سورية مزرعة الأسد 10
سورية مزرعة الأسد
الفصل العاشر
بعد محنة (1982م)
د. عبد الله الدهامشة
عجز السوريون في كل مرة عن التنسيق بين المدن
منذ أن بدأ الصدام بين الإسلاميين والسلطة البعثية، كانت السلطة تنفرد بالمدن السورية واحدة واحدة، ففي عام (1964م) ذهب وفد من أهالي حماة منهم رياض العظم يرحمه الله، إلى دمشق وحمص ودير الزور وحلب،ولم يتمكنوا من إثارة أي من هذه المدن، سوى مجموعة من الإخوان في حمص يقودها الأستاذ (...)، اعتصمت في مسجد خالد بن الوليد رضي الله عنه، حتى دخلت الدبابة إلى صحن المسجد واعتقل الإخوة كلهم.
وفي عام (1965م) حدث صدام بين مجموعة الدكتور محمد أمين المصري والسلطة في الجامع الأموي، وكذلك دخلت الدبابات إلى صحن الجامع الأموي واعتقلت الإخوة وأرهبت المصلين.
وفي عام (1973م) كانت أحداث الدستور في حماة مع مشاركة صغيرة من حمص فقط، وفي الحركة الجهادية في الأعوام (1979،1980،1981، 1982) كانت المعركة تشتد في حلب، وتهدأ في حماة، ثم تشتد في جسر الشغور، وتهدأ في حماة وحلب، لعجز الطليعة عن تكوين قيادة مركزية بعد استشهاد الدكتور عبد الستار الزعيم يرحمه الله، كانت المعارك قوية جداً في حلب خلال (1979م)، وضعيفة في حماة، وقوية في حماة خلال (1980م)، بعد أن ضعفت في حلب، وهكذا.
وأخير وقعت المجزرة الكبرى في مأساة حماة، وحركت السلطة خمسة وعشرين ألفاً من سرايا الدفاع والوحدات الخاصة لقتل الحمويين، ولو قامت انتفاضة في حلب أو دمشق في نفس الوقت لكانت كفيلة بتشتت قوات السلطة وانهيار معنويات أزلامها، وزيادة احتمال التمرد في الجيش، ولكن بقيت حماة قرابة عشرين يوماً، وبقيت المعارك الشرسة حتى آخر يوم في المعركة، ولم تقم انتفاضة في حلب أو دمشق.
تخلخل الصف الإخواني بعد مأساة حماة
كانت مأساة حماة امتحاناً قاسياً جداً فرض على جماعة الإخوان المسلمين، كشف هذا الامتحان أن الجماعة ضعيفة عسكرياً وسياسياً وإعلامياً، وأن الجماعة مازالت لا تجيد غير الدعوة فقط، ولا تتقن العمل السياسي والإعلامي والعسكري.
صعدت السلطة بعد مأساة حماة من مساعي التفاوض مع الإخوان، حتى نما في صفوف الجماعة رأي يرى أن التفاوض هوالحل الأخير الذي يحفظ أرواح من بقي من شباب الجماعة، بينما نما رأي آخر معاكس له يرى أن متابعة العمل العسكري المسلح هو الحل الوحيد.
وقد جرت جولة من المفاوضات في الأسبوع الثاني من كانون الأول (1984م)، مثل الإخوان فيها الدكتور حسن هويدي يرحمه الله؛ واثنان من قيادة الإخوان، كما مثل السلطة العقيد هشام بختيار ومصطفى خليل وعلي دوبا وكلهم من ضباط المخابرات الكبار، تمت المفاوضات في ألمانيا، ونقل لي أحد المشاركين فيها أن السلطة كانت تهدف إلى زعزعة الصف الإخواني، ونثر بذور الشك بينهم، وعندما قدم وفد الإخوان مطالبهم التي تتلخص في انتخابات نيابية حرة، والسماح للحركة الإسلامية بالعمل السياسي، وإطلاق سراح جميع المعتقلين، وعودة المهاجرين إلى عملهم وجامعاتهم(1).، لم يستطع وفد السلطة أن يسمع هذه المطالب حتى النهاية، وإنما انسحب من المفاوضات وسافر إلى دمشق دون إعلام الطرف الإخواني.
التحالف الوطني للشعب السوري
في صيف (1979م )، قال لي أحد الضباط الكبار من أقاربي في دمشق، وكان واثقاً مما يقول: هل صحيح أن الإخوان تحالفوا مع صدام حسين؟ فأجبت على الفور: يستحيل، ما الفرق بين صدام وحافظ؟ قال: يبدو أنك بعيد عن الساحة السورية، وكان واثقاً مما يقول لذلك تابع القول: لقد سافر الشيخ سعيد حوى إلى بغداد، (وكان الشيخ سعيد مقيماً في عمان بعد خروجه من السجن عام (1977م )، والتقى نائب الرئيس العراقي السيد طه ياسين رمضان هناك. ولما سمعت اسم الشيخ سعيد يرحمه الله بدأ تفكيري يميل إلى التصديق لما أعرفه عن التفكير المرن والتكتيكي عند الشيخ سعيد يرحمه الله.
وفعلاً جرت لقاءات عديدة، بين الإخوان المسلمون وحزب البعث السوري المهاجر في العراق ويسمون القيادة القومية وفيهم ميشيل عفلق (مؤسس الحزب) ومحمد أمين الحافظ (رئيس مجلس الرئاسة السوري عند استلام البعثيين للحكم عام1963)، وشبلي العيسمي وحمود الشوفي وغيرهم، وفيهم عدد من الضباط العسكريين الفارين إلى العراق أو المسرحين في سوريا أو مازالوا غير مكشوفين في القوات المسلحة، وأسهم كذلك في هذه اللقاءات الاشتراكيون بزعامة أكرم الحوراني، والناصريون بزعامة محمد الجراح وجاسم علوان، وبعض الأفراد المستقلين من العلويين مثل الدكتور سليمان الأحمد الذي انضم للتحالف بعد قيامه(2)، وغيرهم.
ووصلت هذه المحادثات التي كان الإخوان المسلمون لحمتها وسداها(3) إلى الإعلان عن تشكيل التحالف الوطني للشعب السوري ويهدف إلى ( كما أعلن الإخوان ذلك في بيان لهم بتاريخ الحادي عشر من آذار 1982م ).
1 العمل الجاد والدؤوب لإسقاط النظام الحاكم في سوريا باعتماد كافة الوسائل السياسية والإعلامية والجماهيرية والعسكرية.
2 محاكمة كبار المسؤولين في هذا النظام عن جرائمهم التي ارتكبوها بحق الشعب والوطن.
3 إقامة حكومة مؤقتة تقوم فور سقوط النظام الحالي، وتعمل بأسرع ما يمكن لانتخاب مجلس تأسيسي يضع دستوراً للبلاد. وتعالج الأوضاع الاقتصادية المتدهورة وتنهي حالة السلب والنهب والرشاوى، وإنقاذ العمال والفلاحين والكادحين من عبث النظام في مكتسباتهم.
4 الإسلام دين الدولة والشريعة الإسلامية هي المصدر الأساس للتشريع.
5 ضمان الحريات العامة لجميع المواطنين، ومنها حرية الاعتقاد والتعبير والاجتماع وتشكيل الأحزاب السياسية.
6 إعادة بناء الجيش على أساس التمثيل الكامل لجميع فئات الشعب.
7 معالجة الأوضاع الاقتصادية المتدهورة وإنهاء حالة السلب والنهب والرشاوى.
8 إنقاذ العمال والفلاحين من عبث النظام في مكتسباتهم، والعمل على تعزيز هذه المكتسبات.
9 إعادة النظر في المناهج الدراسية وجميع مؤسسات الدولة لإنقاذها من حالة التردي الراهنة.
10 التعويض الكامل لذوي الشهداء والمتضررين.
11 الإيمان المطلق بتحرير فلسطين.
12 التضامن الكفاحي مع الثورة الفلسطينية.
13 النضال الجاد لإقامة الوحدة العربية
14 إقامة أوثق العلاقات مع الدول العربية الشقيقة.
15 إقامة أوثق العلاقات مع العالم الإسلامي شعوباً ومنظمات، لأن المسلمين سند قوي للعرب.
16 عدم التورط في الصراعات الدولية.
وقد اتخذت الطليعة هذا التحالف مناسبة للطعن في الإخوان والتشهير بهم، إلى حد تكفير كل من رضي بالتحالف، كما أعلن ذلك عدنان عقلة نفسه. وسعى عدنان عرعور إلى توريط الشيخ عبد العزيز بن باز في إصدار فتوى تحرم التحالف نشرتها الطليعة في بيان لها بتاريخ (14/ 1/1983م) كما نشرت فتوى للشيخ ناصرالدين الألباني والشيخ محمد قطب حول الموضوع ذاته، وكلاً منها لا تجيز هذا التحالف.
وقد أشاعت الطليعة ومن تعاطف معها من الإخوان حالة من البلبلة في الصف الإخواني، سببها الجهل في السياسة الإسلامية لدى قواعد الإخوان المسلمين، وعلى الرغم من نقد الصوفيين وبعض جماعات العلماء للإخوان المسلمين بأنهم يهتمون بالجانب السياسي كثيراً، فقد تبين جهل قواعد الإخوان المسلمين بالسياسة الإسلامية، عندما تعجب كثير من أفراد القاعدة ؛ تعجبوا من التحالف مع أحزاب قومية وعلمانية، مما حدا بالباحث الإسلامي الدكتور منير محمد الغضبان (المراقب العام الأسبق للإخوان المسلمين في سوريا)؛ إلى إصدار بحث مطبوع عن التحالف في الإسلام، وضح فيه جواز التحالف وبين أصوله في السنة النبوية، وبعد عشر سنوات صار تحالف الإخوان المسلمين في مصر أو السودان أو الجزائر أو تركيا مع أحزاب علمانية أمراً مألوفاً ومقبولاً عند الشباب المسلم.
وقد أعطى هذا التحالف الوطني للشعب السوري الإخوان المسلمين في سوريا بعداً وطنياً كبيراً، طالما حاولت الأحزاب القومية والعلمانية إبعادهم عنه ووصمهم بخدمة أغراض المستعمر، وهاهم اليوم يقودون الأحزاب العلمانية نفسها لتحرير سوريا من الطاغوت الأسدي الذي جثم على البلاد وأذل العباد. كما كانت هذه الأحزاب تصور الإخوان المسلمين بأنهم بعيدون عن الديموقراطية، وهاهم اليوم ينادون بتعدد الأحزاب بعد تحرير سوريا من الطاغوت.
انقسام جماعة الإخوان المسلمين
نما الصراع السياسي بين طرفي الإخوان، طرف يرى طريق التفاوض وطرف يرى طريق العمل العسكري، ودخلت فيه حزازات شخصية بين كبار القادة، وحزازات محلية أيضاً بين المدن السورية، وانتهى ذلك في (1986م) إلى انشطار جماعة الإخوان المسلمين السورية إلى جماعتين: الأولى: يقودها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والثانية: يقودها الأستاذ عدنان سعد الدين. وأسهم هذا التمزق بضعف الجماعة وقعود عدد كبير من خيرة أبنائها عن العمل السياسي، وهبوط مركز الجماعة في البلدان المضيفة كالسعودية والأردن والعراق، واستمر هذا الانقسام حتى عام (1992م) حيث تأكد كل فريق بأنه عاجز عن تنفيذ مخططه، فالسلطة لم تعد مهتمة بالتفاوض، ولم تقدم أي تنازلات للجماعة، كما أن العمل العسكري صار شبه مستحيل بعد حرب الخليج الثانية وهزيمة العراق ووقوف السلطة السورية إلى جانب التحالف الأمريكي. فعادت الجماعة إلى الوحدة وصارت تضمد جراحها وتعيد بناء صفها الذي تهدمت جوانب كثيرة منه.
مأساة الطليعة
سبق القول أن الطليعة انفصلت عن الإخوان بعد وفاق عام (1981م ) بسنة واحدة أو أقل من سنة، وصارت تهاجم الإخوان سياسياً وإعلامياً، وتصفهم بالجبن والتخلف، كما أعلن عدنان عقلة كفر كل من وافق على التحالف الوطني للشعب السوري من قادة الإخوان والجبهة الإسلامية (عمر عبد الحكيم، ص 129). وترى أن النزول إلى سوريا والعمل من قواعد سرية في الداخل هو العمل الصحيح المثمر. وصارت الطليعة تعد العدة للعودة إلى الداخل بعد مأساة حماة.
وفهمت السلطة ماتريده الطليعة، خاصة وأن اختراق الطليعة كان سهلاً جداً وقد اخترقتها المخابرات السورية إلى حد كبير كما سيتضح.
وصل إلى عمان(جاهد دندش) ولقب نفسه باسم أبوعبدالله الجسري، وقد التحق هذا الرجل بالطليعة بعد خروجه من سوريا مدعياً أنه أحد أفرادها السابقين في الداخل، وبقي سنتين في بيوت الطليعة في عمان، وبعد أن وجد فيه عدنان عقلة الرجل الذكي صار يعتمد عليه (عمر عبد الحكيم، ص 131 ). ولما حذره الإخوان منه أجاب بأن الإخوان يحسدونه على كل رجل مهم من رجاله، وينشرون عنه الشائعات، وتمكن الجسري من قلب عدنان عقلة، وعرف شغفه اللامحدود بالنزول إلى سوريا، فعرض عليه أن ينزل الجسري إلى الداخل لترتيب قواعد للطليعة في الجبل (في محافظة إدلب ومع حدود سوريا مع تركيا، وهي منطقة مثالية لحرب العصابات)، وتم ذلك، ثم عاد الجسري بمعلومات طار عدنان عقلة لها فرحاً كفرصة سانحة وتم ترتيب نزول أبي الخير نائب عدنان عقلة مع بعض مساعديه عن طريق تركيا، وهيأت المخابرات بعض عناصرها، في الجبل على أنهم من عناصر الطليعة، استقبلوا أبا الخير عند الحدود وسلموه (كلاشن بدون إبرة) وكذلك أعطوا مثلها لمرافقيه، ومشوا معهم حتى ابتعدوا عن الحدود ثم فاجأهم كمين للسلطة فتمكن من القبض عليهم بسهولة، وتحت التعذيب استسلم أبو الخير نفسياً وعقلياً للعدو، وتعاون مع المخابرات على إكمال تنفيذ المخطط، فأرسل رسائل بخط يده إلى عدنان عقلة، تحت إشراف المخابرات، ونزل عدنان كذلك وتتابع النزول حتى وصل عددهم إلى سبعون مجاهداً من الطليعة، كانت المخابرات تعتقلهم بصمت بعد بضعة كيلومترات من الحدود، وهكذا وقع عدنان عقلة ونائبه أبو الخير، وسبعين من مجاهديهم في الفخ، وتمكن سبعة من هؤلاء المقاومين من الفرار بعد اعتقالهم، ووصل ستة منهم إلى الأردن ليضعوا من تبقى من الطليعة في حقيقة الموقف ويمنعوهم من النزول.
وأدى هذا الاعتقال إلى اكتشاف جميع قواعد الطليعة في حلب والمنطقة الشرقية ودمشق، وقضي عليها، وآلت قيادة الطليعة إلى الأستاذ هاشم شعبان (أبو العلا مدرس رياضيات من دير الزور)، فعرضت عليه السلطة المفاوضات بواسطة المسؤول العسكري للطليعة في المنطقة الشرقية بعد أن سيطرت السلطة السورية على عقله وجندته لخدمتها واسمه أبو مروان (وأظنه عبد الحميد الصالح) فأخرجته من السجن وأرسلته إلى عمان سراً فاجتمع بأبي العلا وأبي النور، وأقنعهم بجدوى المفاوضات والصلح مقابل الإفراج عن المعتقلين، ودون استشارة مجلس شورى الطليعة ولا القيادة توجه أبو العلا وأبو النور وأبو حسين خضرو لمقابلة وفد من المخابرات السورية في ألمانيا، وبينما كانت المفاوضات مستمرة في ألمانيا أرسلت السلطة مفاوضين آخرين إلى عمان استدرجا من تبقى فيها من الطليعة إلى النزول فسحبوا البساط من تحت أبي العلا وزميليه، وجروهم إلى مفاوضات في قبرص ثم دمشق انتهت إلى أن تعفو السلطة عن كل عنصر من الطليعة يسلم نفسه لها ويتعاون معها، وهكذا استسلم من تبقى من الطليعة ونزل بضع وعشرون رجلاً، وبقي في عمان من الطليعة بضعة عشر رجلاً وقد آلت قيادتهم إلى عبد الستار عبود (أبو صالح) فأصدروا بياناً أدانوا فيه الصلح مع السلطة، بتاريخ 28/1/1985م (عمر عبد الحكيم، ص133). وهكذا انتهت الطليعة المقاتلة.
هوامش الفصل العاشر
(1) أعلن ذلك في بيان وزعه الإخوان جاء فيه تقدم وفدنا بالمطالب التالية للجماعة والشعب في أول لقاء بيننا جرى في الأسبوع الثاني من كانون الأول (1984م) : 1 إلغاء قانون الطوارئ والأحكام العرفية التي يرزح الشعب تحتها منذ أكثر من عشرين عاماً .2 تعليق الدستور الذي وضع ليخدم حافظ الأسد في استبداده، ريثما يوضع دستور جديد . 3 إعلان الحريات العامة وضمان حرية التعبير عن الرأي، والحقوق السياسية لجميع المواطنين. 4 - الدعوة إلى انتخابات حرة ونزيهة .5 تشكيل هيئة تأسيسية لوضع الدستور .6 اعتبار الجيش مؤسسة وطنية تمثل الشعب كله .
(2) وتمكنت المخابرات السورية من اغتياله بعد سنوات في أوربا.
(3) برر الإخوان لقواعدهم أسباب إقامة هذا التحالف بأن العالم كله وخاصة أمريكا لا ترضى بتسلم الإخوان المسلمون دفة الحكم، ولكن إقامة دولة وطنية يكون للإخوان المسلمين فيها ضلع أمر وارد دولياً، لذلك أراد الإخوان أن يكون التحالف الوطني غطاءً دولياً للمعارضة السورية . كما أرادوا ترتيب أوراقهم السياسية لمرحلة ما بعد الحسم العسكري والان.