شروط النهضة

محمد سيد بركة

[email protected]

لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم  ؟!..سؤال مطروح منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي ومازال يؤرق المفكرين المسلمين حتى الآن ونحن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين الميلادي .. 

لقد ظل العالم العربي خارج التاريخ دهراً طويلاً كأن لم يكن له هدف ، فاستسلم المريض للمرض ، وفقد شعوره بالألم حتى كأن المرض صار يؤلف جزءاً من كيانه . وقبل ميلاد القرن العشرين سمع من يذكره بمرضه ، ومن يحدثه عن العناية الإلهية التي استقرت على وسادته، فلم يلبث أن خرج من سباته العميق ولديه الشعور بالألم . وبهذه الصحوة الخافتة تبدأ بالنسبة للعالم الإسلامي والعربي حقبة تاريخية جديدة يطلق عليها النهضة .

وخلال هذه السنوات الطويلة قدمت دراسات وأبحاث تتصل بموضوع النهضة هذه الدراسات تعالج الاستعمار والجهل هنا ، والفقر والبؤس هناك ، وانعدام التنظيم واختلال الاقتصاد أو السياسة في مناسبة أخرى ، ولكن ليس فيها تحليل منهجي للمرض ، أعني دراسة مرضية للمجتمع العربي ، دراسة لا تدع مجالاً للظن حول المرض الذي يتألم منه منذ قرون . نجد أن كل مصلح قد وصف الوضع الراهن تبعاً لرأيه أو مزاجه أو مهنته . فرأى رجل سياسي كجمال الدين الأفغاني أن المشكلة سياسية تحل بوسائل سياسية ، بينما قد رأى عالم دين كالشيخ محمد عبده أن المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ ...الخ ... على حين أن كل هذا التشخيص لا يتناول في الحقيقة المرض بل يتحدث عن أعراضه .

وقد نتج عن هذا أنهم منذ مائة عام لا يعالجون المرض ، وإنما يعالجون الأعراض ، وكانت النتيجة قريبة من تلك التي يحصل عليها طبيب يواجه حالة مريض بالسل ، فلا يهتم بمكافحة الجراثيم ، وإنما يهتم بهيجان الحمى عند المريض .والمريض نفسه يريد - ومنذ مائة عام -  أن يبرأ من آلام كثيرة : من الاستعمار ونتائجه ، من الأمية بأشكالها ، من الفقر رغم غنى البلاد بالمادة الأولية ، من الظلم والقهر والاستعباد ، من ومن ، ومن ، وهو لا يعرف حقيقة مرضه ولم يحاول أن يعرفه ، بل كل ما في الأمر أنه شعر بالألم ، ولا يزال الألم يشتد ، فجرى نحو الصيدلية ، يأخذ من آلاف الزجاجات ليواجه آلاف الآلام .

وقد صدرت في الدوحة بقطر طبعة جديدة لكتاب شروط النهضة لمالك بن نبي وقدم لهذه الطبعة المفكر رضوان السيد ولقد صدر الكتاب أولا بالفرنسية في 1948م ثم بالعربية في 1957 م وترجمه للعربية عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين وتوالت طبعاته وتعد هذه الطبعة الأحدث فقد كانت هدية مع مجلة الدوحة العدد 49 الصادر في شهر نوفمبر 2011 .

الحاضر والتاريخ

في البداية وفي  أول عنصر وهو دور الأبطال استحضرمالك بن نبي  مفهوم البطل في الإلياذة والأوديسة  الذي يقاتل ويصارع حتى الموت لدوافع دينية وإنسانية بحتة دون إحراز النصر، مؤكدا أن محاربة الاستعمار في العالم العربي والإسلامي كان شبيها بقتال الأبطال الإغريق، أي أنه قتال محكوم مسبقاً بالهزيمة، وأعطى مثالا عن محاربين جسورين هما الأمير عبد القادر والمجاهد عبد الكريم الخطابي مؤكدا أن حركتهما التحررية لم تعالج جذور المشكلة، وأن جمال الدين الأفغاني هو من انتصر بالفكرة، قائلا في هذا الصدد: إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته،ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلة ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية،وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبنى الحضارات أو تهدمها. كما تطرق إلي دور السياسة والفكر وتحدث عن أثر الكلمة وما تنتج عنه من فوائد للفرد والمجتمع. ومما ورد فيه إن تكوين الحضارة كظاهرة اجتماعية إنما يكون في الظروف والشروط التي ولدت فيها الحضارة الأولى.

وفي دور الوثنية ركز على الزوايا والأضرحة التي تعج بهما البلاد والي الدراويش الذين يصدقون تلك الخرافات وصورة الوثنية الجديدة متخذتا الطابع السياسي والأصنام المزوقة بأسماء جديدة ،ومن أقواله في هذا الصدد غير نفسك تغير تاريخك ، وتميز منهجه بالمنطق الصارم والتأمل العميق والقدرة على التحليل.

ويرى أننا بدل أن نبني حضارة، قمنا فقط بتكديس منتجاتها، لم تكن النهضة الإسلامية بناء، بل تكديس المواد، فيمكننا القول إذن: إن عمر نهضة العالم الإسلامي قارب القرن من الزمن ولم تصل لهدفها، مثل مجتمعات انطلقت من نفس النقطة، إن ذلك ليس بسبب الوسائل، بل بسبب الأفكار. وما أكثر الأشعار التي نظمناها للتغني بنهضتنا، بدل السعي الحثيث مثل اليابان الذي حقق نجاحات باهرة … نعم لقد نجحت اليابان حيث لم يستطع العالم الإسلامي تحقيق أي فوز يذكر على التخلف؛ لأنه أراد النهوض بعالم الأشياء بدل النهوض بعالم الأشخاص و الأفكار.

المستقبل

يرى مالك بن نبي  أن المقياس العام في عملية الحضارة هو: أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها.كما عرض العلاج من خلال معادلة هي:

ناتج حضاري =إنسان + تراب + زمن، بالإضافة إلى الدين.

وتعود مشكلة النهضة بالنسبة لمالك إلى ثلاث مشكلات أولية : مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت،لابد من حلها لإقامة نهضة .

ثم تحدث بعدها عن الدورة الخالدة، فالحضارة عنده تمر بثلاث مراحل هي: مرحلة الإقلاع، ثم مرحلة البنيان والتمدين، ثم مرحلة الهبوط من هذا السقف ألتمديني وصولا إلى الانحطاط الحضاري، كما بين معنى العدة الخالدة بأنها الوقت – الزمن-  وساعة العمل.

وخصص بعد ذلك فصلا للحديث عن أثر الفكرة الدينية في تكوين الحضارة من خلال تتبع فلسفي وتاريخي لهذه النقطة، فأكبر نقص في الفكر الماركسي برأي بن نبي هو تجاهله لهذه النقطة، واهتمامه بالماديات، فالدين هو المروض الأقوى للروح. وهو الدافع الأقوى في كل نهوض لكل الحضارات.

ويبدأ بعد كل هذا في تفصيل مشكلة الإنسان واستبيان ما يعانيه صاحب العقل في حياته، ووجهه عبر ثلاث مناحي الثقافة والعمل ورأس المال .

 بدا بتوجيه الثقافة وفرق بينها وبين العلم كما أنه عرفها بأنها مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه، فهي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته ولتوجيهها لابد من توجيه أخلاقي وجمالي. ويحتاج الإنسان لتوجيه العمل ليغير من وضعه ويضمن قوت يومه ولا يقضي وقته في البطالة. كما يحتاج لتوجيه رأس المال وفرق هنا بين الثروة ورأس المال المتحرك قائلا: "فالثروة تلقب بلقب صاحبها، أما رأس المال فانه منفصل اسما عن صاحبه، ويصبح قوة مالية مجردة، وهذا شيء معروف عند الاقتصاديين.

كما تطرق لمشكلة المرأة و التطرف في الجانبين من اختزال للمرأة في الفراش أو مطالبتها بالعمل لكسب عيشها كالرجل، والإغفال عن تخطيط حياتها لتكون حاضرة في المجتمع، ويتحدث عن مشكلة الزى ومدى أهميته لصاحبه، وأنه يتغير بتغير المجتمع وتطوره فالياباني العامل استبدل الكيمونو بالبذلة الزرقاء وقت العمل.

في العنصر الثاني التراب مؤكدا على قيمته الاجتماعية، فحينما تكون قيمة الأمة مرتفعة، وحضارتها متقدمة، يكون التراب غالي القيمة، وحيث تكون الأمة متخلفة يكون التراب على قدرها من الانحطاط. كما تحدث عن التفريط في هذه الأرض بكل ما فيها، وركز على الحفاظ عليها فهي عماد الحضارة.

بدأ العنصر الثالث الوقت بمقولة أخاذة تحوي الكثير من المعاني: الزمن نهر قديم يعبر العالم منذ الأزل !

 إن الوقت هو جوهر الحياة الذي لا يقدر بثمن فيقول: وحينما لا يكون الوقت من أجل الإثراء أو تحصيل النعم الفانية، أي حينما يكون ضرورياً للمحافظة على البقاء، أو لتحقيق الخلود والانتصار على الأخطار، يسمع الناس فجأة صوت الساعات الهاربة، ويدركون قيمتها التي لا تعوض..

وفي الأخير أنهى مالك بن نبي كتابه الثمين شروط النهضة بالحديث عن الاستعمار والشعوب التي تقبع تحت ظلمته ، مؤكدا أن الخطر ليس من المستعمر بقدر ما يعود الخطر للعقلية التي تتكيف معه أي القابلية للاستعمار كما قال: لكيلا نكون مستعمرين يجب أن نتخلص من القابلية للاستعمار..

ويختم بمشكلة التكيف الذي يحصل من كثير من الشعوب التي تتكيف مع الاستعمار، فيكون البحث هنا وهناك عن حلول ليست حقيقية وإنما هي أوهام الرجل الوحيد والحل الوحيد وننسى المشكلة الرئيسية التي هي مشكلة الحضارة أولا وقبل كل شيء.

المؤلف وآثاره الفكرية

مالك بن نبي (1905- 1973م) من أعلام الفكر الإسلامي الذين أدى حجب فكرهم عن الناس إلى عدم اهتمام الدارسين بهم، فقد أمضى أكثر من ثلاثين عامًا متأملاُ يحلِّل ويضع شروط النهضة للمجتمع الإسلامي. وُلد مالك بن نبي عام 1905 في قسنطينة شرق الجزائر، وكانت مراحل دراسته الابتدائية والثانوية بين مدينتيْ (تِبِسّة) و(قسنطينة). سافر عام 1925 إلى مرسيليا وليون وباريس؛ بحثًا عن عمل ولكن دون جدوى، فعاد إلى الجزائر حيث عمل في تِبسَّة مساعد كاتب في المحكمة، وأتاح له عمله هذا الاحتكاك بمختلف شرائح المجتمع أيام الاستعمار؛ مما ساعده على تفسير ظواهر مختلفة فيما بعد.

وفي عام 1928 تعرَّف مالك بن نبي على الشيخ عبد الحميد بن باديس (1887- 1940م)، وعرف قيمته الإصلاحية، ثم سافر مرة ثانية إلى فرنسا عام 1930؛ حيث سعى للدخول إلى معهد الدراسات الشرقية، ولكنه لم ينجح في الدخول، وسُمح له بدخول معهد اللاسلكي وتخرَّج فيه مهندسًا كهربائيًّا.

بقي في باريس من عام 1939 إلى 1956، ثم ذهب إلى القاهرة للمشاركة في الثورة الجزائرية من هناك. انتقل إلى الجزائر عام 1963 ـ بعد الاستقلال ـ حيث عُيِّن مديرًا للتعليم العالي، ولكنه استقال من منصبه عام 1967، وانقطع للعمل الفكري وتنظيم ندوات فكرية كان يحضرها الطلبة من مختلف المشارب كانت النواة لملتقى الفكر الإسلامي، الذي يُعقد كل عام في الجزائر، وظل مالك بن نبي يُنير الطريق أمام العالم الإسلامي بفكره إلى أن تُوفي في 31 أكتوبر عام 1973.

أما آثاره الفكرية، فيمكن القول: إنه لم يكُفَّ عن التأليف من سنة 1946، حيث ألَّف أول كتاب له وهو (الظاهرة القرآنية)، وتلاه برواية (لبَّيك) 1947، وهي رواية فلسفية، ثم (شروط النهضة) 1948، (وجهة العالم الإسلامي)، (الفكرة الأفروآسيوية) 1956، (مشكلة الثقافة) 1959، (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) 1960، وهو أول كتاب كتبه مالك بن نبي بالعربية مباشرة بخلاف معظم كتبه التي ألَّفها بالفرنسية. وفي عام 1960 كتب أيضًا كتابه (فكرة كومنولث إسلامي)، (ميلاد مجتمع) 1962، (إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي) 1969، (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي)، (مذكرات شاهد القرن) 1970، (المسلم في عالم الاقتصاد)، ونُشر له بعد وفاته كتب (دور المسلم ورسالته في القرن العشرين) 1977، (بين الرشاد والتيه) 1978،و(مجالس تفكير)  ولمالك بن نبي آثار فكرية لم تطبع، وهي في صورة مخطوطات مثل: (دولة مجتمع إسلامي)، (العلاقات الاجتماعية وأثر الدين فيها)، وغيرها..

العنوان: شروط النهضة

المؤلف: مالك بن نبي

الطبعة: طبعة جديدة – نوفمبر 2011 م

عدد الصفحات: 216 صفحة من القطع الصغير

الناشر: مجلة الدوحة –كتاب الدوحة (6 ) - قطر