كتاب "الحيدة" لعبد العزيز الكفاني

كتاب "الحيدة" لعبد العزيز الكفاني

تحقيق: د. جميل صليبات

عرض: صدقي البيك

تميز العصر العباسي بالصراع الفكري الذي نشب في أوساط الفرق الإسلامية المختلفة وبين العلماء متعددي المشارب والأفكار، وقد كانت كل قضية فكرية تثير عدداً من المعارك الكلامية التي تتخذ لها ميداناً في الكتب أو الرسائل أو المناظرات بين العلماء.

ومن أخطر القضايا التي شغلت المسلمين علماء وعامة في الثلث الأول من القرن الهجري الثالث قضية خلق القرآن التي طلع بها المعتزلة، وتبناها الخليفة المأمون ثم المعتصم والواثق، وأثارت جدلاً كبيراً بين المسلمين، فقد كان المعتزلة يعتمدون على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية، وأقاموا مذهبهم على خمسة أصول، أولها التوحيد، وخلاصة رأيهم أن الله تعالى واحد، وأرادوا أن يتجنبوا أي شيء يعتدي على وحدانية الله وهو منزه عن الشبه والمثيل، وهم ينكرون الصفات لله بحجة أنها لو كانت موجودة لكانت قديمة، فالموصوف القديم لا يجوز أن تكون له صفة حادثة، والمحذور الذي ينشأ عن هذا، في رأيهم، هو تعدد القدماء (تعدد الصفات القديمة!!) مع أنهم يقرون بأن الله عالم قدير فريد سميع بصير، ولكنهم يقولون هو عالم بذاته قادر بذاته.. ويرد أهل السنة عليهم بأن المحذور هو تعدد الذوات وليس تعدد الصفات. ونشأ عن فكر المعتزلة هذا (عدم قدم الصفات) أن القرآن مخلوق الله تعالى لأنهم ينفون عنه سبحانه صفة الكلام، وأهل السنة يرون أن القرآن كلام الله غير مخلوق (ملخص من الموسوعة الميسرة ص 72) وقضايا قرآنية لفضل عباس ص 244.

هذه البدعة أشعلت فتنة اكتوى بنارها أحمد بن حنبل وكبار علماء أهل السنة، وهذه الفتنة هي التي حدت بالعالم الجليل عبد العزيز بن يحيى الكناني المقيم في مكة للذهاب إلى بغداد ومناظرة رأس المعتزلة في حينه، بشر بن غياث المريسي، وبعد المناظرة التي جرت بينهما بحضور وإدارة الخليفة المأمون لها، ألف الكناني كتابه هذا (الحيدة) يعرض فيه تفصيلات المناظرة.

وهذا الكتاب لصاحبه عبد العزيز الكناني المتوفي سنة 240 للهجرة، حققه الدكتور جميل صليبا، ونشره المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1964م وهو من الحجم المتوسط وتصل صفحاته إلى أكثر من خمسين ومائة صفحة.

ما الحيدة؟

والحيدة التي جعلت عنواناً لهذا الكتاب تعني الانحراف عن جواب السؤال الذي يستدعي الإجابة بالنفي أو الإثبات، إلى جواب آخر، هرباً من تبعة إحدى الإجابتين (لعلم المجيب بما يترتب على إحداهما)، وقد أوقع عبد العزيز مناظره بشراً في مثل هذا الموقف عدة مرات في المناظرة (وهذه الحيدة تعد ضعفاً وهزيمة للمناظر).

أسباب المناظرة

وأما أسباب المناظرة وبدايتها فقد عرضها الكناني في أول الجزء الأول من كتابه، فقد سمع وهو في مكة بهذه القضية ورهبة الناس منها، وما لحقهم من العنت من فرضها عليهم، فشد الرحال إلى بغداد وأخفى أمره حتى أظهره على ملأ من الناس يوم الجمعة بعد الصلاة في المسجد الجامع، وبحضور عمرو بن مسعدة (وزير المأمون) فلما سلم الإمام وقف ونادى ابنه الذي كان معه: يا بني ما تقول في القرآن؟ فقال: كلام الله غير مخلوق، فهرب الناس من المسجد خوفاً على أنفسهم، وهجم عليه رجال عمرو بن مسعدة، وأخذه هذا إلى الخليفة وهناك أعلن الكناني عن رغبته في مناظرة بشر.

تحديد الأصول:

وقبل أن تبدأ المناظرة طلب عبد العزيز من أمير المؤمنين تحديد الأصول التي يرجع إليها (فكل متناظرين على غير أصل يكون بينهما يرجعان إليه إذا اختلفا.. كالسائر على غير طريق..) وتم الاتفاق على تحديد الأصول بالقرآن والسنة، وبنص التنزيل لمن يجحد، وبالتأويل لمن يقر بالتنزيل.

وبعد أن انقطع بشر عن الجواب اعتماداً على هذه الأصول، طلب أن تدور المناظرة على أصل آخر، وهو النظر والقياس لا على التنزيل، وقبل عبد العزيز أيضاً من إفحام بشر، فشغب بشر وجماعته على عبد العزيز، وحاولوا إغراء المأمون به، ولولا قدرته ومهارته في الدفاع عن نفسه، وثناؤه على فهم المأمون وعلمه وفصاحته وعروبته لنالوا منه، ولكن الله عصمه منهم.

وقد كان الكناني لبقاً في مناظرته، فقد طلب أن يكون المأمون حكماً عدلاً بينهما (وهو يعلم أن رأيه من رأي بشر) ليخرجه من الكلام الشديد الذي يوجهه إليهم.

مجريات المناظرة

بعد أن اتفقا على تأصيل أصل التنزيل، اتفقا كذلك على أن يسأل بشر ويجيب عبد العزيز، فسأل بشر: هل تقول إن القرآن شيء أم غير شيء؟ فإن قلت إنه شيء فقد أقررت بأنه مخلوق بنص التنزيل (الله خالق كل شيء) وإن قلت: إنه ليس بشيء فقد كفرت (لأنك تزعم أنه حجة الله على خلقه، وأن حجة الله ليست بشيء).

فقال عبد العزيز: ما رأيت أعجب منك تسألني وتجيب نفسك عني وتكفرني، ولم تسمع قولي، فإن كنت سألت لأجيبك فاسمع مني.

فقال المأمون: صدق عبد العزيز، اسمع منه جوابه ثم رد عليه بما تشاء.

فقال عبد العزيز: إن كنت تريد أنه شيء إثباتاً للوجود ونفياً للعدم فنعم هو شيء، وإن كنت تريد أن الشيء اسم له وأنه كالأشياء فلا، والله تعالى لم يسم القرآن والوحي باسم (الشيء) بل سماه نوراً وفرقاناً وهدى و...

فقال بشر: إنك أقررت بأن القرآن شيء وادعيت بأنه ليس كالأشياء فلتأت بنص التنزيل أنه ليس كالأشياء وإلا فقد ثبتت عليك الحجة بخلق القرآن لأن أصل التنزيل أن (الله خالق كل شيء).

فقال عبد العزيز: إن الله تعالى فرق بين الشيء وبين قوله، فقال: "إنما قولنا لشيءٍ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) فهذا فصل بين الشيء المخلوق وبين قول الله تعالى.

وعاد بشر إلى القول: فليكن ذلك عندك كيف تشاء، ونص التنزيل أن الله خالق كل شيء، وهذه اللفظة (كل) لم تدع شيئاً إلا أدخلته في الخلق.

فقال عبد العزيز: قال الله تعالى عن الريح التي أرسلها على عاد "تدمر كل شيء بأمر ربها" فهل أبقت الريح يا بشر شيئاً؟

فقال: لا لم تبق شيئاً إلا دمرته.

فقال عبد العزيز: لقد كذبك نص التنزيل "فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم" فمساكنهم أشياء باقية، وقال الله عن ملكة سبأ "وأوتيت من كل شيءٍ" وليس فيما أوتيته ملك سليمان، فبهت بشر، وبدت على وجه الخليفة علامات التأثر.

وقال عبد العزيز: إنني الآن سأسلك يا بشر، واستعرض عدة آيات عن علم الله ثم سأله: أتقر يا بشر أن لله علماً كما أخبرنا بنص التنزيل؟

فقال بشر: معنى علمه أنه لا يجهل، فقال عبد العزيز: يا أمير المؤمنينن حاد بشر عن جوابي، فأنا لم أسأله عن معنى علم الله.

وتدخل المأمون فقال: إذا قال بشر إن لله علماً وأقر بذلك، فماذا يكون؟

فأجاب عبد العزيز: أسأله عندئذٍ هل يدخل علم الله في الأشياء التي يحتج بشر على أن الله خلقها، فإن قال نعم فقد كفر وإن قال لا فقد رجع عن قوله بخلق القرآن بالحجة السابقة.
فقال المأمون: قد ظهرت حجتك على بشر، وارجع إلى أصل المسألة، فقال عبد العزيز، أخبرنا الله تعالى أن له نفساً إذ قال (واصطنعتك لنفسي).. أفتقر يا بشر أن لله نفساً؟ فأقر بشر بذلك، فقال عبد العزيز: يقول الله تعالى: (كل نفسٍ ذائقة الموت) فهل تدخل نفس رب العالمين في هذه النفوس التي تذوق الموت؟

فصاح المأمون: معاذ الله، فقال عبد العزيز: إذن معاذ الله أن يكون كلام الله داخلاً في الأشياء المخلوقة؟

وهنا قال بشر: أنت رجل متعنت تجاب على مسألتك فتطلب غيرها، وليس عندي جواب غير هذا. وانقطع.

حجة أخرى

إلا أن بشراً قال: لم أنقطع، وإنما عندي حجة أخرتها ليكون انقضاء المجلس عليها وسفك دمك بها، وهي قول الله تعالى (إنا جعلناه قرآناً عربياً) وليس في الخلق أحد يشك في أن معنى جعلناه خلقناه، فكل العرب والعجم لا يجدون فرقاً بين جعل وخلق، فالله تعالى يقول: "الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور" ولا يخالف في ذلك أحد من الفرس والعرب.

فقال عبد العزيز: أنا من العرب وأخالفك والعرب جميعاً يخالفونك في هذا. فهل تفرد الله بخلق القرآن أم شاركه فيه أحد؟

قال بشرك بل تفرد الله بخلقه.

فرد عبد العزيز: فماذا تقول فيمن يقول إن بعض ولد آدم خلقوا القرآن من دون الله؟

فقال بشر: من قال ذلك فهو كافر حلال الدم.

فقال: وأنا أقول ذلك. وبشر هذا قد كفر نفسه بلسانه عندما يفسر جعل بمعنى خلق في قول الله تعالى "الذين جعلوا القرآن عضين" وفي قوله "ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" وفي قوله ...

فقال المأمون: حسبك يا عبد العزيز، قد أقر بشر على نفسه بالكفر وأشهدتني على ذلك، ولكن بشراً قال ما قال وهو لا يعقل، وكلامه يلزمه ولا يلزم غيره، ممن لا يقر بمثل ما أقر به، ولكن يا عبد العزيز، ما الفرق بين الجعل والخلق؟ فتحدث الكناني عن أن فعل جعل ورد في القرآن بأحد معنيين: خلق وصير، والفرق بينهما أن جعل الذي بمعنى خلق لا يحتاج إلى وصل، والذي بمعنى صير يحتاج إلى وصل، (يشير بذلك حسب فهمنا النحوي إلى أن جعل بمعنى خلق يتعدى إلى مفعول واحد، وجعل بمعنى صير يتعدى إلى مفعولين) مثل قوله تعالى (وجعل الظلمات) بمعنى خلق فهو من المفصل، وقوله (إنا جعلناك خليفة) بمعنى صيرناك فهو من الموصل (أن يوصل مفعوله الأول بمفعوله الثاني).

وبعد أن طال المجلس سأل المأمون بشراً: هل عندك شيء تناظر فيه عبد العزيز؟ فقال: إنه يقول بالتنزيل وأنا أقول بالنظر والقياس، فليدع مطالبتي بالتنزيل، وليناظرني بغيره. وقبل عبد العزيز أن يناظره بالنظر والقياس، واتفقا على أن يبدأ عبد العزيز بالسؤال، فسأله مسألة واستطاع عبد العزيز أن يفحم بشراً، ويجعله يحيد وينقطع عن الكلام. فقال المأمون: يا عبد العزيز دع بشراً فقد انقطع عن الكلام، واشرح لنا هذه المسألة.. فشرحها عبد العزيز.

وهكذا انتهى المجلس بإقرار المأمون بانقطاع بشر عن الكلام، ولما امتحن العلماء وأوذوا سلم منهم عبد العزيز الكناني. وبعدما رفعت عنهم المحنة في عهد المتوكل ومن بعده صارت مناظرة الكناني لبشر في عهد الخليفة القادر بالله داخلة في كتب الوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.