدثتك به، طرفاً من حقيقة هؤلاء الرجال، والقصة أنقلها من غير أن أعلق عليها..
لقد كان المجاهدان الخالدان عز الدين القسام وإبراهيم هنانو ـ رحمهما الله ونفعنا بسيرة جهادهما الحميدة الخالدة ـ كثيراً ما يلجآن إلى بلدي مستنجدين أو مستأنسيْن أو مُسترشديْن لأنهما كانا مطمئنّين إلى أن لهما عندنا ما يريدان.
كان ذلك الرجل صاحب القصة ينثر النقود الفضية، حينما يطالبه بها أولاده صبيحة العيد، عالياً لتتساقط عليهم من حول الصورة الوحيدة التي رفعها فوق مدخل غرفته، وهي صورة المجاهد إبراهيم هنانو رحمه الله فيحسب الأولاد أن «العيدية» جاءتهم من صاحب الصورة.
أليس لنا أن نقول هنا: إنه لا يعرف الفضل إلا أهله، ولا يقدِّرُ الرجال حقَّ قدرهم إلا الرجال!.
تاريخ هؤلاء ا لرجال مطويٌ بإرادتهم حتى الآن، وقد رحل عنّا معظمهم إلى ما قدموه، وما بقيت إلا الذكريات القليلة النادرة المتناثرة هنا وهناك والتي تضغط على أنفاسها اللاهثة لتجهز عليها هذه المسلسلاتُ التي تُقبِل عليها الأجيالُ مسحورةً بعرضها الباهر، مأخوذةً بما بذل في سبيل إخراجها من جهود وأموال ـ مع التحفظ على عدم دقة الكثير مما تقدمه ـ دَعْ عنك هذا الولع الشديد الذي فاق كل مألوف وتصورٍ في التعلق الجنوني بكرة القدم و«أبطالها». على حساب تاريخ أمتنا وأبطاله ورجالاته.
ويقيناً لو أراد هؤلاء الرجال، وتهيأت الجهود، المخلصة لما لديهم من مواد صالحة حقاً لمثل تلك المسلسلات، لكان لكل مشاهدٍ أو مستمعٍ أن يطمئن إلى صحة ما «ألمحت» إليه، ولربما كان بها البديل. وليس لي هنا إلا أن أقول أمام هذه «الحقائق» كلها بكل الصدق..
ليعذرني أهل بلدي الصغير والكبير معاً، وليعذرني تاريخهم المشرِّف، وليعذرني إباؤهم، وليعذرني التاريخ عن كل تقصير أُقِرُّ به سلفاً، فهم بهذه الحقائق ولكل هذه الحقائق أكبر عند الله وأكرم، ويبقى لنا فعل ما نختار فعله.
نَضَّر الله ثرى أموات بلدي، وكل بلاد العرب والمسلمين، وأصلح أحوال أحيائهم أجمعين. والحمد لله رب العالمين.
دمشق 1/6/1997
يا بلدي
مهبِط رأس الإنسانِ هو عالَمُه، بل هو العالَم كلُّه فإذا أحبَّه فقد أحبَّ العالَمَ كلَّه، وإن لم يكن وفياً له محباً لترابه فهو أعجز من أن يَفيَ لأحدٍ، أو أن يحبَّ أحداً.. فإلى قريتي «بابنّا»، وإلى تراب منطقة «الحفّة» أقدم هذه القصيدة حباً ووفاءً.
تلك الفرائدُ أغنتني محاسنُها=كأنما هي روحي، وهي لي عَضُدي
ما رقَّ لي الشعرُ إلا حين أذكرها=فذِكـرُ أطيابها زادي، ومبتردي
إن كان في الشعر لي من شطرةٍ حَسُنَتْ=فحسنُها في دمي من ذلك الأمَدِ
تنسابُ أحلى معاني الحبِّ في كلمي=إذا تذكرتُ أني صورةُ البلدِ
الحُسْنُ أنتَ، وأنتَ المجدُ يا بلدي=هلْ أنتَ من كَبِدي، أمْ أنتَ لي كَبِدي!
صاغَتْكَ بالحُسْنِ كفُّ اللهِ مُنفَرِداً=يا طِيبَ فَرْدٍ بزَهْوِ الحُسْنِ مُنفرِدِ!
كَمْ نقَّلَتْني النَّوى في الأرضِ مُرْتَحِلاً! =وكمْ حملْتُكَ حَمْلَ الرُّوحِ للجَسدِ!
وكَمْ رأيتُ بدنيا اللهِ مِنْ بِدَعٍ! =لكنْ كحسْنِكَ عيني قطُّ لمْ تَجِدِ
بنفخةِ اللهِ عيسى صارَ معجزةً=وأنتَ معجزةٌ مِنْ صَنْعةِ الصَّمَدِ
كِلاكُما آيةٌ للهِ شاهِدةٌ=كلاكُما آيةٌ تبقى إلى الأبدِ
طاف الجمالُ بدنيا اللهِ مُلْتَمِساً=طِيبَ المُقامِ، وما يَهوى مِنَ الرَّغَدِ
وَقَرَّ عيناً بأهلينا وتُرْبتِنا=وحطَّ عندَهُما طَوْعاً.. ولمْ يَحِدِ
فأنتَ يا بلدي للحُسْنِ مُنْتَجَعٌ=وأنت مَنْ يُبدِعُ النُّعمى منَ النكدِ
فاسْلَمْ ــ فُديتَ ــ لحُبٍّ أنتَ ناظِمُهُ=أيا تراباً به أُشفَى مِنَ الرَّمَدِ
الحُسْنُ أنتَ، وأنتَ المجدُ يا بلدي=قَوْلٌ يُبَرِّئُهُ الخَلاّقُ مِنْ فَنَدِ
الحُسْنُ أنتَ، وأنتَ المجدُ قد جُمِعا=وفي سِواكَ هُما أدنى إلى البَدَدِ
ما بَينَ نهْرينِ أَرْسى اللهُ «حَفَّتَنا»=كأنها ــ عَفْوَ ربِّي ــ جَنَّةُ الخلُدِ!
فيا ثَرى «الحفَّةِ» الأغلى مَحَبَّتُهُ=عَوَّذْتُ حُسْنَكَ بالمولى مِنَ الحَسَدِ
ويا ثَرى «الحفَّةِ» المجبولَ مِنْ دمِنا=عهداً ستبقى على الأيامِ غيرَ صَدِي
يا مَوطِنَ الحُبِّ.. يا أمسي وحُلْوَ غَدي=يا صورةً نُقِشَتْ في صفحةِ الخَلَدِ
مِنْ أمْسِكَ النَّفْسُ زادتْ في الأنامِ غنىً=وأنتَ مَنْ فيه أرجو أن يكونَ غَدي
ما ذَرَّةٌ منكَ إلا مُقْلَةٌ ويَدٌ=رُوحي فِداءٌ لها مِنْ مُقلَةٍ ويَدِ
أقْسَمْتُ لوْ لمْ تكُنْ يا موطني وطني=لَمَا ارتَضَتْ مُهجتي إلاَّكَ مِنْ بَلَدِ
ومنكَ إلاّ إليكَ النَّفْسُ ما ارتحَلَتْ=ولو لغيرِكَ إنْ خيِّرْتُ لمْ أَفِدِ
فارْحمْ وفاءَ فؤادٍ أنتَ طينتُهُ=فَهْوَ الغنيُّ، وأنتَ الدائمُ الرَّفَدِ
ويا بَبَنَّا.. وما أغْناكِ راحلةً=إلى السماءِ بلا زادٍ سِوى الصِّيَدِ!
ويا بَبَنَّا.. وما أحلاك ساهرةً=بَيْنَ النجومِ.. ألاَ حُيِّيتِ مِن رَصَدِ!
ما كنتِ لاهيةً يوماً وحالِمَةً=بِمثْلِ جِدِّكِ لمْ أَسمَعْ ولمْ أَجِدِ
لِلبَدْرِ عندَ ذُراكِ الشمِّ مُتَّكَأٌ=وللنجومِ عليها خيْرُ مُتَّسَدِ
أَغْلَيْتُ ذكراكِ لمْ أَحفِل بمُنْتَقِدٍ=وكَمْ يَزيدُ حَنيني نقْدُ مُنْتقدي!
ما زادَني عنكِ بُعْدي غيرَ مَوْجَدَةٍ=حَسْبي وحَسْبُكِ أني دائمُ الوَجَدِ
لَئِنْ كَبَتْ خَيْلُ حَظٍّ منكِ عاثِرةً=يوماً... فمنكِ لِفَوزٍ ألفُ مُحْتَشَدِ
ويا تلالاً بِبابَنّا وجيرَتِها=مِنَ الشقيقاتِ مِمَّنْ هُنَّ في صَدَدِ
أَغْلَيْتُها منْ تلالٍ قد عَلَت شَمَماً=تَذْرو على الدهرِ زَهْوَ الكِبْرِ والغَيَدِ
ما أنتِ إلاّ شُموخُ الأهلِ مُنْطلِقٌ=مِنْ طارِفٍ عَبِقِ الذكرى، ومِنْ تَلِدِ
أعيــذُ أهْلَـكِ ــ والأمجـادُ في دَمِهِمْ ــ=مِنْ أنْ يُرى المجدُ فيهِمْ غيْرَ متّقِدِ
مَنِ ارتضى الذُّلَّ يوماً لَن يَعِزَّ غداً=ولنْ يَزيدَ سوى ذُلٍّ أخو الحَسَدِ
ومَنْ تواكَلَ مُرتاحاً إلى حلُمٍ=فقَصْرُهُ لمْ يكنْ يوماً سوى لَحَدِ
أهلوكِ أهلي، ولا أرضى بهمْ بَدَلاً=وغيرَ أهلِكِ لو خُيِّرْتُ لمْ أرِدِ
تعاقبَ العزُّ في أجيالِهِمْ أبداً=كما تعاقبَ يومُ السبتِ بالأحدِ
قد أبْدعوا الجَدْبَ جَنّاتٍ وفاكهةً=وروَّضوا بالتسامي كلَّ ذي لَدَدِ
وصابروا فعسيرُ الأمرِ مَيسرَةٌ=وجاهدوا.. فأذَلُّوا كلَّ مُضْطّهِدِ
مُسْتَنْفَرونَ إباءُ الحقِّ في دمِهِمْ=لا يَسْجُدون لغيرِ الواحدِ الأحدِ
نَماهُمو بهُدى الرحمنِ مُعْتقَدٌ=ما كان أصْدَقهمْ جنداً لِمُعْتَقَدِ!
تشابكتْ في أصولِ الفَخرِ نِسْبَتهُمْ=كأنها حولَهمْ محبوكةُ الزِّرَدِ
للضَّيفِ هُمْ أهلُهُ.. لِلفخرِ عُدَّتُهُ=ولا تَهمُّكَ منهْمْ قِلَّةُ العَدَدِ
إنْ كان عابَهُمُو مِنْ قلَّةٍ بَطِرٌ=فكَمْ بلا عُدَدٍ أفنَوْا ذَوي العُدَدِ!
هيهاتَ تلقى لهُمْ شكوى إلى أحَدٍ=فليسَ مِثلُهُمو في الصّبرِ مِن أحدِ!
كَمْ منْ شهيدٍ قضى لله مُحتسِباً=يُقارِعُ الظُّلْمَ في حَيْفا وفي صَفَدِ!
طاروا إلى المسجدِ الأقصى ونُصرَتِهِ=ما كان منهُمْ سوى فادٍ، ومجتهِدِ
لمْ يذهبوا عنكِ للدنيا وزُخرُفِها=فهُمْ لخيرِكِ في أَمنٍ وفي رَغَدِ
إنْ فاخرَتْ بشهيدٍ بلدةٌ عجباً=فمنكِ ألفُ شهيدٍ يا ابنةَ الأبدِ
حُيِّيتَ يا عُمرَ البيطارِ مِنْ رَجُلٍ=لاقى العدوَّ بقلبِ الضَّيْغَمِ الحَرِدِ
تكادُ مِنْ بأسِ مَنْ أَرْهَبْتَ قوَّتَهُمْ=تَعْنو الجبالُ.. وأنتَ الطَّوْدُ لم يَحِدِ
جَمَعْتَ حولَكَ مِنْ أحرارِنا نَفَراً=هُمُ الصناديدُ أهلُ البأسِ والصَّيَدِ
عاهَدْتُّمو ربَّكُمْ ألاّ تَقِرَّ لَكُمْ=عينٌ وفي الدارِ ظِلُّ الغاصبِ النَّكِدِ
وثُرْتُمو فإذا أسماؤُكـمْ فِرَقٌ=تُفَرِّقُ الخصمَ رَغمَ العَدِّ والعُدَدِ
في كلِّ شِبْرٍ رأى مِنْ بأسِكمْ رَصَداً=وكلُّ محشودِهِ في قبْضةِ الرَّصَدِ
ما ذرَّةٌ مِنْ ترابٍ كان أنْبَتَكـمْ=إلا لخوفٍ رآها ألفَ مُحتشِدِ
صَدَقتُمُ العهْدَ للمولى فكان لكمْ=عوْناً.. وفزْتُم بعِزٍّ منهُ مُنفرِدِ
إن يَطلُبِ الناسُ للإقدامِ أمْثلةً=يُهدى بها.. فلأنتمْ آيةُ الرَّشَدِ
ما كان مثلُكَ في إقدامِه أبداً=ولمْ يكنْ مثلُهمْ في صِدْقِ معتَقَدِ
لمْ تَلقَ عينُ «فرنسا» رغْمَ ما شهِدَتْ=يوماً كبأسِهمو في ساحةِ الجَلَدِ
هُمْ جابَهوا بيقينٍ كلَّ ما حَشَدَتْ=مِنْ عسكرٍ، وسلاحٍ دائمِ المَدَدِ
لمْ يَصبِروا ساعةً في الذُّلِّ واتَّقدوا=يا هَوْلَ ما لَقِيَتْ مِنْ بأس متَّقِدِ!!
خابَتْ، وفرَّتْ بِخِزْيٍ رغْمَ قوَّتِها=قُبحاً لطاغٍ يعاني ذِلَّةَ الطَّرَدِ!
صحائفٌ عنكِ بالإكبارِ قد مُلِئتْ=عِدي رجائي بِملءِ التالياتِ عِدي
صحائفٌ عنكِ ما هانتْ وإنْ طُوِيَتْ=يوماً سيَنْهَلُ منها كلُّ ذي رَشَدِ
كمْ جرَّ حسنُكِ مِنْ حقْدٍ ومِنْ حَسَدٍ؟!=وكمْ بترْتِ يمينَ الحاسدِ الحَقِدِ؟!
ما أنتِ في شُهرةِ الفيحاءِ أو حَلَبٍ=لو أنصفوكِ لَمَا قَصّرْتِ يا بلدي
يا قلعةً لصلاحِ الدين شامخةً=لأنتِ في أرضِنا رمزٌ إلى الأبدِ
تبقى على الدهرِ منها ألفُ شاهدةٍ=عن بأسِ قومٍ هُمو للجِّدِّ والسدَدِ
لأنتِ مِنْ صُنْعِ أجدادٍ لنا اتَّحَدوا=فخلَّدوا بإباءٍ عزْمَ مُتحِدِ
ما أنتِ إلا زنودٌ كلُّها ثِقَةٌ=بورِكْتِ مِنْ نَضَدٍ راسٍ على نَضَدِ
فأنتِ معجزةٌ قامت على عَمَدٍ=ونحنُ نحنُ بُناةُ الرأسِ والعُمُدِ
تيهي على الدَّهرِ يا أختَ الخلودِ بما=قد نِلْت مِن بأسِ مَنْ أرْسَوكِ وانفردي
فإنْ سبَقتِ بزهوٍ كلَّ باقيةٍ=فَلْتذكري أنَّ قومي هُمْ أولُو الصَّيَدِ
فأنتِ أصْغرُ مِنْ بأسٍ بُنيتِ به=يبقى الشموخُ لِمَنْ شادوكِ فاتَّئِدي!
لمْ يَبْقَ من مستحيلٍ دونَ عَزْمَتِهمْ=لله كيف ألانُوا أصْلَد الصَّلَدِ؟!
شادوا لنبقى أباةً في معاقِلهمْ=نزدادُ عِزّاً على الأيامِ والمُدَدِ
عُذراً إليكَ صلاحَ الدينِ عن فتنٍ=فيها بنوكَ بُعيْدَ العزِّ في كَمَدِ
تَحرَّقَ المسجدُ الأقصى وعاثَ به=أخزى الأنام وعينُ القومِ في رَغَدِ
ما حرَّكتْ ساكناً في القومِ نَكبَتُهُ=وحُقَّ بالروحِ منا أنْ يكونَ فُدِي
نرضى سلامَ عدوٍّ لا عهودَ لهُ=ونستعينُ على الأهلينَ باللُّدَدِ
ماذا أقول صلاحَ الدين عن وطنٍ=أمسى شعوباً. وعزَّ اليوم ذو رشدِ؟
عشتَ الحياةَ جهاداً دون مُعتقَدٍ=ما عِزَّةُ العيشِ إلا عزُّ مُعتَقَدِ
عذراً إليكَ أبي فالصُّبحُ مقتربٌ=رغْمَ الظلامِ فشَعبي للخلاصِ هُدي
فلو ترى فتيةَ الأقصى، وثورَتَهـم=لقلت حقاً، تراثُ الجدِّ للولدِ
ما غيرُنا أبداً مَنْ يُخلِصون لهُ=ويُنقذون به الدُّنيـا منَ النكَدِ
فقد أضرَّتْ بهذا الكونِ قوّتُهُ=لمّا بَغتْ ونأتْ عنْ ربِّها الصمَدِ
تَعَبَّدَ الناسَ من عاشوا بلا قيمٍ=فلا ترى غير منهوبٍ ومُضْطَّهَدِ
لا ضيرَ من ظلمِهم فالظُّلمُ مندحرٌ=مهما استبدَّ مؤدَّاه إلى البددِ
ويا كروماً أنا في حُضنِها وَلَدٌ=هلْ تَذْكرينَ قليلاً شِقوةَ الوَلَدِ؟
ألَمْ أكنْ هاهنا ألْهو، وألفُ هنا=قد كنتُ فيها، وكانت كلُّها لِدَدي!
الشمسُ كانت بها مُلْكي وطَوْع يدي=والبدرُ كالشمسِ ما أحلاهُ طَوْعَ يدي!
أساهِرُ الليلَ أرجو عَدَّ أنْجمِهِ=وكم أعُدُّ ولا أرتاحُ للعَددِ!
وكمْ صعِدتُ إلى أعلى التِّلالِ ضحىً=بعزمِ نِمْرٍ إلى القِطعانِ مُنْجرِدِ!
وكمْ تَدَحْرجتُ نحوَ السَّهلِ مندفِعاً=كأنَّني السيلُ، لكنْ دونما زَبَدِ!
وكمْ جعلتُ أعالي الحَوْرِ مِئذَنَتي=فانسابَ صوتيَ أندى وهْوَ غيرُ نَدي!
وكمْ صَعِدتُ لأعلى تينةٍ حَلِيَتْ=فيها الثمارُ لتَجني تينَتَيْنِ يدي!
أعْدو بهِنَّ إلى جَدّي.. وما برِحتْ=تَهُزُّني ــ رَغْمَ شَيْبي ــ «عِشْتَ يا ولدي»
لم أُبْقِ من شجرِ البستانِ ذاتَ جَنَىً=إلاّ ارتقيْتُ ذُراها دونما صَعَدِ
أطيرُ في خِفَّةِ العُصفورِ مُنتقِـلاً=بينَ الغصونِ ولا أخشى مِنَ المَيَدِ
وكمْ تغنَّيتُ والوادي يَرُدُّ صَدى=صوتي فتَحْسَبُهُ شيئاً مِنَ الرَّعَدِ!
وكمْ أحِسُّ بأنّي بُلبلٌ غَرِدٌ=وأينَ منِّي غناءُ البلبلِ الغرِدِ؟!
وكم نَصبتُ فِخاخَ الطيْرِ مُلتمِساً=صَيْداً ثميناً، وأدنى الصَّيدِ لم أَصِدِ!
وكمْ ألَمْلِمُ من أشجارِها زَهَراً=عَلِّي أفوزُ بعِقْدٍ منه مُنعقِدِ!
أُزْكي به في صَبايا الحيِّ غَيْرتَها=عسى يُقالُ بأنّي نافِثُ العُقَدِ!
فما انقضَتْ شِقْوةٌ قد كنتُ أتقِنُها=إلا وجِئْتُ بعشْرٍ مثْلِها جُدُدِ
طفولةٌ عَجَبٌ قد عِشتُها وَلَداً=للهِ ما كانَ أحلى شِقْوَةَ الوَلَدِ!!
تلك الكُرومُ نَماني حبُّها، ونَما=حبّي لها، وعليها كان مُعتَمَدي
فكلُّ ما كانَ منها كانَ لي مَدداً=وكلُّه لِبَياني أكرَمُ المَدَدِ
ما حُلْوُ فاكهةٍ فيها حَلَتْ ودَنَتْ=إلا وشِعري بها تلقاهُ كالشّهَدِ
ما حُسنُ داليةٍ أرْخَتْ جَدائلَهـا=إلا وكانتْ لشِعري أمتَنَ العُمُدِ
ما لَوْزةٌ لبِسَتْ أزهارَها عَجبَاً=إلا وفَصَّلْتُ منها أجمَلَ البُرَدِ
ما زَهْوُ باسِقةٍ.. ما نَفْحُ زاهِرةٍ=إلا اكتنَزْتُ بها دُنيا مِنَ الملَدِ
ويا عيوناً بها تَنسابُ صافيةً=فالجوُّ منها كقلبِ الواردِينَ نَدي
تَجْري رخاءً وزَهْوُ الحُسنِ يحرُسُها=فاخْضلَّ منها جَبينُ السهْلِ والنُّجُدِ
ويا زهورًا بها تُحيِي نَسائِمُها=عنْ حُسنِها الفَرْدِ أمسى الحُسْنُ في زُهُدِ
مِنْ كلِّ جنسٍ ولَوْنٍ ألفُ فاتنةٍ=بالطِّيبِ تَنْدى يدي إنْ لامَسَتْهُ يدي
هيَ الكنوزُ.. وأنْسُ النفْسِ بَهجتُها=ما مِثْلُ أرواحِها للرُّوحِ مِنْ مَدَدِ
أحسُّ فيها عبيرَ الأهلِ مُنْسَكِباً=يا طِيبَ ذِكْرِ جدودي دُمْتَ مِنْ رَفَدِ!
لولا طهارةُ مَنْ فيها لَما انتشَرَتْ=منها العطورُ وأحيَتْ كلَّ مُفْتَئِدِ!
تلك الفرائدُ أغْنَتْني مَحاسِنُها=كأنما هيَ رُوحي وهْيَ لي عَضُدي
ما رَقَّ لي الشِّعرُ إلا حينَ أذْكرُها=فَذِكْـرُ أطيابِها زادي ومُبتَرَدي
إنْ كان في الشِّعرِ لي مِنْ شَطْرَةٍ حَسُنَتْ=فحُسْنُها في دمي مِنْ ذلك الأمَدِ
لئن بعُدْتُ ابتعادَ الطيرِ عن بلدي=فَعَنْ دمي لمْ يكن يوماً بِمُبْتعِدِ
تنسابُ أحلى معاني الحبِّ في كَلِمي=إذا تذكّرْتُ أني صورةُ البلدِ
ويا أباً جالَدَ الأهوالَ منتصِباً=باركتُ جُهدَكَ كمْ عانى ولمْ يَحِدِ!
جبالُ فضلِكَ ما تنفكُّ شامخةً=أدامَها وحماها اللهُ للأبدِ
ويا أشقَّاءَ قلبي... يا مُنى عُمُري!=لأنتُمو سلْوَتي في القُرْبِ والبُعُدِ
ويا رفاقَ الصِّبا... يا كَنْزَ ذاكرتي=ذكرى ليالي صِبانا لمْ تَزَلْ سَنَدي
إذا ظمئْتُ إلى أنْسٍ هَتفتُ بها:=رِدِي أيا نفسُ أشهى ما نَهِلْتِ رِدِي
فليسَ مِثْلي غنيٌّ حينَ أذكُرُها=كأنني مالِكٌ أمسي وحُلْوَ غدي
ويا ثرىً ضمَّ أمّاً في الضحى رحلَتْ=لأنتَ مِنْ أجلها الأغلى على كَبِدي
لمْ أقْضِ في حُضنِها عاماً ولا ابتهجَتْ=برؤيةِ الطفلِ بين الدّلِّ والحَرَدِ
أَوْصِلْ ــ بحقِّكَ ــ يا ربِّي السَّلامَ لها=مُطهِّراً قلبَها بالثَّلجِ والبَرَدِ
وارحَمْ بيُتْمي وما عانيْتُ مُهْجتَها=وارْحَمْ بقصفِ صِباها كلَّ ذي كَبِدِ
ويا تراباً حَوى أهلي أتَقْبلُني=إذا أتيتُكَ جِسْماً جَفَّ كالوَتَدِ؟
لقد حمَلْتُكَ روحاً لا تُفارقُني=فهلْ ستَقبلُ مني مُشفِقاً جَسدي؟!
عَلِّي وعَلَّكَ ــ عفـوَ البَـوْحِ ــ مُوجِعةٌ=نجوى الأحبَّةِ.. فاعذُرني أيا بلدي