لمحات حول المرشدية
لمحات حول المرشدية
كانت حميـّا الشعور الوطني أملت على قادة النضال من أجل استقلال الوطن السوري التعالي على كل مذهبية و فئوية و قد استطاعت هذه الروح انجاز الاستقلال الذي ظل السوريون يعتبرونه ناقصا طالما لم تتوحد الأجزاء العربية الأخرى في قالب سياسي واحد, فالمكان الذي حصلوا عليه أصغر من آمالهم .
لكن هذا الرعيل الاول من أمثال إبراهيم هنانو وسلطان الأطرش وصالح العلي وعبد الرحمن الشاهبندر لم يجن ثمار الاستقلال إنما حازت عليه طبقة سياسية غلب عليها التناحر و المكائد و الارتماء في أحضان التكتلات التي كانت تسعى للسيطرة على المنطقة في شرق المتوسط التي كانت تعج بالصراعات.
عرّت الهزيمة أمام الصهيونية الطبقات الحاكمة العربية في وجدان الشعب كما أسهمت الفوارق الطبقية الحادة و فقر جموع الفلاحين و النظرة الدونية لهم, في اتساع الهوة بين الحاكمين و المحكومين.
دقّ الدكتور عبد الرحمن الشاهبندر ناقوس الخطر وأسّس حزب الشعب و بشـّر بالعدل الاجتماعي, و تقدم فخري البارودي بمشروع للإصلاح الزراعي وقامت حركات فلاحيـّة في السويداء وفي اللاذقية, في وجه المظالم.
كان رد الطبقة الحاكمة خلوا من العقلانية و الإحساس بالمخاطر. فقد اغتيل الدكتور الشاهبندر وأشارت أصابع الاتهام إلى النخبة العليا من حكام تلك الفترة, فهربوا إلى خارج القطر, لكن سرعان ما سوّيت أوضاعهم و كفـّت الملاحقة عنهم وعادوا إلى سدة الحكم متجاهلين مشاريع الإصلاح. أما حركات الفلاحين الفقراء فقد جوبهت بعدم الرحمة. مما جر الوبال على سورية, لجهة عدم الاستقرار و توالي الانقلابات العسكرية, و تعليق الدستور و إعاقة الديمقراطية.
لم تقرأ الطبقة الحاكمة متغيرات الوضع الإقليمي و الدولي والتحولات التي طرأت على المجتمع السوري, حيث كان صعود اليسار ملحوظا, والتبدل في بنية الجيش و الأجهزة لصالح الريف ظاهرا على المدينة, فكانت الوحدة المصرية السورية بالنسبة لبعضهم مخرجا, لا حبا بالوحدة, بل هروبا من استحقاقات الداخل السوري المنجرف قدما نحو اليسار.
في هذه الظروف ظهرت حركة سلمان المرشد.
كان فلاحو الجبل المعدمون, عمود الحركة الفقري مما أثار حنق الملاكين و طبقات الباكوية من جميع الطوائف, فكادوا لها بالطعن في مذهبها على انه مروق و ابتداع وشرك.
لم يكن الخلاف مع الحركة الناشئة فكريا. فالطوائف الأخرى مختلفة فكريا, لكن المتنفـّذين فيها يتحالفون متجاهلين الفروقات المذهبية. كان انتماء سلمان المرشد إلى طبقة الفلاحين وتبنيه لمطالبهم يثير الحنق لدى هؤلاء, ولدى سلطات الانتداب. و كان الجميع مجمع علي سياسة واحدة تجاه هذه الظاهرة, وهي سياسة السحق و الإلغاء و التشويه في السمعة والمرامي, كالتخوين و المروق عن الدين, و الطعن بالأخلاق.
ظلت المرشدية حقيقة غامضة عن العامة, لكنّ الأضواء سلطت عليها في الآونة الأخيرة, عبر المقالات المتناثرة في الانترنت, و عبر بعض الكتب التي نشرت حولها, وكان كتاب شعاع قبل الفجر الذي حققه جمال باروت وفيه مذكرات لرجل من خارج المرشدية عاصر الأحداث فأنصف بتجرد و كان الرجل قد تقدم كشاهد في محاكمة سلمان فأدلى بشهادته نافيا كل التهم التي حيكت له رغم الضغوط و التهديدات بتصفيته و تشريد عائلته. فسقطت تهم الخيانة و المروق الديني و التعامل مع الأجنبي لتقسيم البلد عن سلمان, ولكنه سيق إلى المشنقة, بجرم جنائي, و هذا غاية ما أمل مناوئوه.
* كتاب لمحات حول المرشدية ( ذكريات و شهادات ووثائق)
وهو عبارة عن شهادات من داخل المذهب, خطها قلم أحد أبناء سلمان: نور المضيء المرشد مدعومة بالوثائق والصور. وقد استهلّه بإهداء يستشف القارئ منه روحا رسالية : ( الى من يهاجمني سماحة له ولمن لا يهاجمني شكرا له).
في الكتاب سرد تاريخي للأحداث التي توالت على سورية, و لمعاناة سلمان من اعتقال و تعذيب و نفي و تشويه سمعة. كما تجرّع من الكأس نفسها أبناؤه وعشيرته, ثم يعرج الكاتب على أهم أفكار المرشدية التي أكمل صياغتها ابنه مجيب و من بعده ساجي, وهي على الأغلب روحانيات تدعو إلى التطـّهر و صفاء النفس و التقرب إلى الخالق, وقد نظم هذا في أشعار عذبة.
ولعل التفصيل الذي أورده المؤلف عارضا تعاليمهم كفيل بإبطال تهمة التقية التي وصمت بها. بل إن أول ما نهت عنه هو التقية. و المرشديـّة في جوهرها دعوة إلى الإصلاح الديني لما تراكم من موروثات في ذهنية الشعب العامي الذي أنهكه الفقر والجهل, فأبطلت الترائي و نهت عن تقديس عبد الرحمن بن ملجم, لاعتبار العامة أن عليا لم يقتل بل شبـّه لهم, ونهت عن تقديس الشمس و القمر, وتقديس الأضرحة ووراثة المشيخة , و إعادة العمل بالصلاة, وقراءة القرآن و التبصر به. و التحلي بالأخلاق الحسنة و الابتعاد عن الرياء, و عدم الإكراه في الدين.
لقد كان مزاج الطبقات الحاكمة في مختلف المراحل عصبيا تجاه تلك الحركة, لانقطاع الحوار بين مكونات المجتمع السوري, فالسائد دائما شعور الغلبة و التحكّم. والحاكم ـ أيا يكن ـ يظن أن الحوار مع معارضيه تهاونا و استكانة ما دام سيدا و مادامت البلاد و العباد في قبضته.
إن الحوار الهادئ و الجاد بين هذه المكونات كفيل بإزالة الطبقة التكلسية البينية, حيث لا يعرف بعضنا حقيقة أفكار البعض الآخر, إنما هي صور مشوهة تناقلتها الآذان بغير تدقيق أو تمحيص, أفشاها الحاقدون عديمو الضمائر لزرع بذور الفتن التي تتربص في انتظار الفرص المواتية.
ولو أن الحكمة و الحوار تغلبا لما ذاقت سورية تقلبات عصفت باستقرارها, وجرت عليها عديدا من الدكتاتوريات, التي وجدت في التناحر المذهبي خير حليف لتوطيد سلطتها, و إحكام قبضتها.
و أسوق قول المحامي اللبناني بهيج تقي الدين ـ و هو المشهود له بالوطنية ـ في مرافعته ذودا عن سلمان في المحكمة ـ : ( لو قرئ تاريخ هذا الرجل و استعرضت حياته السياسية على ضوء الوجدان ترى أن ما نسب إليه هو عكس ما انطوى عليه تاريخه).
· كتكتاب لمحات حول المرشدية ( ذكريات و شهادات ووثائق)
· تأليف نور المضيء المرشد
· مطبعة كركي ـ بيروت ـ لبنان