سورية مزرعة الأسد 8

د. عبد الله الدهامشة

سورية مزرعة الأسد

الفصل الثامن

عودة إلى مأساة حماة (1)

د. عبد الله الدهامشة

حماة مدينة سورية تقع شمال العاصمة دمشق بنحو مائتي كيلاً، وشرق بانياس الساحل بسبعة وتسعين كيلاً، تشتهر بنواعيرها على نهرالعاصي، ويقترب سكانها من نصف مليون نسمة حالياً في التسعينيات الميلادية، جميعهم من المسلمين السنة، ماعدا حي للنصارى يسمى حي المدينة في وسطها، ويغلب على سكانها المحافظة على الإسلام وتقاليده، والمحافظة على العادات العربية الأصيلة لأن حماة سوق للبادية السورية حيث القبائل العربية، ويكثر تعامل أهالي حماة مع البدو حتى صارت حماة من أكبر أسواق البادية في سوريا. ويحيط بحماة ريف مكتظ بالسكان، يكثر فيه العلويون في المنطقة الغربية من المحافظة، والإسماعيليون في المنطقة الشرقية، وقد أسهم حجم المدينة الصغير (ربع مليون نسمة في الستينيات)، وعدم وجود غير المسلمين السنة فيها(2)، ووجود علماء أفاضل مثل الشيخ محمد الحامد يرحمه الله الذي نذر نفسه وعمره لتعليم أهالي حماة دينهم، أسهم هذا في طبع مدينة حماة بالطابع الإسلامي الذي ميزها عن غيرها من المدن التي هاجر إليها ألوف الأسر العلوية، هرباً من الفقر والقحط في الجبل، وشكلوا فيها أحياء كبيرة، واختلط الناس وعم الفساد والبعد عن العادات والمظاهر الإسلامية.

لهذاكله تعتبر مدينة حماة معقلاً من معاقل الحركة الإسلامية في سوريا، وقد ربت مئات الدعاة والقادة في الحركة الإسلامية منهم على سبيل المثال لا الحصر، الشيخ محمد الحامد يرحمه الله، والشيخ خالد الشقفة والشيخ محمود الشقفة، والشيخ سعيد حوى، والشيخ أديب الكيلاني، والشيخ محمد علي مراد، والشيخ عبد الله الحلاق، والأستاذ عدنان سعد الدين، والشيخ الشهيد مروان حديد، والدكتور عبد الستار الزعيم، وهشام جنباظ، وعمر جواد، وعمر مرقة،... ومئات القادة الشباب الذين استشهدوا خلال الحركة الجهادية، وعشرات الأخوة القادة الذين مازالوا يقودون الحركة الإسلامية.

ومن أصدق الصورالمعبرة عن هوية المدينة أنه بعد عشر سنوات من حكم البعثيين أي في عام (1973م)، عندما أراد البعثيون تغيير الدستور وألغوا مايمت فيه إلى الإسلام ولو اسمياً، عندئذ خرجت مظاهرة عارمة يقودها طلاب المدارس الإعدادية   المتوسطة  (أي تربوا خلال حكم البعثيين)، وقامت هذه المظاهرة برفع شعارات إسلامية، كما رفعت شعارات العداء لحزب البعث،  وانحرفت المظاهرة عن مخططها كعادة الشارع الحموي، فأحرقت مكتب حزب البعثيين، وحطمت مقصف الغزالة والخمارات الموجودة في المدينة. وكانت هذه المظاهرة بداية المعركة بين حماة خاصة والحركة الإسلامية عامة من جهة والسلطة الأسدية من جهة ثانية.

يمر نهر العاصي في حماة ويقسمها إلى الحاضر وهو القسم الشرقي من المدينة، والسوق وهو غرب النهر، ويمتاز أهل الحاضر بأنهم أكثر شجاعة والتزاماً بالإسلام وتقاليده. والحاضر سوق لبادية الشام، حيث منتجات البادية من الحليب واللبن والجبن والسمن والصوف والماشية.

في حماة نشأ مروان حديد يرحمه الله كما أسلفنا، وفي حماة حصل أول اصطدام مع البعثيين عام (1964م)، وفي حماة ربى مروان حديد يرحمه الله الرعيل الأول من شباب الطليعة المقاتلة، وكان مخيمه الدائم عند دوار (الجاجية) يعج بالأشبال الذين رباهم مروان يرحمه الله على حب الجهاد والموت في سبيل الله عزوجل، الذين عرفوا فيما بعد باسم الطليعة المقاتلة، والذين جعلوا حافظ الأسد وشقيقه رفعت يفقدون صوابهم ويصلون إلى حافة الانهيار عام (1980م) قبل أن يطبقوا نصيحة المجرمين الروس، وينفذوا المجازر الجماعية بالمواطنين.

لذلك كله كان بعض العلويين ينتظرون الفرصة المواتية لتدمير مدينة حماة، وقد صدرت عدة تصريحات من مسؤولين كبار مثل رفعت أنهم سيدمرون المدينة ويحولونها إلى حديقة عامة ومراقص وحانات، والحقد يعتلج في صدورهم وصدور آبائهم منذ ما يزيد على مائة سنة. وقد نقل عن رفعت الأسد أنه يقول (سأجعل المؤرخين يكتبون أنه كان في سوريا مدينة اسمها حماة... وأنه سيبيد أهلها لتكون عبرة لغيرها من المدن السورية(3).

الجو العام قبل مأساة حماة

حصار السلطة لمدينة حماة

تروي مصادر الطليعة(4) أنه رأت السلطة أن الوقت مناسب لتوجيه الضربة الحاقدة التاريخية لمدينة حماة، خاصة وأنها تضم مئات المقاومين المسلحين، فضربت السلطة حصاراً يتكون من ثلاثة أحزمة من الجيش حول حماة، وبدأت بالتمشيط والاعتقالات والتعذيب لكشف التنظيم في حماة ومعرفة القواعد العسكرية.

عدنان عقلة يدخل حماة قبيل المأساة ويخرج منها

رغم الأحزمة الثلاثة التي أحاط الجيش بها مدينة حماة تمكن عدنان عقلة من الوصول إلى حماة، والطليعة منفصلة عن الإخوان،  ونزل عدنان بعد أن حصل على وعود عراقية بتقديم أسلحة له حتى الدبابات إذا تمكن من محاربة الأسد الذي زاد دعمه لإيران المحاربة للعراق يومذاك.

أطلع أبو بكر عدنان عقلة على أن السلطة تريد إخراج المقاومين من قواعدهم للصدام العلني مع الجيش، وأنه بسب الاعتقالات الجماعية والتعذيب الوحشي، تمكنت السلطة من كشف خطوطهم، وأنه لا يستبعد أن تكون قاعدته القيادية مكشوفة أيضاً، وأنه لا مفر من الصدام، فالدولة تعمد إلى نسف كل بيت يشكون فيه على رؤوس أصحابه، وأنه لو استمرت الحال فإن معظم القواعد وفيها مئات المقاومين ستدمر بدون ثمن(5).  ولذلك قرروا الصدام فجر يوم (25/1/1982م)، وأنه يأمل أن الصدام سيحرك ضمائر بعض الضباط في الجيش، فإن لم يكن فالموت العزيز في الشارع في الهواء الطلق؛ مع تكبيد السلطة أكبر قدر ممكن من الخسائر؛خير من الموت تحت الركام، ثم حمل عدنان رسالته الأخيرة إلى القيادة مع نداء مؤثر للمشاركة في المعركة بما وسعهم ونبذ خلافاتهم.

وعد عدنان أبابكر أن يخرج ليأتي بالطليعة كلها للمشاركة في الصدام، وأقنع أبابكر بتأجيل الصدام أسبوعاً ليتمكن من العودة، وخرج عدنان من حماة إلى العراق، ووصل في (24/1/1982م ) ونشر عدنان نص رسالة أبي بكر على قواعد الإخوان متجاوزاً القيادة بعد أن فشل في إقناعها للنزول إلى حماة، وانتقل عدنان مع مائة من شبابه إلى العراق، لكن لم يتمكن من الدخول إلى سوريا. وتدعي مصادر الطليعة أن الإخوان والعراق منعوه من ذلك.

مجرى أحداث المأساة في حماة

روى الإخوة المقاومون الذين كتبت لهم الحياة، وخرجوا من قبو بيت ليلاً بعد انتهاء المعارك، بعد أن شاركوا مع إخوانهم المقاومين في حماة تحت قيادة الأخ الشهيد أبي بكر يرحمه الله، ثم الأخ أبو عارف يرحمه الله، وكتب الله لهم البقاء فخرجوا من حماة، رووا ما يلي(6).

في يوم الثلاثاء(2/2 /1982م ) وفي الساعة الواحدة والثلث ليلاً قامت قوة عسكرية قوامها (500) عنصر من سرايا الدفاع بتطويق حي البارودية الشعبي، ووصلت عشرون سيارة اقتحام مصفحة، وتقول الطليعة أن أبابكر (أحمد جواد) التقط مكالمة لاسلكية عسكرية مفادها أن هذه القوات متجهة إلى قاعدته القيادية، وقامت السرايا بتفجير بعض البيوت التي يختبئ فيها المقاومون، عندها هب المقاومون من مختلف الجهات، وتمكنوا من تدمير هذه القوة، وهرب عناصر السلطة من حي البارودية. وبدأ المقاومون بضرب وحدات سرايا الدفاع المتمركزة في المدينة.

وفي الصباح وصلت الوحدات الخاصة من قرية (محردة)، وقامت السلطة بإنزال جوي شرق حماة، وحاول اللواء (47) الدخول بدبابات (ت 54) من شارع العلمين، لكنه أخفق وأعطبت كثيراً منها، ومضى اليوم الأول بإخفاق السلطة من دخول حي البارودية.

الأربعاء (3/2/1982م: اتضح أن السلطة تريد احتلال وتدمير الأحياء القديمة، فدافع المواطنون عنها ببسالة وصدوا قوات السلطة عنها.

وفي الخميس (4/2)  تبرز ظاهرتان الأولى زج اللواء (21) الميكانيكي بعد تدمير معظم آليات اللواء (47)، وشروع السلطة بالمجازر الجماعية، ونفذت هذا اليوم مجزرة جنوب الملعب البلدي وقتلت ألف وخمسمائة من المواطنين العزل، بعد أن أخرجتهم من بيوتهم وجمعتهم في الساحات، أو أخذت بعضهم إلى مقبرة سريحين لقتلهم هناك، أو قتلت بعضهم أمام أفراد أسرته عند باب بيته، ثم قتلوا بقية أفراد الأسرة. مع أن هذا الحي لا علاقة له بالمقاومين، ولاتوجد فيه قواعد أبد اً، ولم يفكر المقاومون في ذلك، حيث أن هذا الحي حديث ولا يمكن الاستفادة منه عسكرياً كالأحياء القديمة(7)، ومما قتلتهم السلطة ضابط حموي كان في إجازة (وهو الرائد أحمد عبد الحميد عزيّز) وهو بعثي ابن بعثي، ووالده من قيادات العمال،كما قتل بعثيون أظهروا بطاقاتهم الحزبية ولم تنجيهم من القتل. وفي هذا اليوم استشهد الأخ (عمر جواد) أبو بكر يرحمه الله، عندما أصيب من جراء قذيفة دبابة يرحمه الله، فخلفه الأخ أبو عارف.

في يوم الجمعة (5 شباط) اقتحمت السلطة بعض الأحياء الشعبية، وشرعت بالتدمير الشامل لبيوتها بالقصف والتفجير على ما فيها ومن فيها من المواطنين الأبرياء. ومازالت تميل الكفة عسكرياً لصالح المواطنين المقاومين.

في السبت (6 شباط ) قامت السلطة بثلاثة إنزالات جوية على أطراف المدينة، وعلى القلعة وأبيد قسم كبير من هؤلاء الجنود، إلا أن نقص الذخائر لدى المقاومين بدأ يظهر منذ اليوم. وبادرت السلطة إلى تقليل كمية ذخيرة ال (آر. ب. جي)، مع عناصرها كي لا يغنمها المقاومون، وفي هذا اليوم ارتكبت السلطة مجزرة حي سوق الشجرة وقتل فيها ما يزيد على مائة وعشرين مواطناً. ومازالت السلطة تعجز عن دخول الأحياء القديمة، وتكرر المحاولة كل يوم، لكن المقاومين يصدونها بعد تكبيدها خسائر فادحة بالعتاد والرجال. كما ارتكبت السلطة اليوم مجزرة دكان الحلبية وقتلت فيه قرابة مائة مواطن وأحرقتهم أحياء في مستودع الحبوب. كما ارتكبت السلطة اليوم مجزرة حي البياض، وقتلت خمسين شخصاً وألقيت جثثهم في حوض مخلفات معمل البلاط أمام مسجد الشيخ محمد الحامد.

في الأحد (7 شباط) ظهر تشبث المقاومين بالأحياء القديمة، بعد أن تمكنت السلطة من السيطرة على الأحياء الجديدة، واستمرت سياسة المجازر، ونهب البيوت والمحلات التجارية، وطور المقاومون قتالهم باختراع متفجرات ضد الدروع، وزرع الألغام.

الاثنين (8 شباط): في هذا اليوم سقطت منطقة السوق، عدا بعض الجيوب، واستمرت الظواهر السابقة ونفذت السلطة حوالي عشر مجازر، وقتل عدد كبير من الحزبيين والعسكريين وعملاء السلطة على أيدي قوات السلطة نفسها لأنهم حمويون(8)، وتوسع الجنود بعمليات النهب والسلب، والقتل من أجل النهب والسلب. وأحبطت ثلاث محاولات لدخول الحميدية، أما المجازر فهي مجزرة حي الدباغة، ومجزرة سوق الطويل، ومجزرة دكان عبد الرزاق الريس، ومجزرة دكان عبد المعين مفتاح، ومجزرة منشرة آل البدر، ومجزرة حي الباشورة(9)، ومجزرة آل موسى، ومجزرة آل الصمصام، ومجزرة عائلة الكيلاني. واستمرت المعركة، والمقاومون يدافعون عن الحاضر.

في الأربعاء (17 شباط ) انقطع الاتصال بين مجاهدي الكيلانية، ومجاهدي البارودية، وبدأت السلطة بالغارات الليلية.

في يوم الأحد (22 شباط) باتت المنطقة التي يدافع عنها المقاومون لا تتعدى عشرين منزلاً، محاطة بالدبابات من كل جانب، ولم يبق لدى المقاومين سوى البندقية.

في يوم الثلاثاء (23شباط) تنطوي ملاحم البطولة الشعبية، بانتهاء آخر دفاع للمقاومين عن حي البارودية، وفيه المعارك الأخيرة في البارودية، والمقاومون في قبو بيت العروانة، واستشهد (أبوعارف) وهو قائد المقاومين بعد استشهاد أبي بكر يرحمهما الله، وتمركز بقية المقاومين في قبو بيت العرواني، وعجزت السلطة عن دخوله، فهالوا التراب بالجرافات على مدخل القبو، بعد أن ألقوا فيه عدة قنابل وقذائف (آر. بي. جي)، وآلاف الطلقات عن بعد، ودخل التراب في بنادق المقاومين، وكان الوقت عصراً وظل المقاومون حتى الثامنة مساء، حيث فتحوا ثغرة في التراب وانسحبوا وهم ثمانية.

وبعد انتهاء المقاومة قامت السلطة في اليوم التالي بتفجير عدد كبير من المساجد وهدمها، واعتقلت حوالي (1500) مواطن معظمهم من العلماء ومدرسي التربية الإسلامية وموظفي الأوقاف ومعهم مفتي حماة الشيخ بشير مراد. ومازال مصيرهم مجهولاً، إلا أنه يغلب على الظن أنهم قتلوا ودفنوا في مقبرة جماعية بالقرب من قرية براق.

وفي يوم الأحد (28 شباط) طوقت السلطة قرية طيبة الإمام بإنزال جوي، واعتقلت تسعة مواطنين منها، منهم القاضي محمد أحمد قناص يرحمه الله.

القوات المشاركة في مأساة حماة:

اللواء (47) دبابات، واللواء (21) ميكانيكي، والفوج (41) إنزال جوي، واللواء (138) من سرايا الدفاع، واللواء (142) دبابات من سرايا الدفاع، والفرقة الانتحارية (22) من سرايا الدفاع، والفوج (114) مدفعية ميدان، وهكذا تكون مجمل الأسلحة       

1 248 دبابة من طراز ت 62، وت 72.

2 108 مدفع ميدان عيار (130) ملم ومداه (25) كلم.

3  48  مدفع هاون عيار (160 ملم).

4 248 قاعدة إطلاق صواريخ.

5  استخدمت الحوامات المزودة بصواريخ مضادة للدروع (جو  أرض).

6 استخدمت وحدات راجمات الصواريخ الكورية الملحقة بسرايا الدفاع بكثافة وفعالية.

7 حوالي (25000) جندي.

وتصل نسبة العلويين في اللواء (47) إلى (30) بالمائة من الجنود، و(70) بالمائة من الضباط، وفي اللواء (21) (80 ) بالمائة من العلويين والباقي من البعثيين، أما الوحدات الخاصة فالجنود العلويون (45) بالمائة، أما الضباط فهم (95 ) بالمائة، أما سرايا الدفاع فمجموع نسبة الجنود مع الضباط العلويين تصل إلى (90) بالمائة.

وعلى الرغم من أن الانتفاضة الشعبية التي قام بها أهالي حماة لم تكن مخططة، وإنما كانت دفاعاً عن النفس(10)،  ورغم التكتيكات المرتجلة والبسيطة، ورغم أسلحة المقاومين الخفيفة التي لا تكافئ أسلحة السلطة، بالرغم من ذلك كله فإن قوات السلطة ما كانت لتجتاح حماة لولا النقص المريع لدى المقاومين في الذخيرة، والذي عجز المقاومون داخل حماة عن تعويضه واستكماله في الوقت المناسب، كما عجز المقاومون عن إيصال الذخيرة لميدان المعركة وقد حاولوا  بسبب الحصار المحكم على المدينة، وقد أدركت السلطة ذلك فأنقصت ذخيرة عناصرها اليومية إلى النصف، وخاصة قذائف (آر. بي. جي) كي لا تقع بأيدي المقاومين.

سياسة المجازر في حماة

المجازر الجماعية هي الأسلوب الذي ابتدعه المجرم ستالين في تصفية المسلمين السوفييت، وقتل منهم عدة ملايين، وعند السلطة الأسدية التي أخذت بنصيحة الخبراء الروس كان القتل هو الأساس، الذي بنت عليه السلطة استراتيجيتها في معالجة موضوع حماة، ومما يلفت النظر أن أوامر القتل تأتي أحياناً محددة عددياً، من قبل السلطات العليا، فيأتي الأمر بأن يكون القتلى اليوم سبعة آلاف، وفي يوم آخر يجب أن تزيد إلى عشرة آلاف، أما الاعتقال فهو وسيلة مساعدة للهدف الاستراتيجي وهو القتل، وقد اعترض العقيد العلوي يحيى زيدان قائد المخابرات العسكرية على القتل لأنه يحرم المخابرات العسكرية من خيوط التحقيق، وقد رفع احتجاجه هذا إلى حافظ الأسد، الذي تحدث مع المقدم علي ديب في هذا الموضوع، فقال المقدم ديب سيدي المعتقلات لا تتسع أين أضعهم؟ مع أننا لم نترك مدرسة أو معملاً إلا استخدمناه فأين أضعهم؟ فقرر حافظ الأسد أن يقتلوا الثلث من رجال الحي ويعتقلوا الثلثين للتحقيق، مع التقيد بالعدد المحدد يومياً للقتل، فالسياسة العليا ترمي إلى تصفية شعب حماة في أسرع وقت ممكن، لقطع الطريق على انفجارات جديدة في القطر، وإعادة القطعات العسكرية إلى لبنان، للحاجة لها هناك، والخوف من انكشاف أمر المرتزقة العلويين الأتراك وهم حوالي (600) عنصر، اشتركوا في تدمير حماة، فالوقت لا يسمح بالمزيد من التحقيقات. وكان من الأوامر التي صدرت من حافظ الأسد في نهاية الصراع المسلح مع المقاومين، رفع عدد القتلى إلى رقم محدد، حدده بنفسه، مساء يوم الخميس (25/2/ 1982م)، وفي صبيحة الجمعة قامت القوات بحملة اعتقالات واسعة، وسيقت مجموعة للقتل فيها (1500) مواطن، بينهم مفتي حماة ورئيس جمعية العلماء وعدد من العلماء، وقيل أنهم دفنوا في منطقة قرية (براق) أو على طريق محردة في حفرة جماعية. (المرجع كتاب حماة مأساة العصر).

وهكذا وصل عدد المواطنين الذين قتلتهم السلطة إلى قرابة أربعين ألفاً، واعتقل قرابة ستين ألفاً بقي كثير منهم طوال خمسة عشر عاماً في المعتقلات.

من بطولات أهل حماة:

من المعروف لدى الحمويين والباحثين أن الوحدة الأولى من سرايا الدفاع أو الوحدات الخاصة التي شنت الهجوم الأول على البارودية حيث قيادة المقاومين دمرت (ومصطلح دمرت العسكري يعني قتل بعضها وجرح بعض آخر وهرب الباقون، كما تعطلت معظم آلياتها)، وكذلك الإنزال المظلي على القلعة، وكذلك أول هجوم للواء (47) من شارع العلمين، وغيره كثير...ولكن جرت العادة أن الهزيمة تغطي البطولات التي كانت قبلها... وهذه بعض الأمثلة وليست للحصر:

1- في منطقة الكيلانية المحاصرة حاولت دبابة الدخول إلى الحي، فخرج إليها أحد المقاومين ببندقيته فاستشهد فوراً، ولكنه أخاف الغزاة فلم يجرؤ أحد منهم على اقتحام الحي بدبابته مخافة مثل هذه العملية الاستشهادية.

2- وفي منطقة الطوافرة طاردت إحدى الدبابات أحد المقاومين وبيده بندقية، فتصدى لها مجاهد غيره، وأطلق النار من رشاشه، وشاء الله أن تصيب رشة مدفع الدبابة فأعطبته.

3- وتسلّق طفل في الشرقية على دبابة، وبيده سكين، وقبل أن يتمكن                                                                          من طعن أحد عناصرها بسكينه هاجمته عناصر أخرى واعتقلته، ولما قدموه إلى الضابط سأله الضابط، وقد رآه طفلاً: كم عمرك؟

- 12 سنة. -  لماذا تفعل هذا؟

- أجاب الطفل برباطة جأش: لأنكم قتلتم أبي ودمرتم بلدي.

4-  كما حاول أحد الأشبال التسلق على دبابة، وأمسك بمسكات الصعود ليقذف بالرمانة اليدوية داخل البرج، وحاول أحد العناصر منعه من ذلك، فحرك برج الدبابة لكن الشبل كان مصمماً على فعله، وتمكن من قذف القنبلة داخل البرج وقتل من فيه.

5- وثمة مجاهد شاب عمره (18) سنة بترت ساقه في أثناء المعارك، ولكنه أصر على متابعة القتال بساق واحدة، وتمكن من قتل قائد كان يشرف على حركة الدبابات في حي الشرقي، كما أصر على عدم الانسحاب، وأخيراً استشهد وهو يدافع عن بيت الجرحى، بعد أن أردى عدداً من العناصر المهاجمة.

ومن هذه البطولات التي قام بها أطفال دون الثانية عشرة من أعمارهم:

6- أن طفلاً في حي الزئبقي طلب من أمه أن تلبسه ثياباً جديدة لأنه يريد أن يلقى بها ربه، وامتثلت أمه لطلبه، ثم ودعها وانضم إلى المقاومين يخدمهم ويقاتل معهم إلى أن استشهد.

7- ومن هؤلاء الأطفال كان هناك طفل في الثانية عشرة من العمر يقوم بعمليات القنص من فوق إحدى البنايات، وانتبه اليه أحد الضباط فأمر عناصره بالصعود إلى ذلك القناص وقتله، وعندما رآه العناصر طفلاً احتالوا عليه إلى أن تمكنوا منه واستاقوه إلى الضابط. أعجب الضابط بهذا الغلام وسأله: كم عنصراً قتلت؟ قال الشبل بقوة وبرباطة جأش: كثير. وفيما الضابط يحاوره والعناصر ينظرون إليه يريدون تمزيقه، باغت أحدهم وأخذ منه بندقيته، فقتل عدداً منهم، ثم ارتفعت روحه إلى عليين.

8- وفي حي الحاضر جرح جندي وسقطت بندقيته إلى جانبه، فهجم عليه طفل في الحادية عشرة من عمره وهو يحمل لبنة يخيفه بها حتى وصل إلى البندقية، فأخذها وساق العنصر الجريح أمامه، وسلمه لمجموعة من المقاومين كانوا يرفضون تسليح هذا الشبل لصغر سنه، ولكنهم الآن فرحوا به، وتركوا له بندقيته.

9- وأدخل شبل في الثالثة عشرة من العمر إلى مستشفى المقاومين، وكانت إحدى يديه مسلوخة الجلد، وراح الطبيب يجري له العملية اللازمة، والشاب الصغير يبتسم ويهتف "الله أكبر"، وكان يحمل بيده الأخرى رمانة يدوية حاول المقاومون والطبيب عبثاً انتزاعها منه، فألحوا على معرفة اسمه، فامتنع، ثم خرج يقاتل، ولما يتماثل للشفاء. كان ذلك في اليوم الخامس لاجتياح حماة.

10- وكان عدد من الأطفال يساعدون المقاومين في تعبئة زجاجات مولوتوف، وفي قذفها على الدبابات المهاجمة، حصل هذا في أكثر من حي، وخاصة في شارع 8 آذار.

11-  ومن النساء امرأة مؤمنة كانت تؤوي ثلاثة من المقاومين الجرحى في بيتها تداوي جراحهم، وتبث الحمية في قلوبهم، وترفع من معنوياتهم كما فعلت بكثيرين قبلهم وبعدهم. وفيما هي كذلك، إذا دورية تداهم البيت، فما كان منها إلا أن تناولت السلاح الذي كان بجانبها، وأطلقت النار على الدورية المؤلفة من ثلاثة عناصر فأردتهم قتلى، ثم جلست متأهبة متربصة بآخرين.

12- عناصر السلطة الباغية دخلت البيت على امرأة تحمل طفلها، وأرادوا انتزاعه منها ليقتلوه، فما كان منها إلا أن حملت يد (الهاون) النحاسي ونزلت به على جمجمة أحدهم  فحطمتها. فعاجلها (أبطال) أسد برشات أودت بحياتها وحياة طفلها.

13- وفي البارودية امرأة مؤمنة حملت الطعام للمراكز الأمامية للمقاومين، وسألتهم عن بيت الجرحى، فأظهر المقاومون الاستعداد لحمل هذا الطعام، وأصروا عليها، فأبت وقالت: لا. إلا بيدي. وحذروها من أن تنالها رصاصات العدو. فقالت: حياتي ليست أغلى من حياتكم، والله لن يوصله أحد غيري. فأوصلته وأطعمت الجرحى بيديها.

14- وفي حي العصيدة دخل مسلحون بيت امرأة فظنتهم من المقاومين ورحبت بهم قائلة: أهلا وسهلاً بالمقاومين، الشعب كله معكم. الله ينصركم. فما كان من أزلام السلطة إلا رميها بالرصاص.

15- وإحدى النساء كانت زائرة في حي الشرقية شاهدت تراجع المقاومين (على الرغم من أنه كان تراجعاً منظماً لاستدراج قوات السلطة)، فقالت: (ياحيف) الشباب بتهرب. وأخذت بندقية وبدأت تكبر وتطلق بها على الدبابة المتجهة نحوها، فأثارت نخوة الخائفين فاندفعوا إلى المعركة.

16- في حي باب الجسر دخلت مجموعة من العناصر أحد الأقبية لجأت إليه 25 امرأة من شدة القصف المدفعي والصاروخي، وأراد عناصر البغي سبي فتاة منهن، فقامت النسوة قومة واحدة يصرخن ويولولن فبهت العناصر لهذا الموقف الجريء،  ووقفوا جامدين  فقالت لهم إحدى النساء: خذوا ما تشاؤون ودعوا هذه الفتاة. وأخذت صنائع أسد كل ما معهن من ذهب قدر بعشرة كيلوغرامات، وخرجوا وهم متأكدون أن واحدة منهن لم تخف شيئاً من ذهبها مخافة تفتيشها.

17- وفي حي السوق، تدفقت عناصر أسد تريد تمشيطه وإهانة ناسه، فهبت امرأة مؤمنة تنادي بصوت عال: أين أهل النخوة والشهامة؟ فأنهضت بندائها هذا همم الشباب الذين هبوا للذود عن النساء والشيوخ والأطفال، وكانت معركة، سقط فيها من الجانبين الكثير.

18- وفي حي الشمالية اعتقل الجيش اثنتين من النساء استاقهما ضابط طائفي، فحميت أنوف أهل الحي وتكفل المقاومون باستخلاصهما. فتسلل أربعة منهم عبر ثغرات محفورة في الجدران، وفاجؤوه بإطلاق النار عليه، وخلصوا الفتاتين الطاهرتين، واستشهد منهم واحد واعتقل آخر وهو جريح، ثم أجهزوا عليه رمياً بالرصاص.

19- في منطقة الباشورة قتلت عناصر السلطة المجرمة رب البيت من آل السواس، ثم أراد الآثمون الاعتداء على شرف زوجته الطاهرة، فقاومتهم مقاومة الأبطال. فما كان من الجبناء إلا أن يصبوا المازوت فوقها وفي أرجاء غرفتها ويشعلوا النيران فيها، فاحترقت وذهبت إلى بارئها أطهر من ماء السماء.

20- وعندما حاولوا الاعتداء على امرأة أخرى قاومتهم واستبسلت في مقاومتهم، ولما يئسوا من تسليمها طعنوها بحرابهم حتى ماتت.

21- في المستشفى الوطني كان ضابط يتحدث مع أحد العاملين في المستشفى عن المرأة الجريحة المشرفة على الموت أمامه فيقول: انظر إلى هذه المرأة العجوز التي يغطيها الشيب، أنها كانت تقدم القنابل والرصاص إلى هذا الشيخ الخرف، زوجها المتمدد جانبها وهو مثخن بجراحه، وكان العجوز يرمينا بها.

22- وعندما أراد أحد المقاومين توصيل شيخ عجوز، يعبر به شارع سعيد بن العاص، رفض العجوز حماية المقاوم، وأخرج مسدساً من جيبه، وقال: أنا العجوز أستطيع تأديب هؤلاء بمسدسي هذا، وقطع الشارع بمفرده.

23- ولن ينسى الناس خطبة الشيخ زهير في الجماهير الحموية. وما كان فيها من جرأة نادرة تحدى فيها زبانية أسد. كما لن ينسى الناس رد الشيخ أحمد على الضابط الطائفي الذي أمر العلماء بإدارة وجوههم إلى الوراء ليرميهم بالرصاص. أجاب الشيخ أحمد: نحن العلماء ما اعتدنا أن ندير ظهورنا للرصاص. نحن نتلقاه بصدورنا.

 24- الشهيد راغب في حي السوق، اعتقلته عناصر أسد وساقوه إلى الموت رافع اليدين. فانقض على أحد العناصر وخطف منه بندقيته، وقتل أربعة من عناصر السلطة، ثم خر شهيداً برصاص الآخرين، وفعل مثله المجاهد أبو إبراهيم في حي السوق وأبو بهجت في حي الحاضر.

25- وحصل اشتباك بين أربعة من المقاومين وبين أعداد كبيرة من عناصر السلطة داخل أحد الخانات الضخمة، ثم حوصر المقاومون بأعداد كثيفة، وقاتلوا حتى نفدت ذخائرهم واستشهدوا. وهناك شاب في السابعة عشرة من عمره كان مختبئاً مع مجموعة كبيرة من الشيوخ والنساء والأطفال في أحد المخابئ في حي الوادي، وإذا بعناصر السلطة الباغية تداهم ذلك الملجأ، وتقتل من تراهم فيه، فانقض الشاب عليهم واستخلص منهم بندقية ثم اشتبك معهم ليشغلهم عن أهله لعلهم يهربون من وجوه السفاحين، وقتل منهم مقتلة عظيمة ثم استشهد.

26- وفي معتقل البورسلان وقف ضابط طائفي وشتم الرسول عليه السلام وسبّ الله تعالى والإسلام و.. و.. فاستأذنه المواطن عبدالجبار من حي الحاضر في الكلام فأذن له. فتقدم منه عبد الجبار حتى إذا ما صار على مقربة منه لكمه لكمة قوية بجمع يديه على صدغه فأرداه قتيلاً. وكان عبد الجبار ذا جسم قوي، فما كان من صنائع أسد إلا أن يوجهوا إليه نيران رشاشتهم فسقط قتيلاً.

27- والمجاهد أبو الفداء من حي السوق، وهو شاب حدث لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، اشتبك مع عناصر السلطة في حي الكيلانية، وأصيب بشظية في كتفه الأيمن فبترت يده اليمنى، ومع ذلك أبى إلا أن يستمر في القتال بيده اليسرى، واستشهد تحت أنقاض حي الكيلانية الذي دمره قصف أسد.

28- أحد الضباط وبّخ أحد عناصره وهو يصفع أحد المقاومين الأسرى ويشتمه وقال له: إن هذا المجاهد الذي تهينه كان يهجم بالبندقية على الدبابات.

29- وعندما اشتد القصف على الكيلانية بشكل مكثف ودقيق في اليوم السابع عشر. قال أحد الجنود لسيده: يا سيدي ماذا نفعل؟ ماذا أقصف؟ لم يعد هناك بناء، إنهم يقاوموننا من بين الأنقاض (11).

                

هوامش الفصل الثامن

(1) سبق الحديث عن مجزرة حماة الكبرى كما وردت في تقرير منظمة العفو الدولية، وهنا أتحدث عنها حسب رواية بضعة إخوة كتب الله لهم النجاة، ووصلوا بغداد، ومن أقوالهم نشر الإخوان كتاب حماة مأساة العصر...

(2) أما النصارى الحمويون فكانت نساؤهم يرتدين الثياب الساترة تمشياً مع عادات المسلمين حتى الخمسينيات.

(3) انظر: كتاب حماة مأساة العصر، من منشورات التحالف الوطني لتحرير سوريا، ص 42.

(4) عمر عبد الحكيم، الثورة الجهادية في سوريا، آلام وآمال، ص 28 .

(5)  وهذا دليل آخر على أن السلطة  وليس الإخوان  هي المسؤولة عن مسلسل الدم الذي غمر سوريا عامة وحماة خاصة، فهؤلاء المقاومين حصرتهم السلطة وأحكمت عليهم الحصار، ولم يبق أمامهم إلا الموت، فقرروا أن يموتوا في ميدان المعركة وليس تحت الركام.

(6) وهذا ما اعتمده الإخوان في كتاب حماة مأساة العصر بدء من الصفحة (49) تحت عنوان يوميات المجزرة.

(7) أما التفسير العسكري لهذه الهمجية فهو أن احتلال هذا الحي سهل جداً، ولا يكلف السلطة أية خسائر لأنه مسالم، وستخاف بقية الأحياء عندما تسمع ما حل به من القتل الجماعي، وهذا مبدأ عنترة (اضرب الضعيف يخاف القوي).

(8) وهذا دليل على الحقد التاريخي عند العلويين على الحمويين، فكل حموي  حتى لو كان بعثياً عدو لهم يجب قتله.

(9) قتل في هذه المجزرة أسرة كاملة من آل الدباغ وعددها عشرة أفراد ومعهم الأم والأب، ولم ينج منها سوى (هبة الدباغ) لأنها كانت معتقلة في دمشق، وشقيقها صفوان كان في عمان.

(10) وقد سمعوا بمجزرة جنوب الملعب البلدي، وهو حي مسالم للسلطة، فعرفوا أن السلطة تريد قتل الحمويين لأنهم حمويون لذلك هبوا للدفاع عن أنفسهم . وهكذا أدت مجزرة جنوب الملعب عكس ما أراد الأسديون، أرادوا أن يخاف الحمويون فيستسلموا للقتل كالنعاج والدجاج، ولكن الحمويين استأسدوا عندما عرفوا أن السلطة تريد قتلهم على أية حال لذلك ظهرت منهم مقاومة عجيبة ....

(11) حماة مأساة العصر/289-296، بتصرف.