بلاغ ضد المواطنة الرقيقة
عبير الطنطاوي
طالعتنا منذ فترة وجيزة مجموعة قصصية للأديبة المبدعة فاطمة أديب الصالح حيث انضمت إلى قافلة الأديبات الإسلاميات المبدعات اللواتي أرجو المولى عز وجل أن يزيد عددهن كماً ونوعاً .
هذه المجموعة من القطع المتوسط بطبعة أنيقة مرتبة هي الطبعة الأولى من هذه المجموعة لعام 1428 هـ / 2007 م لشركة العبيكان للأبحاث والتطوير .
ابتدأت المجموعة بإهداء رقيق لأولادها الثلاثة (مارية وسيرين وعبد الله) ثم ابتدأت المجموعة بقصة مؤلمة لأم اعتقلت يومين تقريباً لا لذنب جنته وإنما لأنها زوجة سجين منذ سنوات ثمان .قصة رائعة عاطفة الأمومة ظهرت بشكل مؤثر جداً مست فيها شغاف قلب كل أم تشعر بأمومتها ولم تطحنها الحياة المادية والعمل خارج المنزل ومشاغل الحياة التافهة والهامة ؛ جعلتني أعيش حالة من الفزع وهي تصف شكل السجن والسجانين وأساليب التعذيب وطريقة التحقيق لدرجة جعلت القارئ يعيش جواً مكهرباً قلقاً وإن كانت قد ركزت على ذكر شخصية (جهاد) وهي شخصية غير معروفة ورد اسمها فقط دون أن نعرف سبب ورودها أو قصتها .وقد أثرت فيّ بعض العبارات الرقيقة مثل:(لا تشعر بالكره لأي من هؤلاء الصغار.. كيف ؟ كلهم في سن أخيها) (أهي لا تعرف عاطفة الكره .. لماذا ؟ كلهم تراهم بعين الأم .. وتلحظهم بعين الأم ؟ كيف ؟ ثمة خطأ ما .. لعله.. من طرف ما .. تلك القصة كان اسمها :(بلاغ ضد المواطنة الرقيقة) التي هي عنوان المجموعة .
ثم انتقلت إلى قصة أخرى بعنوان المشاهد لا تنتهي : قصة من عدة مشاهد تتحدث عن عسكري هجر حياته القديمة ليبدأ من جديد لكنه لن ينسى ذلك الماضي فاحتفظ بأوراقه وملابسه العسكرية بنتانة رائحتها دون أن يغسل تلك الملابس المنتنة كما احتفظ بكل شيء يخص تلك المرحلة من حياته في غرفة في داره ؛ لكنها ختمت القصة بحادثة موت حبيبته القديمة عند باب داره وكيف دفنها في غرفته مع ذكرياته وأنها كانت تقوم من قبرها ، لكن هنا القصة كانت تفتقر نوعاً ما إلى الوضوح في القصد والمعنى.
ودارت في نفس الموضوع وهو موضوع السجن وحالة أهالي المسجونين في قصة أخرى هي لم تأت إلينا : مع أنها قصة لم تتجاوز أربع صفحات إلا أنها استطاعت أن تجعل الدموع تنهمر حرى مني وأعتقدها كذلك تفعل في كل قارئ لها فهذا ولدها يسألها أين ينام فتقول الكاتبة شعراً وأبلغ في وصف حبها لابنها . وقد أبدعت في وصف الصمت والخوف فقالت : (على اللقمة نخاف فنصمت ، على المأوى نخاف فنصمت ، على الأنفاس أن يتوقف صعودها وهبوطها نخاف فنصمت ، أليس الصمت من ذهب ، وليس بعد الذهب من قيمة في هذه الدنيا). وقد تخيلت ككل مظلوم أمير المؤمنين يسأل عن سبب بكاءولدها الذي كان ينادي على والده المسجون وختمت قصتها الرقيقة بعبارة : (أخاف كثيراً أني أحزنت أمير المؤمنين).
ثم انتقلت إلى قصة حزينة محزنة وهي لا غربة بعد : قصة تصف وداع مجاهد الحياة على يد زوجته وحبه لوطنه ظاهر حتى آخر لحظة في حياته فقد عاش حياته يرفض بيتاً بلا وطن فهو الآن سعيد بأمتار قليلة في وطنه لا تزحزحه عنها صواريخ ولا مؤتمرات .
5 ـ أخبار طيبة :قصة تلمح فيها أمومتها التي لا يمكن أن تخفى عليك مدى رقتها وتلمح فيها حب الزوجة المخلصة لزوجها السجين منذ سنوات ثمان . وأمل أهالي المساجين في معرفة أية أخبار عن ذويهم المسجونين عن طريق أي سجين خرج من سجنه وكان بطل القصة سجيناً أفرج عنه ولكنه قبل سنتين كان مع زوجها في نفس السجن فطمأنها عليه حالها كحال آلاف غيرها .
ثم انتقلت برشاقة إلى قصة مؤثرة ورقيقة وهي جدتنا دائماً : تلك الجدة الودودة التقية الرحيمة رحمها الله قد ورد ذكرها في قصة رائعة لأخي الكاتبة (الدكتور محمد إقبال الصالح) فأبدع في وصف الجدة ورقتها حتى أني عشقتها وترحمت عليها كثيراً وهنا نجد الأديبة الرقيقة فاطمة تعود لتذكرها في أسلوب أنثوي وأمومي رائع فتان أذرفت الدموع عليها وعلى زماننا الذي فقدت فيه الأمهات والجدات أنوثتهن وحنانهن حتى باتت الأم والجدة عبارة عن جلاد وسجان لا أكثر. تلك الجدة التي تزوجت بنت الأربع عشرة ربيعاً ودفنت ثلاثة أولاد (صبيين وبنتاً) لها وهي بنت السبعة عشر ربيعاً ثم أنجبت والد الأديبة الأستاذ الكبير والأديب المبدع (أديب الصالح) ومن بعد ولادته بستة أشهر فقدت والده الجميل القسيم . وردت عبارات مؤثرة لا يمكن العبور عنها دون ذكرها حيث اختارت الجدة وهي لم تبلغ العشرين بعد أن تعيش لوحيدها وكانت تقول عن الأرملة التي تتزوج : (كيف يأتي من قلبها أن تلف العريس ووحيدها في غرفة أخرى؟) وتعبير آخر عن مراحل العمر: (الطفولة بسذاجتها ، والمراهقة برفضها ، والفتوة بعنفوانها .. كلها لا تريد أن تفهم. هكذا ولّت أجمل السنوات دون أن ندري أنها الأجمل) .. وتطل علينا أمومة أديبتنا مختلطة بأمومة جدتها التقية (رحمها الله) : يقبرني دعاؤها المتكرر أن نقبرها .. في تعبير عارم عن المحبة .. أن يموت المحِب أولاً .. ألا يعاني فقد الحبيب .. ولقد عانت جدتنا كثيراً أن تدفن من أحبت .. وذكرت لنا بعضاً من أدعية الجدة مثل : يارب من قامتي لحفرتي ، أسألك حسن الختام والوفاة على الإيمان ، لا تثقل بي أرض ولا تكره بي عبد ..رحم الله الجدة ورضي عن الحفيدة .
وعادت إلى تجربة السجون العنيفة والقاسية والتي تركت أكبر الأثر في حياتها ومشاعرها خاصة وهي الأديبة الرقيقة الناعمة حيث جاءت قصة عرض في حزيران : قصة عن عنف السجون السورية في تدمر ومعاناة قاسية تدمي القلب وهي تصف لنا حال أحد المسجونين منذ تسعة عشر عاما .
ثم انتقلت إلى موضوع آخر عن المغتربين في أمريكا وغيرها وذكرت قصة فتاة اسمها سوزي وهي فتاة فلسطينية أمريكية مدرسة عاشت عمرها في أمريكا وقبل وفاتها بأسبوعين كانت تسأل عن الموت والآخرة وكتبت وصيتها أنها تتمنى أن تدفن في الأقصى وفجأة قتلت بحادث سيارة . قصة من الواقع لا أكثر هذا صحيح لكنها تشير إلى عمق فلسطين وأقصاها في نفوس الفلسطينيين مهما شتَّ بهم الاغتراب؛ كان اسم هذه القصة سوزي تكتب وصيتها .
ثم عادت الأديبة إلى موضوع السجن ومعاناته في قصة الزيارة الرابعة : وصفت لنا الأديبة طريق أهالي السجناء إلى سجن تدمر فأبدعت في الوصف وفي بيان مدى التعب والهم والإرهاق الذي يلحق بمن يسافر هذا السفر الكئيب إلى سجن تدمر الموحش ذكرتني ببعض الذكريات الأليمة تتعلق بهذا الطريق وهذه الهموم .
وختمت مجموعتها بقصة خفيفة هي ما تبقى من الحياة : قصة خفيفة عن زوجين في أواخر العمر وهما يتنزهان في حديقة عامة وما يشاهدانه فيها ، قصة خفيفة في ظاهرها لكنها عميقة في إنسانيتها .
وهكذا تمت تلك المجموعة الجميلة والهادئة ونرجو المولى لأديبتنا التوفيق وأن تزودنا بمزيد من الأعمال الهادفة التي تخدم الأمة الإسلامية وكم أتمنى لو تسمح الظروف فأسعد بلقاء تلك الأم التي عانت وعانت وهي تربي صغارها أحسن تربية ووالدهم مغيَّب عنهم في غياهب السجون،وليس لها من معين في تربيتهم سوى الله وأديبنا الرائع أديب الصالح .