ما وراء خوتزباه
ما وراء خوتزباه:
سوء استعمال المعاداة للسامية واستغلال التاريخ
عفراء جلبي
تأليف: نورمان ج. فنكلستين
ما وراء خوتزباه، هو عنوان الكتاب الجديد للكاتب الأمريكي، نورمان فنكلستين. وككتبه السابقة فإن هذا الكتاب مدهش في تفاصيله ومنهجيته، ويعطي نموذجا فريدا رصينا في عرض الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
كتاب فنكلستين، يمكن أن يعد من أفضل المراجع حاليا عن القضية الفلسطينية، حتى بالنسبة للعرب. بعد قراءة الكتاب يتكون عند القارئ تصور منهجي واضح عن تاريخ القضية، والتحولات التي مرت بها، والأذى الذي تسببه الدعاية السياسية والتضليل على أيدي النخب الصهيونية. كتاب فنكلستين الجديد، يرصد تفاصيل التزييف والتضليل الذي يصل درجات خيالية في التعامل مع وقائع وحقائق القضية الفلسطينية وتباينها الواضح مع دراسات وتقارير منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية، ويحلل أسباب هذا التضليل، ونتائجه الوخيمة على الفلسطينيين.
يركز فنكلستين في كتابه على محورين: أولهما، استغلال معاداة السامية من قبل المنظمات والجماعات اليهودية لردع النقد الإعلامي والدولي عن انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي وتعسفها واضطهادها للفلسطينيين. والمحور الثاني هو تضليل حقائق القضية، ودرجة التحلل وغياب المقاييس الأكاديمية والموضوعية في عرض هذا الصراع، وخاصة في القارة الأمريكية. ويظهر هذا من خلال استعراضه لكتاب، (The Case For Israel)، الدفاع عن قضية اسرائيل، لكاتبه آلان دورشوتيز، أستاذ القانون في جامعة هارفرد، الذي صار من أكثر الكتب مبيعا عند صدوره في 2003، وتوزعه الحكومة الإسرائيلية، وملحقاتها الثقافية، وتشجع المنظمات الصهيونية الشباب اليهود على قراءته واقتنائه. ويستعرض فنكلستين بدقة تدعو للدهشة والانبهار ما يطليه دورشويتز عن نزاهة إسرائيل وإنسانيتها باستعراض كل ما ورد في كتاب دورشويتز من معلومات، معلومة معلومة، في مقاطع كاملة وجداول، ثم تفنيدها بأدلة واضحة وأرقام وتقارير تنفي وتعارض ما يقوله دورشويتز في كتابه، وتظهر غياب أو تزييف أدلته ومراجعه، وتناقضاته الصارخة مع قيمة المزعومة عن الحق، والحرية، والإنسانية.
وكلمة "خوتزباه" في الانكليزية هي من أصل يهودي وتشير إلى الوقاحة، أو التصدي الفج، واستعملها فنكلستين في عنوانه كإشارة إلى كتاب (Chutzpah) خوتزباه، الذي كان عنوان مذكرات آلان دورشويتز. ولذا يقف كتاب فنكلستين، بكل بساطة، كدعوة لتجاوز الوقاحة، والعودة إلى الحق والعدل.
ونقرأ في مقدمة الكتاب التغيرات التي طرأت على تدوين تاريخ اسرائيل، ويكتب فنكلستين عن التوجه الأكاديمي العام الذي صار يقر الحقائق التاريخية التي حدثت في تهجير الفلسطينيين، حتى من قبل المؤرخين الإسرائيليين في تاريخ نشوء الدولة الصهيونية. فالمؤرخ الإسرائيلي اليميني المعروف بيني موريس يقر بنفسه في كتبه وأبحاثه بحدوث عمليات التطهير العرقي والتهجير، ولا يعتبرها انتهاكات أخلاقية، بل وينتقد عدم إكمالها وتطهير المناطق كلها من الفلسطينيين بما فيها الضفة الغربية، مشيرا إلى المنطق والفكر الاستعماري الأبيض الذي أعطى الشرعية لنفسه لكونه الأرقى عرقيا والمتقدم حضاريا في أخذ الأرض من الذين هم أقل. وهذه المقاربة التاريخية قام بها فنكلستين بشكل مفصل في كتابه السابق، (The Rise and Fall of Palestine)، الذي سجل فيه تجاربه وذكرياته الشخصية عن الانتفاضة الأولى، واستعرض فيه بشكل أدبي تفصيلي مقارنات ما بين السياسة الصهيونية وانتهاكاتها والسياسات الأمريكية القديمة التي مارست التطهير العرقي للسكان الهنود الأصليين، والإبادة التي لحقتهم في القارة الأمريكية.
يرصد فنكلستين في كتابه الجديد الطريقة التي تستعمل بها المنظمات الصهيونية، وبعض النشطاء والكتاب الصهيونيين، وخاصة في الآونة الأخيرة قضية العداء للسامية للتخفيف من وطأة تشوه سمعة اسرائيل عالميا في انتهاكاتها مع الفلسطينيين، وخرقها للقانون الدولي. ويستعرض كيف يعتمد هؤلاء على ثلاثة عناصر: الاختلاق والمبالغة، وتضليل النقد الموجه لاسرائيل والتقليل من أهميته، وثالثا، يظهر فنكلستين أن التوجه الجديد ينحو نحو إظهار أي نقد لإسرائيل كنقد لليهود، أي كمعاداة للسامية. ويكتب فنكلستين بتفصيل عن الضغوط التي تمارسها هذه الجماعات سواء من ناحية الثقافة أوالإعلام كما حدث مثلا مع فيلم آلام المسيح والهياج الإعلامي الذي تحرزه هذه المنظمات في استعمال بطاقة التمييز العنصري ضد اليهود. وكذلك يكتب عن محاولاتهم في قمع النقاش الأكاديمي الموضوعي حول القضية الفلسطينية في الأوساط الأكاديمية بحجة المعاداة للسامية وكيف أن بعض الأساتذة الصهيونيين يرصدون أي نقد لإسرائيل في قاعات التدريس باستعمال بعض الطلبة كمخابرات داخل قاعات المحاضرات. ولقد ظهرت العديد من التجمعات أو المواقع الالكترونية التي ترصد أي نقد لإسرائيل. وفي محاضراته يبتسم فنكلستين ويذكرنا بأن حرم الجامعات الأمريكية هو المكان الذي يعج بطلبة يتمسكون بالمثاليات ولا يقبولون بتحيز عرقي أو جنسي أو طبقي.
يقوم فنكلستين بتحليل ظاهرة استخدام المعاداة للسامية في هذا العصر بإظهار الدوافع السياسية خلفها، حيث الهدف الحقيقي هو الدفاع عن اسرائيل وانتهاكاتها. وفي هذا يتابع تحليله الذي قام به في كتابه السابق (The Holocaust Industry)، صناعة الهولوكست، والذي ترجمته إلى العربية د. سماح ادريس. وفي كلتا الحالتين، وهذه نقطة مهمة للقارئ العربي، يفرق فنكلستين بين المعاداة للسامية كظاهرة حقيقية تجلت تاريخيا في المحرقة النازية، التي قُتل فيها الملايين من اليهود لكونهم يهود وبين استعمال هذه المظالم التاريخية كأدوات لإعطاء شرعية لمظالم اسرائيل المعاصرة واختراقاتها للقانون الدولي. يركز فنكلستين في كلا كتابيه على أهمية التفريق بين المظالم التاريخية التي حدثت لليهود وبين تحويلها إلى أدوات استغلالية لتكريس مظالم ضد شعب آخر. ويأسف فنكلستين كيف أن تضافر الازدهار الاقتصادي للنخب اليهودية مع التركيز على موقع الضحية (بسبب الهولوكست) والغرور الثقافي خلق نوعا من التهور والقسوة بين هذه النخب اليهودية الأمريكية تجاه معاناة الآخرين وخاصة الفلسطينيين. ويرصد تحيز القيادات الأمريكية أو حتى العالمية لتعزيز مصالحهم مع هذه النخب، بما فيهم كوفي أنان، الأمين العام للأمم المتحدة، الذي وقف في الأمم المتحدة مؤخرا، وأقر أن الهولوكست هو مظلمة متميزة تاريخيا. ويعبر فنكلستين في كتابه عن إحباطه لخضوع حتى أنان لهذا الضغط وخاصة أنه من قارة شهدت الكثير من العذاب والاستعمار والإبادة. وفنكلستين لا يخفف من هول الهولوكست التاريخي ولكنه ضد استغلاله، وضد تحويله إلى مظلمة متميزة. فاستغلاله هو خيانة لكل العذاب الفعلي الذي لحق بالضحايا الحقيقيين للهوكوست، وخاصة عندما يكرس لتفادي النقد في ظلم الفلسطينيين، فلا يجب أن يستعمل عذابهم لتكريس الظلم على شعب آخر. وجعله كارثة متميزة، حسب رأي فنكلستين، يتضمن تميزا عرقيا وتعظيما للذات ويهمش من هول الإبادات التي حدثت لشعوب أخرى عديدة. وهو في كتاباته ولكونه أمريكيا يذكرنا دائما بالمظالم والإبادة التي لحقت السكان الأصليين في القارة الأمريكية وبكل المنطق العنصري التطيهري الذي كان يتلازم مع الفكر الاستعماري الاستطياني. ويذكرنا بما كتبه ثيودور روزفلت في أنه كان من المهم أن يربح عرق راقي القارة الأمريكية، ونراه يستعرض المنطق الذي أحاط بوعد بلفور وكيف أن البريطانيين أعطوا الأرض لعرق أقدر حسب وجه نظرهم. وكثير من النقاط التي يستعرضها الكتاب معروفة عند العرب، ولكن يصيغيها فنكلستين بشكل منهجي، ومع مراجع وأدلة دقيقة.
هذه النزاهة في التعامل مع الظلم والعدل تشربها فنكلستين من والديه الذين نجيا من معسكرات الاعتقال النازية في بولونيا، حيث فقدا كل عائلتيهما وأقربائهما في الهولوكست. ولذا نشأ فنكلستين في مدينة نيويورك في كنف حياة عائلية لم يعرف فيها أقارب نهائيا من طرفي والديه الاثنين. كلهم كانوا ضحية الهولوكست. في إحدى محاضراته ذكر كيف كانت والدته تخاف على أولادها الثلاثة، وأصغرهم نورمان، وتذكرهم على طاولة العشاء أن ينتبهوا لأنفسهم لأنه على هذه الطاولة الصغيرة يجلس الأهل كلهم. هذه العائلة الصغيرة التي فقدت كل الأهل في المصيبة النازية. ولكنه نشأ أيضا في بيت أعطاه حساسية ضد الظلم واضطهاد الإنسان بسبب هذه الكارثة التاريخية التي تربت العائلة في ظلها. ولقد كان لوالدته، مارلا هوسيت فنلكستين، ذات الذكاء والثقافة العالية، تأثير كبير على شخصيته، وعلى اهتمامه بالقضية الفلسطينية، حيث علمته منذ الصغر أن الموقف الأخلاقي يتطلب الوقوف بجانب المظلوم ولو كان ظالمه شعبك. يقول نورمان في كتابه الجديد، ويركز على هذا في كتبه الأخرى ومحاضراته، أن النخب الصهيونية تسيء وتحقر ذكرى ومعاناة ضحايا الهولوكست، لأن هذه النخب في دفاعها عن إسرائيل وانتهاكاتها، هي الباعث الحقيقي على المعاداة للسامية في عالمنا حاليا. ولذا يقترح نورمان أنه لمواجهة المعاداة لليهود، فإن هذا التبجح الصهيوني وتزييف الحقائق وإعطاء الشرعية لانتهاكات حقوق الإنسان هي التي يجب أن توقف.
بينما الدراسات التي تقوم بها المنظمات الصهيونية تميل إلى التركيز أن المعاداة للسامية ليس لها حل واضح، وأنه حقد غامض نابع من نوايا عمياء تاريخية، وأنه لا يمكن معالجتها بسهولة. ولكن فنكلستين يخالف هذا، وعنده نصيحة واضحة. يقول في كتابه: "قولوا الحقيقة وصارعوا من أجل العدل: هذه من أنجع الاستراتجيات التاريخية لمحاربة المعاداة للسامية إضافة إلى كل الأنواع الأخرى من العنصرية." ويظهر أن كل الدراسات الميدانية تشير إلى انخفاض فعلي في المعاداة للسامية في الغرب، وأن الحنق على اليهود في الفترة الأخيرة تزامن مع تصاعد الإضطهاد الإسرائيلي للفلسطينيين وخاصة خلال الانتفاضتين. إذن، بعكس ما تزعم هذه المنظمات، فإن نورمان يقترح أن الدواء الناجع سيكون الإنسحاب الكامل من الضفة الغربية، ومن كل الأراضي التي استعمرتها إسرائيل في عام 1967، وإيقاف بناء المستوطنات، وإيقاف الانتهاكات والتعذيب والقتل الغير مشروع، وإزالة الجدار. ويضيف فنكلستين إن هذا لن يكون علاجا فقط لمعاداة السامية، ولكنه سيساعد أيضا في إظهار المعاديين الحقيقيين للسامية، الكارهين لليهود لكونهم يهودا فحسب، وإظهار العنصرية الفعلية، بدل خلط الأمور في معاداتهم وليس لأن اليهود يخترقون القانون الدولي ويضطهدون الفلسطينيين. ويعتبر أن المواليين للصهيونية وللنخب اليهودية هم الخطر الحقيقي والسبب في زيادة المعاداة للسامية لأنهم يدعمون ويساعدون إسرائيل في أن تتابع طريقها الإجرامي وانتهاكاتها وبهذا يقودون إسرائيل إلى الدمار الفعلي.
ويظهر فنكلستين أن كتاب دورشويتز ليس دفاعا عن اسرائيل، بل أداة لتحطيمها بسبب غرق حججه في التضليل والخداع الأكاديمي. ويظهر أن دورشويتز، الأستاذ الأكاديمي المشهور ما هو إلا رجل يزيف حقائق واضحة، ويفيض بالتناقضات الفجة، حيث يتحول دوريشويتز فجأة إلى مدافع عن الاغتيالات السياسية غير القانونية للزعامات الفلسطينية في إسرائيل رغم أنه ضد حكم الإعدام كمحامي أمريكي. ولذا ليس من الغريب أن دورشويتز المتخصص في قانون حرية التعبير هو الذي قام بحملات لمنع نشر كتاب فنكلستين. ودورشويتز في كتابه يدافع عن قمع الفلسطيينين وتعذيبهم وتدمير بيوتهم، ويطير إلى اسرائيل ليعطي المحاضرات للطياريين الذي يقصفون الضفة كي يشعروا بقانونية وشرعية ما يفعلون. ولكن فنكلستين ليس باهرا وشديدا فقط في تفاصيله الأكاديمية ودقة معلوماته، بل عنده روح فكاهة لاذعة، حيث يضع في العديد من افتتاحية فصول الكتاب مقتطفات من أقوال دورشويتز، لتصبح إدانة له، مثل: "إن العالم مليء بالأشرار ومن المهم الوقوف في وجه الشر." أو "وظيفة محامي الدفاع هو الانحياز الصرف تجاه طرف واحد لزبونه الذي هو بشكل عام مذنب." وهكذا يظهر لنا فنكلستين صفحة بعد صفحة أن أشهر محامي دفاع في أمريكا والذي دافع عن أو جي سيمسون هو فعلا محامي يدافع عن مذنب مرة أخرى، عندما يدافع عن اسرائيل، ولكن هذه المرة على مستوى جمعي وضد كل القانون الدولي.
يكتب فنكلستين في كتابه، ما وراء خوتزباه: "إذا كان الحق والعدل أقوى أدوات المستضعفين، فتقارير ودراسات منظمات حقوق الإنسان هي أقواها على الإطلاق، والتي هي حاليا الأقل توظيفا بالنسبة للذين يبحثون عن حل عادل للقضية الفلسطينية. فهذه السندات ذات الدلالات القطعية تقبع على الرفوف تجمع الغبار، ولهذا السبب بالذات يستطيع الذي يدافعون عن إسرائيل، والاعتذاريون، نشر الأساطير والخزعبلات بالنسبة لانتهاكات حقوق الإنسان في إسرائيل."
ولقد صدر الكتاب في ظل صمت إعلامي لا يتوافق في العادة مع كتاب بهذا المستوى في القارة الأمريكية، وخاصة أن الذي نشره هو مطبعة جامعة كاليفورينا ذات الصيت الأكاديمي. وليس هذا فقط بل راجعه أكاديميون ومؤرخون معروفون ووثّقوا دقة ما جاء في الكتاب. وكتاب بهذا المستوى يتم عرضه عادة في الوسط الإعلامي، ويتخاطفه الصحفيون والكتاب ويعلق عليه المثقفون. وما يفسر هذا الصمت في استقبال كتابه، حسب رأي فنكلستين، هو درجة الفضيحة التي ستنال الأوساط الإعلامية والأكاديمية في أعلى مستوياتها في تعاملها مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وعمق التشويه الذي يحيط بأبسط حقائق هذا الصراع.
ورغم صمت الإعلام الرسمي، ومحاولات دورشويتز في إصمات فنكلستين، إلا أن كتاب فنكلستين بدأ يحظى بشهرة. وكما اشتهر صديق فنلكستين،، نعوم تشومسكي، المدافع عن كثير من القضايا العادلة في العالم بغير مساعدة الإعلام العام الرسمي، فإن رسالة فنكلستين تنتشر في كل مكان أيضا، ومنظمات الطلبة الفلسطينين واليهود المدافعين عن حقوق الإنسان يستدعونه إلى الجامعات في سلسلة طويلة من المحاضرات بعد صدور كتابه. وفنكلستين ينهي محاضراته دائما بشكل شاعري مؤثر، ويقول بأنه مهما كان للظالمين من عتاد وقوة وإعلام، فإن الحق والعدل بجانبنا، وهذه أقوى أدواتنا.
والمثقفون العرب في العادة يتفاعلون مع الكتاب الذين ينتقدون انتهاكات الولايات المتحدة واسرائيل، بدون أن يدركوا طبقات الفكر الغربي الذي أنتج مثل هؤلاء المفكرين القادرين على نقد المنظومات السياسية والفكرية المحيطة بهم. ولذلك سيكون من المحزن إذا أخذ كتاب نورمان فنكلستين كدليل ينفس عن احباطهم وكدراسة تظهر الأوهام التي ينشرها الصهيونيون بدل أن يروا كتابا مثل هذا يوجه أصابع الاتهام ضمنيا لكل المثقفين في العالم، وخاصة المثقفين العرب، أصحاب القضية أنفسهم، الذي تقاعسوا عن دورهم في هذا الصراع الذي هو في النهاية صراع أخلاقي، سياسي، عالمي. فالنزعة الحالية في الثقافة العربية هي التصفيق لكل من يدين إسرائيل، وأمريكا، حيث يشكل هذا خطر الوقوع في الخطاب الثوري العنفي، أو العاطفي على أقل تقدير، بدل التوجه للبحث الدقيق والجهد المضني الخالي من العاطفية والتوجه نحو الأساليب اللاعنفية، لأن الخطاب الثوري العاطفي لا يفي بما تتطلبه هذه القضية من نضج قانوني وفكري وسياسي، وحضور عالمي، ولأن العنف ينتزع الشرعية من هذه القضية العادلة.
نورمان فنكلستين شخص غير عادي، سواء في دقته الأكاديمية، وقدرته المدهشة على التفاصيل والمنهجية، أو نزاهته اللامتناهية، أو إنسانيته وإيمانه العميق بالمساواة والعدل. ودراسته هي نتاج لرحلة فكرية ترتكز على المفاهيم الإنسانية الكونية، ومبدأ قول الحق لا تأخذه لومة لائم. والقضية الفلسطينة، كما يقول نورمان، قضية واضحة عادلة، ولكن هناك كذب من جهة، وتقاعس وفشل من جهة أخرى. وقد وفق الكاتب جهاد الخازن عندما كتب عن فنكلستين "كل ما اريد هو ألا يخطئ الصحافيون العرب في فهم الكتاب ودوافع المؤلف، فقد كان من اسرة راحت ضحية المحرقة، وهو كتب منتقداً استغلال المحرقة، لا انكاراً لها." وقد كتب الخازن مؤخرا بأنه سيساهم في ترجمة الكتاب الجديد إلى العربية قريبا. وهذا سيغني المكتبة العربية بمرجع دقيق ومسهب وسيمد الإنسان العربي بنموذج بديع في أسلوب البحث وعرض القضية الفلسطينية بطريقة قانونية دقيقة ترتكز على المبادئ الإنسانية والقانون الدولي.
كتاب فنكلستين، بدل أن يشفي الصدور وينفس عن الإحباط العربي لأنه يدين الصهيونية ووقاحتها، يجب أن يخلق شرارة من النقد الذاتي بين طبقات المثقفين في الإخفاق العربي المريع تجاه هذه القضية. فالعالم العربي ملئ بالكوادر البشرية والثقافية، والقدرات، وروح الحماس، ولكن قلما توجه لما يعطي نتائج في عصر صارت المعرفة فيه هي القوة، ويتلاعب به أصحاب الامتيازات ضد مصالح الذين لم يدخلوا لعبة المعرفة. يقول فنكلستين هي ليست قضية معقدة نهايئا ولكن المدافعين عن اسرائيل مغرمين بمصطلح، "معقدة" لابعاد الجماهير وإعطاء الوهم في المجتمعات الغربية بأنها قضية لا يمكن فهمهما بسهولة، حيث يعتمد المدافعين عن اسرائيل بجعل الصراع محاطة بالأساطير والتلفيقات. يقول فنكلستين بأنه لا يوجد حقل أو قضية في العالم يستطيع الباحثون فيه ممارسة التضليل بكل السهولة والحصانة التي يمارسها بها المدافعون عن اسرائيل. هكذا بكل بساطة يغيرون الحقائق بل ويلفقون معلومات كاذبة لغياب أي ضغوط حقيقية تراجع هذه الانتهاكات الفكرية الصارخة.
ومن أكبر هذه التلفيقات هي اسطورة أن فلسطين كانت أرضا خالية ثم استوطنها اليهود، وحولوا الصحراء إلى جنة خضراء فصارت مغيرة للعرب الذين جاؤوا وأرادوا الاستقرار فيها. هذه كانت الفكرة الرئيسية في الخطاب الصهيوني يتناولها فنكلستين في كتاب دورشويتز وسرقاته الأدبية من كتب صهيونية أخرى تتدعى نفس الكلام، ثم نتابع فنكلستين وهو يفندها اسطورة أسطورة، ليهدم الجدار الكبير من الاختلاقات الأكاديمية التي ينشرها أصحابها من أعلى المستويات كحقائق تاريخية.
يعتبر فنكلستين أن متابعة تقارير انتهاكات حقوق الإنسان في إسرائيل وإظهارها للملأ العام، مع حركة شعبية سلمية من داخل فلسطين ومساندة خارجية مع قبل الداعمين، ستكون أفضل الأدوات في هذا الصراع، ولكن العالم العربي نفسه غارق في انتهاكات أكبر، ولن يستطيع العرب رفع صوتهم أكثر من المدافعين والاعتذاريين عن همجية الصهيونية إلا إذا كانوا هم في موقع أفضل. فالعرب نفسهم لن يستطيعوا أن يدافعوا عن قضاياهم العادلة والإيقاف من همجية الصهيونية إلا إذا بدأوا بالنقد الذاتي لهمجية العروبة المعاصرة أيضا وانتهاكاتها والتخفيف من حدة أصوات اعتذارييها وأقلياتها المتسطلة الشمولية. والتي يتحفنا كثيرا من أفرادها بادعاء الإنسانية والعدالة والصمود والتصدي والحفاظ على الأمن القومي تماما كما يدعي المدافعون عن إسرائيل بأنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، ورمز السلام والحرية.