على ضفاف الكتابة والحياة
كتب .. كتب .. كتب :
أربع وخمسون
عكاب سالم الطاهر :
حسين سرمك حسن
ضمن منشورات مكتبة الدار العربية للعلوم / ناشرون ، صدر كتاب بعنوان "على ضفاف الكتابة والحياة .. الإعتراف يأتي متأخرا" للكاتب المعروف الأستاذ "عكاب سالم الطاهر" .
ويأتي الكتاب (391 صفحة من القطع الكبير) علامة صحّة على صحوة لدى الكتاب الصحفيين العراقيين للقيام بكتابة وتوثيق جوانب من مسيراتهم الحياتية الشخصية والمهنية الطويلة والحافلة بالوقائع والمتغيرات وبعضها عاصف وشديد الدلالات . سبق هذا الكتاب كتاب آخر لكاتب صحفي عراقي معروف كتبت عنه ايضاً هو : "50 عاماً في الصحافة – ذكريات صحفي في أربعة عقود" للأستاذ "زيد الحلّي" الذي صدر بدمشق عام 2012 عن دار أمل الجديدة .
ويجب علينا أن نتفق على أن كتابة السيرة أو الذكريات ليست أمراً يسيراً ، فالطاهر – مثلا – يراه أمرا صعبا للغاية لأن (ص 13 و14) الماضي – أولا - فيه السلبي الذي قد لا تتوفر الشجاعة الكافية لكتابته كما هو ، كما أن الذاكرة – ثانيا – وبعد عوامل تعرية السنون تكون قد تعرّضت بعض مواطنها للضمور والتآكل خصوصا ونحن لم نترب ، منذ طفولتنا ، على كتابة اليوميات والإحتفاظ بسجل للذكريات .. وعلى الرغم من ذلك فقد خطا الطاهر الخطوة الجسور الأولى التي فتحت له الأبواب . وهناك عامل خاص مُرّ الطعم تعرّض له الطاهر ، وحفزه على كتابة اعترافاته ، ولم يتعرّض له من سبقه في كتابة السيرة ، وهو الإحساس بالإقتراب من المحطّة الأخيرة التي سوف يستقبلنا فيها المُثكل . يقول الطاهر :
(أخذتُ أشعر أن قطار العمر ، يمضي نحو المآل النهائي (وهو مآل حتمي : شئنا أم ابينا) ، ولم نبق سوى محطات قليلة ، ليصل المحطة الأخيرة . حتى الآن ، قضمت من سنوات عمري (72) عاماً ، وأخشى أن يفاجئني (الزائر الأخير) بزيارة يصحبني فيها إلى حيث يريد ، وإلى حيث لا أريد . لذلك عليّ الإسراع بتدوين سيرتي قبل تلك الزيارة المحتومة والمقرّرة) (ص 11 و12) .
وبالمناسبة فإن القلق الواعي من الموت ، هو واحد من أهم اسباب نضج الشخصية ، ومن مهاميز الإبداع الإنساني ، والطاهر يؤكّد ذلك "سريرياً " حين يكرّر في أكثر من مناسبة عبارة أعجبته – على حد تعبير الأستاذ زيد الحلي – هي :
(يكتب لأنه يكره الأوراق البيض .. لأنها تذكره بأكفان الموتى) (ص 325) .
وارتباطاً بأسلوب الطاهر المؤثر في المقبوس الأخير عن الزائر الأخير أقول إنّ الطاهر قد صاغ ذكرياته بأسلوب مؤثر ذي مسحة شعريّة منضبطة سخّرها لأغراض عملية ، وليس لأهداف التخييل والرومانسية بالرغم من أهميتها . يقول الظاهر :
(تلك بعض سمات هذه الرحلة ؛ كانت رحلة ، أتصورها مثيرة ، تداخلت فيها الأحلام في الأوهام . انتصر الحلم على الوهم حيناً ، لكن الأوهام تفوّقت في أحيان كثيرة ، وبأسى كبير اقول : إن طائرة الأحلام بقيت تحوم ، بحثا عن مطار تهبط فيه ، وأتعبها الحوم والإنتظار حيث رفضت جميع المطارات إعطاءها أذناً بالهبوط ، مطار واحد استقبلها هو : مطار الخيبة ... وكانت الحصيلة اعترافاً جاء متأخراً) (ص 15)
وهذا التعبير عن الإنجراح المؤلم ترافقه ، على امتداد صفحات الكتاب ، صراحة في طرح الإعترافات وما تتضمنه أحياناً من حقائق مؤلمة ترتبط بالذات . ومن يقف هذا الموقف لابدّ أن يكون ممن يضعون الإعتبارات الأخلاقية في مقدّمة الشروط التي تحكم استدعاء الذكريات وتقديم الحوادث الماضية ، لهذا نجده لا يتعرض للأشخاص الذين آذوه في تجارب ومواقف كثيرة . على سبيل المثال يتحدّث عن الأمر الرئاسي الذي كاد يحطم سفينة آماله بالكامل :
(لا أريد الإتيان على اسباب صدور هذا القرار ، لأنني – إن فعلت ذلك – ساضغط على (جراح) أريدها أن تندمل . ثم أن أطرافاً عديدة ، كانت على صلة مباشرة بالقرار قد رحلت إلى دنيا الآخرة) (ص 204) .
تتصل بذلك روح من الإنصاف حتى مع من واجههم في مراحل من عمله الصحفي الذي تضمن الكثير الإنعطافات (راجع – مثلاً - فقرة : بين مطرقة عبد المجيد لطفي وسندان الطبقة الجديدة – ص 199 و200) .
وسمة الإنصاف هذه هي جزء من حالة أو سمة عامة حيث نجد "التوازن" في ذكريات الطاهر منذ طفولته الباكرة حيث جاءت "واقعية" بعيدة عن الإنتفاخات النرجسية والمزاعم التي يصعب التأكد منها في أحوال كثيرة . ففي كل هذه الذكريات "قرّب" الطاهر شهوده حسب الحكمة الشعبية الباهرة ، وكانت ذكرياته متسقة لا يخالف بعضها البعض الآخر بين موضع وآخر .
يبرز في ذكريات الطفولة موقف الوفاء للرعيل التربوي الأوّل الذي ساهم في بناء شخصيته وفكره وسلوكه . هذا الموقف احتل صفحات طويلة تضمنت التعريف بمعلّميه ومربّيه الأوائل وعرض سماتهم الأساسية التي أثّرت فيه وتعلّم من دروسها وعبرها ، والأدوار الإيجابية التي قاموا بها لترصين إرادته وتعزيز مسيرته .
وتبقى سمة الدقّة التاريخية والمصداقية في سرد الوقائع موطن قوّة لهذه الذكريات التي يمكن أن تكون مصدراً لتوثيق وتدقيق وتصحيح الكثير من المعلومات عن الوقائع التاريخية العاصفة (المحلية والعربية) التي عاصرها الطاهر لأكثر من نصف قرن ، خصوصا أن الكثير منها جاء مدعما بالوثائق والشهادات والصور ، ويرتبط بعضها بسِيَر وسلوكيات شخصيات معروفة ثقافيا أو سياسيا أو اجتماعيا .. كما أن لهذه الوقائع والحوادث إيحاءاتها وانعكاساتها ودلالاتها السياسية والاجتماعية وبعضها مرتبط بالجانب النفسي المتعلق بسيكولوجية الفرد العراقي مواطنا بسيطا أوسياسيا أو مضطلعا بدور ثقافي (راجع على سبيل المثال المعلومات المتعلقة بالصحفي الأستاذ محمد حسنين هيكل والكاتب الراحل عزيز السيد جاسم وغيرهما ..) وبطبيعة الحال من حق الكتاب والقرّاء المعنيين التدقيق والتعليق ، ولهذا أؤكد على ضرورة أن يقوم الكتّاب العراقيون بشكل خاص بكتابة مذكراتهم وذكرياتهم واعترافاتهم التي ترتبط بتحوّلات تلك العهود المدوّخة ، وشهاداتهم على سلوك وذكريات زملائهم .
وبحسّه الصحفي قام الطاهر بتقسيم مادة كتابه إلى "فقرات" قصيرة ، وبعضها موجز ، الأمر الذي ييسّر على القارىء قراءتها ومتابعتها وتذكّرها ، بخلاف الفصول والأقسام الطويلة التي قد توصله إلى الملل . كما أن الأسلوب السردي القصصي الذي اتبعه الطاهر ضاعف من متعة القراءة .
ملاحظة للقارىء :
على الصفحة 197 من الكتاب يستعيد الطاهر ذكريات بعض وقائع مؤتمر صحفي في الهند ، والموقف المُحرج الذي وُضع فيه الصحفي العربي الأفريقي "الحاج ضيف" الذي سُرقت منه كلممة الوفود العربية واكتفى بالقول : إنني أشكر الأخوة (التراجمة) .. ويقصد المترجمين) (ص 197) .. ولمن لا يعلم فـ (التراجمة) كلمة فصيحة هي جمع الترجمان (المترجم) .
اعترافات أم ذكريات ؟! :
وتبقى ملاحظة هي أن وصف "الإعتراف" له معان معروفة ، لا أعتقد أنّها ترتبط بما قدمه الطاهر هنا في كتابه هذا إلّا بوشائج قليلة وضعيفة . فالإعتراف يتضمن قيام الشخص المعني بكشف مسائل وشؤون وأفعال شخصية تعمل الناس على إخفائها والتستر عليها .. وهذا المفهوم ينطبق على ذكريات قليلة جدا وردت في الكتاب ، ولذلك كان وصف محتويات الكتاب بوصف الذكريات أو المذكرات أكثر دقّة وملاءمة .