الفن والحياة الاجتماعية
د. أحمد الخميسي . كاتب مصري
قمت من نحو أسبوع بعرض كتاب " الأدب في خطر" للناقد الفرنسي المعروف " تيزفيتان تودروف " الذي حذر فيه من الشكلانية والعدمية والأنانية التي أصبحت تمثل ركائز تيار أدبي رائج. وقد أعادني كتاب " تودروف " إلي كتيب آخر لا يقل أهمية في الموضوع ذاته وهو الفن والحياة الاجتماعية " لجيورجي بليخانوف" ومع أن الفارق الزمني بين صدور الكتابين كبير إلا أننا سنجد الكثير من المفاهيم الأساسية المشتركة خاصة ما يتعلق بمفهوم الجمال وبوظيفة الفن الاجتماعية. يقول " تودروف " : " يمكن للفلاح الإعجاب بالشكل الجميل لأداته الفلاحية لكن هذه الأخيرة ينبغي أن تكون قبل كل شيء فعالة ، والمؤمن في الكنيسة قد يكون مفتونا بالموسيقى التي يستمع إليها وبصور القديسين ، لكن هذه الإيقاعات وتلك الرسوم موضوعة في خدمة العقيدة " . هكذا يربط " تودروف " بوضوح بين الفن ودوره الاجتماعي . أي أن للأدب هدفا وغرضا ، ولا يمكن أن يقتصر دوره على خلق الجمال.
أما بليخانوف فيقول في كتابه " الفن والحياة الاجتماعية " إن البعض كان يرى أن الفن " هدف بحد ذاته وأن تحويله إلي وسيلة لبلوغ أهداف أخرى حتى لو كانت أنبل الأهداف هو امتهان لكرامة الإبداع الفني " ، ويؤكد بليخانوف على أن الفن لا يصور الحياة والظواهر فحسب بل يفسرها أيضا ، وغالبا ما يتسم الإبداع الأدبي بأهمية خاصة تتمثل في " الحكم على ظواهر الحياة " . ويطرح بليخانوف مسألة ربط الفن بدوره الاجتماعي ليس باعتبارها إلزاما أو التزاما، فالكتاب في زمن معين وفي بلد معين يتحاشون الاندفاع إلي الانفعال والمعارك ، وعلى العكس فإنهم في زمن آخر يندفعون إلي كل ذلك ليس لأن أحدا يفرض عليهم " التزاما " ما ، لكن لأن مزاجا معينا يستولي عليهم في ظروف اجتماعية محددة ، ومزاجا آخر في ظروف أخرى. وينبثق الميل إلي الشكلانية والعدمية والتمركز الأناني حول الذات في لحظات تاريخية يقوم فيها التنافر الشديد ، الميئوس منه ، بين الفنانين والبيئة الاجتماعية المحيطة بهم، أي عندما لا يرون مخرجا في الأفق للأزمات الكبرى. أما ما يسمى بالنظرة النفعية إلي الفن والأدب ، أي الميل إلي " أهمية الحكم الذي يصدره الأدب على ظواهر الحياة " ، والاستعداد للمشاركة في المعارك الاجتماعية ، فإنها تنبثق في ظروف ينتشر فيها التعاطف المتبادل بين قسم كبير من المجتمع وبين الكتاب والفنانين . ويضرب بليخانوف مثالا بالشاعر بودلير الذي ظل ينادي باستقلال الفن عن أي قضية أخرى ، إلا أن بودلير هذا قام بمجرد أن هبت ثورة 1848 بإصدار مجلة ثورية ، كما أخذ يكرر أن " الفن للفن نظرية صبيانية " وأعلن أن على الفن أن يخدم أهدافا اجتماعية . وهذه النظرة النفعية إلي الفن هي عقيدة السلطات أينما كانت والتي تحاول أن تسخر الفن لمصالحها ، كما أن النظرة النفعية للفن قد تكون عقيدة الأدباء ممن يدافعون عن الحرية. يقول " تودروف " إن أحد مصادر الخطر على الأدب هو القول بأن " الأنا الذاتي " هو الكائن الوحيد الموجود ! ويشير بليخانوف إلي الفكرة ذاتها قائلا : " إن المثالية الذاتية قد ارتكزت دائما على الفكرة القائلة بأنه لا وجود لأي واقع آخر سوى " أنا " نا ! ويضيف بليخانوف : " إن المجددين الحاليين في الفن والأدب لا يكتفون بما أنجزه أسلافهم . ولا ضير في ذلك . بل بالعكس فإن السعي إلي الجديد غالبا ما يكون مصدرا للتقدم ، ولكن ليس كل من يفتش عن الجديد يجد شيئا جديدا فعلا . لأن علينا أن نتعلم كيف نبحث عن الجديد . أما من لا يرى في الواقع أي شيء سوى " أنا " ه الخاصة ، فإنه لن يعثر خلال بحثه عن الجديد إلا على تفاهة جديدة . لقد أخذت الفردية المتطرفة تحجب عن الفنانين والكتاب جميع مصادر الإلهام الحقيقي، وهذه الفردية تجعلهم عميانا عما يجري في الحياة الاجتماعية ، وتحكم عليهم بإثارة ضوضاء عقيمة بانفعالات شخصية خالية تماما من أي مضمون ، ونتيجة لذلك نجد أنفسنا في النهاية أمام شيء لا يمت بأي صلة إلي الجمال والتجديد الذي يبحثون عنه، ذلك أن دافعهم إلي التجديد ليس حب فكرة جديدة ما ، بل الحب لذلك الواقع الوحيد أي " ذاته ". أخيرا أقول إنه إذا استطاع القارئ أن يقرأ معا كتاب " تيزفيتان تودروف "
الأدب في خطر ، وكتاب بليخانوف " الفن والحياة الاجتماعية " فسيري الكثير من الركائز الفكرية المشتركة في تحليل وفهم دور الأدب رغم الفارق الزمني واختلاف طبيعة المدارس الفنية التي واجهها " بليخانوف " والتي يتصدى لها " تودروف ".