سوريا ... لا خبز ... ولا حرية 4

سوريا ... لا خبز ... ولا حرية

آلن جورج

ترجمه: د. حصيف عبد الغني

الفصل الرابع

الحزب القائد في المجتمع والدولة

حزب البعث

أيها الرفاق، هناك مهمات جليلة تنتظرنا وتحديات كبيرة تواجهنا (!) هكذا خاطب بشار الأسد المؤتمر القطري التاسع لحزب البعث العربي الاشتراكي في 20 حزيران عام 2000م، كما كتبت سانا الوكالة السورية للأنباء بلغتها الإنكليزية (المكسّرة) "سنواجه هذه التحديات ونسير معاً بثقتكم ومحبتكم ودعمكم في سبيل إنجاز هذه المهمات ونتجاوز هذه التحديات".

وكان بشار قد انتخب بالإجماع كأمين عام للقيادة القطرية، المركز الذي كان يحتله والده حتى موته قبل عشرة أيام. وانتخابه هذا كان المادة الأهم على أجنده مؤتمر الحزب الذي دام أربعة أيام. لقد ولد حزب البعث في الأربعينات وسط فوران المثالية في الوحدة العربية الشاملة والأمل بتوحيد المنطقة للتخلص من الوصاية الاستعمارية وإنجاز توزيع أعدل للثروة بين الحكام والمحكومين. وفي ظل سلطة الأسد تحولت هذه الشعارات إلى آلة لتوليد الولاء للرئيس مجردة من أي إيديولوجية متماسكة، لم يكن لها ما تقوله أكثر من هذه الشعارات الجوفاء:  أهمها وقبل كل شيء آخر:  وحدة –حرية – اشتراكية". فلا عجب إذن أن يكون رد بشار على استلامه منصب الأمين العام الامتناع عن توزيع (السكاكر).

وأن يكون المؤتمر القطري في حزيران عام 2000 وهو الأول بعد خمسة عشر عاما، يشي بالكثير عن حالة الحزب، "البعث هو في حالة فوضى عارمة" هذا ما قاله الكاتب السوري المنفي صبحي حديدي".إنه كالجسم الميت، لم يعد حزبا بالمعنى العادي للكلمة"(1). ويؤكد حنا بطاطو كبير مؤرخي البعث وأصوله الاجتماعية وتطوره.

"في ظل سلطة الأسد تغيرت طبيعة حزب البعث، فاستقلالية أفكار أعضائه التي تمتعوا بها في الماضي، حجِّمت الآن فالأولوية أصبحت للامتثال والسلوك الحزبي الواحد. لقد أصبح الحزب في الواقع أداة حاول النظام استعمالها لضبط المجتمع بعامة أو لتحشيده وراء سياساته. وتحول (الكادر) الحزبي بصورة متزايدة إلى بيروقراطيين ومهنيين مزمنين ولم يعد لهم الحيوية النابضة على المستوى الإيديولوجي كما كانوا في الخمسينات والستينات. فالإخلاص المطلق (طغى آخر الأمر على إخلاصهم للمعتقدات القديمة)"2.

الأيام الأولى

في البداية كان الأمر كله مختلفاً. كان يحكم سورية نظام الانتداب الفرنسي المكروه الذي استغل بوقاحة صارخة الخليط الاثني في البلاد ليقسم ويحكم البلد. فلقد خلق دولة العلويين شبه المستقلة في الشمال الغربي، ودولة مشابهة للدروز في الجنوب. وعام 1920 خلقوا لبنان من خاصره سورية الغربية وعام 1938 تخلى عن محافظة الإسكندرون الشمالية لتركيا. وفي الجنوب والجنوب الغربي حكم الانكليز شرق الأردن وفلسطين وفي نص انتدابهم على فلسطين تعهدهم المشهور –في وعد بلفور– بإقامة وطن قومي لليهود فيها- تعبير يعني في الواقع– دولة يهودية كما فهمت هذا الوعد الحركة الصهيونية –العالمية – وهكذا استمر تدفق المهاجرين اليهود مع رعب الفلسطينيين العرب الذين خافوا – بحق – انتزاع فلسطين منهم. وفي الشرق من فلسطين حكم البريطانيون العراق أيضاً. وفي سورية اعتمد الاستعماريون المحتلون على نخبة مدنية من التجار وملاك الأراضي الذين كانوا مسيطرين خلال الحكم العثماني أيضاً. وفيما كانت هذه القلة تتمتع بامتيازات كبيرة وغنى فاحش، كانت عامة الشعب تعيش الفقر وكثير منها كانوا مزارعين يتقاسمون المحصول مع الملاك أو مياومين كعمال زراعيين بدون أية أرض.

وفتح هذا العار السياسي والاجتماعي الباب لقيام حركات وطنية.... واحدة منها – مع إنها في النهاية لم تكن ذات تأثير – ترأسها زكي الأرسوزي – أستاذ علوي في المدارس الثانوية من أهل انطاكية، والذي قاد في فترة 1936- 1938 الحركة المناوئة لتركيا في محافظتة والذي ادعى أنه هو أول من أطلق التعبير البعث اسماً لحركة سياسية. والأرسوزي خريج جامعة السوريون وكان واحداً من آلاف العرب الذين فروا جنوبا من سنجق الاسكندرون عندما سلّم لتركيا... وكان سكانه الأتراك هم الأقلية فيه، وأعيدت بعد ذلك تسميته بـ (هاتاي). استقر الأرسوزي بعد ذلك في دمشق وعاش في ضيق مادي شديد لأن السلطات الفرنسية حرمت عليه التدريس في المدارس الخاصة والعامة.

وفي عام /1939/ قسم الأرسوزي مؤيديه إلى فئتين:  فئة سياسية سماها الحزب القومي العربي وفئة ثقافية سماها "البعث العربي"3. إلا أن مجموعة الأرسوزي ضمرت وخاب ظنه هو نفسه بالسياسة، فانتقل شمالاً إلى اللاذقية، ثم طرطوس (وكلاهما على ساحل البحر) وركّز بعد ذلك نشاطه على الفلسفة. واليوم تحفظ ذكراه بإطلاق اسمه على حديقة عامة في دمشق خلف البنك المركزي. ومجموعة أخرى رئسها ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، المدرسان في ثانوية تجهيز دمشق المؤثرة لأنها كانت أهم الثانويات في البلد، كانت أكثر نجاحاً، كلاهما من خريجي السوريون، (البيطار) مسلم سني كان يدرِّس الفيزياء بينما (عفلق) مسيحي أرثوذكسي كان يدرس التاريخ. وسميت مجموعتهما ابتداءً:  حركة الإحياء العربي وأصدرت أول بلاغاتها في عام 1941 ومنذ عام 1943 استعملت اسم حركة البعث العربي. وفي أواسط الأربعينات سحب تعبير (حركة) تدريجياً لتحل محله كلمة (الحزب)، وعام 1945 تشكل أول مكتب تنفيذي للحزب.

ورغم أن تشكيله لم يحظ بالشرعية بعد، بدأ عمله كحزب وتأسس رسمياً وشرعياً في مؤتمر عقد في نيسان /1947/ بمقهى الرشيد قريباً مما كان ساحة للسينما في الهواء الطلق في حديقة معروفة ب (لونا-بارك) يقيم مكانها اليوم المركز الثقافي الروسي. ولقد انضم للحزب الجديد أغلب أتباع زكي الارسوزي والأخير لم يحضر هو نفسه المؤتمر الأول، وحسب مختلف الروايات لم يغفر أبداً لعفلق وبيطار سرقتهما لأسم (البعث) منه.

وفي سنواته الأولى دعا حزب البعث لوحدة عربية وعدل اجتماعي كسبيل للإحياء العربي، ولم يكن تماما حركة جماهيرية.

كان تعداد أعضائه بضعة مئات أغلبهم من الطلاب الريفيين وانعكس ذلك في النسبة الكبيرة للمعلمين في زعامة الحزب. وفي بدايات الخمسينات كان تعداد أعضائه حوالي (4500) تقريباً. ومن ضمن هؤلاء كان أحد الطلاب الثانويين في اللاذقية واسمه حافظ الأسد، وآخر اسمه عبد الحليم خدام ليصبحا بعد فترة رئيساً ونائباً لرئيس الجمهورية. وإحدى علامات تاريخ نمو البعث كانت عام /1952/ عندما اندمج بالحزب العربي الاشتراكي لأكرم الحوراني، وهي خطوة أعطت الحزب جماهير أنصاره من الفلاحين. وأكرم الحوراني محام من مدينة حماه (حيث سُوّيَ مركز حزبه بالأرض، من قبل قوات البعث التي أخمدت ثورة إسلامية عام 1982). اكتسب سمعته كقومي عربي خلال حكم الانتداب الفرنسي، وكنصير للمزارعين المظلومين في منطقته، بعد استقلال سورية عام 1946 وكان تفاوت المداخيل والثروات في منطقته مرعباً. فمن مجموع 113 قرية في قضاء حماه، 91 قرية منها تملكها أربع عائلات فقط4.

وفي عام 1950 نظم الحوراني أتباعه في الحزب العربي الاشتراكي ومركزه في مدينة حماه. وخلال ديكتاتورية أديب الشيشكلي الذي استلم السلطة في كانون أول عام 1949 في ثالث انقلاب تلك السنة لجأ الحوراني والبيطار وعفلق إلى الجار لبنان حيث توافقوا على دمج الحزبين في حزب البعث العربي الاشتراكي.

وعلى حد قول (باتريك سيل): "كان (الحزب الجديد) ائتلافاً بين طبقة بيروقراطيين ومدنيين:  مدرسين وموظفين في الدولة وأمثالهم مع ثوريين من الأرياف"(5). بينما لاحظ (بطاطو) إن "الدمج لم يكن أكثر من تجمع خفيف" حيث انضم فقط ثمانون من قادة الحزب العربي الاشتراكي للحزب الجديد. أما أفراد الحزب العربي الاشتراكي فبقوا على ولائهم الشديد لشخص أكرم الحوراني(6).

وخلال فترة الخمسينات حيث كان الشعور القومي العربي يهز المنطقة نماً الدعم بسرعة لحزب البعث العربي وكسب دفعة قوية عندما قرر الحزب – دعم جمال عبد الناصر الضابط الوطني الذي أزال الملكية عام /1952/ عن حكم مصر وركب الموجة الشعبية العارمة للوحدة العربية.

ولكن عام /1958/ عندما توحدت سورية مع مصر لتشكل الجهورية العربية المتحددة، كان حزب البعث في مأزق شديد. ولقد ضم تقرير حزبي داخلي عام /1957/ إشارة إلى "تهدم السلوك الحزبي" والى "الفوضى وأكد ان الحزب أصبح مؤسسةً اجتماعية غريبة وحصل انقسام عميق بين الأعضاء الخائبين وقادتهم الذين عملوا بمعزل عن الحزب واعتبروا ذلك حملاً ثقيلاً وعائقاً في طريق حريتهم" (7).

 وربما سهّل الاضطراب الداخلي على البعثيين السوريين الموافقة على حل الحزب عندما دخلت سورية الوحدة مع مصر 1958-1961 وكان هذا شرط عبد الناصر لقبول مشروع الوحدة.

ربما كان (ناصر) (أيقونة) رمز الوحدة العربية ولكنه لم يكن ليبراليا ديمقراطياً ولم يواجه بخاصة أي معارضة من أية مجموعات قومية عربية منافسة مثل حزب البعث في سورية.

وبالنسبة لناصر كانت سورية تماماً الشريك الأصغر في الوحدة:  فهي ببساطة: الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة. وذاقت سورية حقيقة، وللمرة الأولى، طعم الحياة في دولة بوليسية حيث استعملت المخابرات- البوليس السري – بصورة روتينية لاستئصال المعارضة. فالليبراليون في سورية غالبا ما يعيدون المصاعب القائمة في بلدهم إلى فترة الحكم الناصري فيها.

البعث في حالة انتقالية

مهما كانت أخطاؤه ومثالبه فإن حزب البعث الأصلي – أي (الحزب القديم) على حد تعبير (بطاطو) كان على الأقل حزباً سياسياً أصيلا له سياساته (أو على الأقل مثالياته وطموحاته وأعضاؤه وكان له بعض النجاح في الانتخابات ولكن حل محله شيء مختلف تماماً:  لجنة عسكرية سرية أسست عام 1959 على يد ضباط سوريين منقولين إلى القاهرة (ومن ضمنهم حافظ الأسد)، وكانوا معارضين بشكل متزايد للوحدة التي قامت – واللجنة العسكرية التي سيطر عليها ضُباط من الأقليات الدينية بخاصة من العلويين والدروز،"عملت بسريّة تامة حتى عام 1964 لدرجة ان الزعماء التاريخيين للبعث بقوا تماماً حتى ذلك الوقت في الظلام ولم يعرفوا بوجودها ولا بأهدافها الحقيقية" (7).

تفككت الجمهورية العربية المتحدة في الانقلاب العسكري اليميني الذي حصل عام /1961/ في 28 أيلول بقيادة العقيد عبد الكريم النحلاوي. ودعم الانقلاب كل من السعودية والأردن ومجموعات من رجال الأعمال السوريين الذين صدمتهم قرارات التأميم التي صدرت في تموز عام /1961/. وأبرز الانقلاب عودة قصيرة لنفوذ الصفوة المدينية التي تحكمت بأمور سورية لقرون طويلة. وخلال أيام من قيام الانقلاب، وقع ستة عشر سياسياً بارزا بيانا شكروا فيه الجيش لتخليص سورية من براثن عبد الناصر. وضم الموقعون اسم صلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني، اثنان من كبار أبطال الدعوة للوحدة العربية أدانا أول مشروع للوحدة العربية. وقاما بذلك أيضاً لدعم نظام انفصالي يمثل أكثر العناصر محافظة في سورية:  أعيان الحضر – المدنيون الأغنياء – الذين اتهموا بأن جشعهم وسياساتهم غير الكفوءة كانت من الأسباب الرئيسة لضعف البلاد. ولقد سحب البيطار لاحقاً توقيعه من البيان ولكن ذلك لم يسعفه في استعادة سمعته. كان الحادث هذا شهادة مبكرة على الإبهام العقائدي في قلب الحركة البعثية وربما كان هذا هو السبب الذي أدى في النهاية إلى فشلها المحتوم.

في ربيع 1962 جمع الزعيم البعثي الآخر ميشيل عفلق مؤتمراً في حمص، وسط سورية وقرر المؤتمرون إعادة حزب البعث وراقبت اللجنة العسكرية البعثية الأمر بعناية دون أن تتدخل. ولم يكن أعضاؤها مهتمين كثيراً بحجم ولا طبيعة هذا الحزب المدني. كان هدفهم الاستيلاء على السلطة بانقلاب عسكري، وهذا ما نفذوه من خلال تحالفهم مع الناصريين والوطنيين المستقلين من الضباط في ليلة 7-8 من آذار عام 1963. في ذلك الوقت كان عدد أعضاء الحزب المدنيين حوالي أربعمئة عضو. وفي جهد لتجنيد المزيد زاد العدد حيث بلغ حوالي 2500 في أواسط 1963 وفي أواخر عام (1967) وصل العدد إلى حوالي 5000 آلاف من الأعضاء الكاملين وربما أربعين ألفاً (40000) من الأعضاء المرشحين للدخول(9). والحزب الذي أعيد إلى الحياة – في جو من التفاؤل والمثالية استولى على السلطة.... إلا أن الثمن كان باهظاً جداً ولا يزال الشعب حتى اليوم يدفع الثمن وكان دفعه – منذ البداية تقريباً.... كما لاحظ (باتريك سيل).

كان عليهم أن يحكموا بالقوة وليس بالرضى الشعبي، لقد كانوا جزءاً بسيطاً من أقلية، جزء عسكري منشق عن حزب سابق لم يكن له أي قاعدة / شعبية. وتجربة أيامهم الأولى أثرت في سلوكهم لسنوات طويلة قادمة:  حتى عندما قوي الحزب وصار آمناً على حياته – لم يتخلص أبداً من عاداته في الإنهاك والقهر(10).

وليس هنا مجال مراجعة مستفيضة للخصومات والعداوات المركبة والصراعات من أجل السلطة التي شنّجتْ ما سماه حنا بطاطو، "البعث الانتقالي" من عام 1962 – إلى عام 1970. يكفي القول أنه كان هناك توتر مستمر بين الراديكاليين والاشتراكيين من الجناح المدني في الحزب وبين الجناح العسكري الأكثر براغماتية. وكان داخل كل جناح من هذين الجناحين توترات ومنافسات أعضائه. وشهدت هذه الفترة أيضاً أن القيادة القطرية لحزب البعث استأثرت بالأفضلية على القيادة القومية للحزب، وهذه الأخيرة كانت (المسؤولة عن حزب البعث في العالم العربي كله). ومن معالم هذه الفترة أيضاً الانقلاب العسكري الآخر في 23 شباط 1966 والذي قام به جناح صلاح جديد، العضو العلوي في اللجنة العسكرية البعثية والذي استلم رئاسة أركان الجيش من عام 1963، وسانده حافظ الأسد، العلوي أيضاً وكان في ذلك الحين قائداً لسلاح الجو. في السابق كان النظام الحاكم براغماتيا في الأساس رغم شعاراته الثورية الاشتراكية، ولكن الانقلاب قام بانعطافة يسارية بيّنة، مما حسن حظوظ وزير الدفاع حافظ الأسد في استلام السلطة آخر الأمر.

ورغم كل المواضيع والعناوين الإيديولوجية كان الصراع على السلطة فقط."وتاريخ حزب البعث في الستينات هو تاريخ الأجنحة المتعددة في الحزب" كما يقول (بطاطو):  لم تكن أبداً الاختلافات داخل الحزب طائفية محضة أو مناطقية محضة... غالباً ما كانت العوامل الشخصية والطموح للوصول للسلطة هي موضوع الخلاف. كان للميول الإيديولوجية دور ما ولكن لم يكن على ما يبدو العامل الحاسم، ومن المؤكد أن عناوين مثل يسار ويمين كانت تتداول بكل حرية، ولكن سلوك الشخصية المركزية المؤثرة في تلك الفترة (صلاح جديد) لم يشر إلى التزام إيديولوجي واضح(11).

وبعد فترة قصيرة، بخاصة بعد الهزيمة السورية المدمرة، في حرب حزيران 1967 مع إسرائيل، صار (أسد) و(جديد) على طرفي نقيض.

بعد انقلاب 1966 استقال جديد كرئيس للأركان وحكم سورية من مركزه كمساعد الأمين العام للحزب. وفي الأساس كانت المعركة من أجل السلطة هي بين أسد والقوات المسلحة من جهة وصلاح جديد والحزب من جهة أخرى. والاضطراب المزمن شمل انقلابا جزئياً في 25 شباط 1969 حيث قامت قوى مدربة تحت قيادة الأسد باحتلال نقاط إستراتيجية منها مراكز أجهزة الإعلام في دمشق. ووصل الخلاف أوجه في المؤتمر الاستثنائي العاشر لحزب البعث الذي عقد في دمشق من 30 تشرين الأول حتى 12 تشرين الثاني عام 1970. وكانت المداولات فيه تبادل اتهامات قاسية حيث أدان جديد الأسد متهماً إياه بأنه فاشستي خلق ثنائية في السلطة السورية. وختم المؤتمر أعماله بتبني قرار يجرد الأسد من منصبه كوزير للدفاع وأزاح حليفه الهام المسلم السني مصطفى طلاس، العضو السابق في اللجنة العسكرية الذي أصبح رئيسا للأركان في بداية عام 1968.

ولم يتأخر الأسد في الرد، ففي ليل 12-13 تشرين أوقف رجاله صلاح جديد ومعاونيه المقربين وفي 16 تشرين ثاني جاء الإعلان الرسمي لما سماها الأسد (حركة تصحيحية والتي كانت حقيقة انقلاباً عسكرياً. وأخيرا وصل الأسد إلى قمة السلطة حيث تفوق على كل زملائه في اللجنة العسكرية (والتي انحلت في آب 1965 ليحل محلها المكتب العسكري للحزب).

وكان نجاحه نهاية حزب البعث كقوة مستقلة بل وحتى كندوة للنقاش الجدي.

أسد وعبادة الزعيم

بعد استيلائه على السلطة في تشرين ثاني 1970 يقال أن حافظ الأسد فكر في إلغاء حزب البعث كله(12). وعوضاً عن ذلك اختار أن يحوّله إلى مؤسسة قوية للضبط السياسي وبنفس الوقت يمكنه أضفاء مظاهر الشرعية على رئاسته.

بعد كل ما قيل، وكضمان لوجود النظام الجديد، لم يستطع الحزب أبداً منافسة المخابرات ولا الصفوة التي تحمي النظام من التشكيلات العسكرية كالحرس الجمهوري والقوات الخاصة. تحت حكم الأسد تحول حزب البعث كما لاحظ (فولكر برتس). لقد زادوا في نفخه عددياً لتحديد زعامة اليسار المهزوم. كذلك (أدلجوه)! وأعادوا بناءه لكي يُناسب شكل حكم أسد الاستبدادي. فأضاع صفته الطليعية وأصبح أداة لتوْليد دعم جماهيري وضبط سياسي. وحتى يصبح أيضاً شبكة الوصاية الرئيسية للنظام(13).

ولقد ركزوا على صفة سورية الجديدة في أيار عام 1971 عندما حيّت القيادة القطرية الجديدة لحزب البعث أسد على أنه قائد المسيرة الوطنية. وأكد الشعب السوري على حاجته لزعيم قائد وبدأ يرى في الرفيق حافظ الأسد هذا الزعيم القائد على حد تعبير القيادة القطرية.

وخطا المؤتمر القطري الثامن في كانون الثاني 1985 خطوة أخرى بعدما انتصر الأسد على التمرد الإسلامي وعلى التحدي الذي مثله أخوه رفعت (راجع الفصل الأول) فأعلن أن حافظ الأسد هو زعيمنا إلى الأبد.

وأكد المؤتمر أن "الولاء له هو الولاء للحزب وللشعب وأهدافه، وأن عدم الولاء في أي شكل، هو انحراف خطير"(14).

اعتبر عفلق والبيطار البعث كحزب طليعي مشابه في هذه الناحية على الأقل، للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي ويجب أن يكون الانتساب إليه مضبوطاً بعنايه، وخلال حكم أسد خُفّفت شروط الانتساب ولقد أعلن الأسد وجهة نظره المعاكسة بعد أسابيع قليلة من استيلائه على السلطة.

"بعد هذا اليوم لن يكون البعث حزب النخبة"(15) ومنذ ذلك التاريخ توسعت عضوية الحزب بصورة دراماتيكية، ففي عام 1971 كان هناك 65398 عضواً (أي أعضاء كاملين أعمارهم فوق سن 18 عاما بالإضافة للأعضاء المساندين وأعمارهم فوق سن 14 عاماً). وعام 1981 قفز الرقم إلى 374332 وفي أواسط عام 1992 أصبح المجموع 1008243 أي النسبة المدهشة 14،5% من كل السوريين الذي هم في سن الرابعة عشرة وما فوق(16). واليوم مجموعهم (1،8) من مجموع السكان الذين هم في سن الرابعة عشرة وما فوق(17). وحملة زيادة العضوية كانت موازية لحملة التوسع في حجم القطاع العام. عشرات عشرات الألوف أصبحوا يعتمدون مباشرة على النظام من أجل معيشتهم (راجع الفصل الأول). وكان من الطبيعي أن يفتش الناس على مزيد من الأمن في –ظل – عضوية الحزب.

وتوسع الحزب لم يكن سهلاً تماماً، ففي تقرير تنظيمي عام 1985 ذكر أن الآلاف المؤيدين قد جندوا للدخول في الحزب دون اعتبار كامل للقوانين والمقاييس التي كانت سائدة في الفترة ما قبل المؤتمر القطري السابع في كانون الثاني عام 1980. ويذكر التقرير "أن الفوضى وفقدان السلوك –المناسب– بين صفوف المؤيدين أدى إلى توسع كان فيه العدد أهم من النوعيه".

والفوضى التي نجمت عن ذلك "أثقلت بشدة وأربكت القيادات الحزبية المتعاقبة وأجبرتهم على اتخاذ قرارات طرد جماعي أدت إلى طرد الآلاف"(18).

"في سورية حافظ الأسد" كانت الأولوية العالية منصّبة على الولاء السياسي، والولاء قد يجلب المنافع المادية والفوائد الأخرى. وكما أكد (بطاطو): "كان هناك شعور عام أن الحزب هو أحد السبل الممكنة (للارتقاء) في المجتمع" (19). فليس من المفاجئ إذن أن ما سماه الحزب الانتهازية انتشرت بأسلوب واسع وكانت سببا آخر للطرد –الجماعي-. وكان هذا التقرير التنظيمي عام 1985 استثنائيا وغير متحيز.

عندما أصبح (الكم) أكثر أهمية من (النوع) تسلل الانتهازيون إلى الحزب ومراتبه وشكلوا ظاهرة خطيرة.

هؤلاء الناس لا يتخلفون عن الاجتماعات ولا يتأخرون في دفع اشتراكاتهم الشهرية، ويعلنون طاعتهم وولاءهم والتزامهم. إنهم كالزئبق بدون أي رأى شخصي في حق أو باطل.

أهم اهتماماتهم هي الوصول إلى مراتب القيادة والمسؤولية لكي يحققوا أرباحاً معنوية ومادية ويقطفوا الثمار على حساب سمعة الحزب ومناضليه... يستغلون الفرص للحصول على منافع غير مشروعه بشرائهم بيوتاً وحاجات ثمينة وأراض زراعية ويراهنون في الأملاك العقارية، يقومون بدور –الوسطاء– السماسرة وبالتهريب مستغلين الحزب والآلية الحكومية لأهدافهم الشخصية دون أي اعتبار لمبادئ الحزب الثورية والنضالية (20).

ويكشف التقرير: أن عدد الذين طردوا من الحزب من عام 1980-1984 من هؤلاء الأعضاء المساندين لا يقل عن (133580) فرداً (أي ما يوازي تقريباً ثلث الأعضاء، وهذا بمقارنة المطرودين من الأعضاء الكاملين، وعددهم (3242) أي أكثر من نسبة 4% بقليل من مجموع الأعضاء العاملين –الكاملين– في نفس الفترة الزمنية.

وتمشياً مع نظرته إلى الدولة كشركة... الرئيس فيها يوجه الناس الموحدين في الباطن، يوحى النظام باستمرار أن ليس هناك اختلاف حقيقي بين الحزب والشعب ككل، وأن العضوية في الحزب ترقى إلى مستوى مظاهر الوطنية."دعني أعبر لك" هكذا أكد لي أيمن عبد النور، أحد المستشارين المقربين جداً من بشار الأسد، "حزب البعث" ليس حزبا مستورداً من الخارج. لقد بدأ هنا ولم يأتوا به، إنه يمثل الشعب... ودعني أذكر لك هذا أيضاً:  أن كل عضو في الحزب يمثل أربعة إلى خمسة أشخاص في عائلته.وهذا يعني أن المجموع الحقيقي لأعضاء الحزب هو تسعة ملايين – أكثر من 55% من شعبنا(21). وكان عبد النور يستعيد طرحاً قديما. فلقد قال الأسد للمؤتمر القطري الثالث عشر للحزب في تموز 1980 إنه بعد انقلابه، أكدنا أن على الحزب أن يجذب إلى صفوفه كل المواطنين، كل المناضلين، الذين هم كل الشعب، وكل الناس هم في الأساس أناس "طيبون ويؤمنون بوطنهم ويجب في حدود الإمكان سحبهم إلى الحزب" (22).

ميشيل كيلو الكاتب المقيم في دمشق والذي لعب دوراً قيادياً في حركة المجتمع المدني التي ازدهرت بعد استلام بشار الأسد للرئاسة، والذي سجن عام 1980 بعد ما طالب بإصلاحات سياسية، يصف الأمر بدقة وبلاغة:  "البعث لا يعترف بالمجتمع، إنه يعتبر أنه هو المجتمع" (23)).

إذا كان الحزب قادراً على تمثيل الغالبية العظمى من الشعب السوري فليس مستغربا إذا أن يضع في الدستور الجديد في آذار 1973، تحديداً يصف نفسه فيه "إنه الحزب القائد في المجتمع والدولة"، وأن يحفظ شعاره التاريخي، وحده حرية اشتراكية في مقدمة الدستور على أنه الروح الحقيقية لطموحات الشعب العربي" ولقد (تمأسس) البعث بصورة أكبر، وهو مموّل أصلا من خزينة الدولة، عام 1979 بإصدار قانون (53) الذي يغطي أمن الحزب، وفيه السجن لمدة طويلة لمجموعة من (الإساءات) منها الانضمام في نفس الوقت إلى حزب آخر، التسلل إلى حزب البعث من حزب آخر، مهاجمة مراكز الحزب، عرقلة نشاطات الحزب ومحاولة الحصول على معلومات سرية. وللمسيئين الذين يعملون "لمصالح أجنبية" عقوبة الإعدام جزاءً لهذه الانتهاكات.

وبموازاة التوسع في عضوية الحزب بعد الحركة التصحيحية أصبح الحزب هرمياً بصورة أشد، قبلا كان باستطاعة أعضاء الحزب انتخاب إدراتهم المحلية، ولكن بعد الانقلاب الأسدي صار الأمر تعييناً من القيادة القطرية المؤلفة من (21 عضواً) والمسؤولة عن 19 قيادة للفروع عن كل المحافظات الأربع عشرة، واحد لمدينة حلب (ومدينة دمشق هي المحافظة بذاتها) وواحد من كل جامعة من الجامعات الأربع والمسؤولون المحليون المهمون كرئيس البلدية ومدير البوليس (الشرطة) هم أعضاء نموذجيون في قيادة الفرع. وتحت هذه الفروع تأتي الوحدات الحزبية للنواحي وضواحي المدن وهكذا نزولاً حتى مستوى القرى.

نظرياً ينتخب الأعضاء ممثليهم في المؤتمر القطري الذي يعقد كل أربع سنوات. ولكن حتى عام 1975 كان المؤتمر يختار القيادة القطرية مباشرة. ولكن في كانون الثاني 1980 في قمة التمرد  الذي واجهه النظام من الإخوان المسلمين متحالفين مع المعارضة العلمانية، اختار المؤتمر اللجنة المركزية للحزب (وعدد أعضائها 75 عضواً). والهدف منها هو تحسين الاتصالات بين القيادة القطرية وفروع الحزب الأدنى منها، كذلك انتخاب أعضاء القيادة القطرية بواسطة أعضاء اللجنة المركزية. وفي المؤتمر القطري الثامن زيد عدد أعضاء اللجنة المركزية إلى 90 عضواً وخوّل الرئيس حافظ الأسد بتعيينهم. والواقع مع ذلك، هو أن كل المراكز الحزبية الهامة كانت مختارة مسبقاً من قبل حافظ الأسد... حتى القيادة القطرية ذاتها.

ومنذ عام 1970، القيادة القومية المهمة والتي رأسها الأسد، أصبحت لجنة شرفيه لها وظيفة استشارية فقط. ومع ذلك ظل الادعاء أنها أهم من القيادة القطرية لأنها – نظرياً فقط – تشرف على القضايا القومية وهي لذلك معنية بالوحدة العربية إحدى أهم أركان إيديولوجية حزب البعث. وكان هناك جهاز حزبي مواز يتغلغل في القوات المسلحة حتى مستوى – الكتيبة – ويدعّم مع الجهاز المدني في القيادة القطرية.

وبالإضافة لكون حزب البعث آلة لتجنيد وتحشيد وتحريك الولاء للرئيس فإنّه كلب الحراسة والمراقبة المهم فهو، مع وكالات الأمن الأخرى، يراقب كل العاملين الرسميين في الحكومة والذين يحتاجون باستمرار موافقة الحزب على كل نشاطاتهم مهما كانت مدنية الطابع. وهناك مكتب للتعليم العالي مسؤول عن الجامعات. ونظير وزارة الإعلام المكتب العقائدي للحزب ووظيفته المهمة الرقابة..

ومكتب الأمن الوطني –القومي– الذي كان شديد السطوة والسلطة في أواخر الستينات والذي فقد الكثير من وهجه الان ليحل محله عديد وكالات الأمن، كان يفحص و(يغربل) كل المرشحين لمجلس الشعب والمجالس المحلية ومكاتب النقابات وإدارات الجمعيات "المهنية".وبالاستعانة بأعضاء الحزب والمخبرين وصلت عيونه وآذانه وهوائياته اللاقطة إلى كل حي من أحياء المدن الكبيرة، والمدن الصغيرة. حتى أنها بلغت الأماكن الريفية البعيدة حيث لا يأمل البوليس السري والمخابرات العامة بالوصول إليها ومراقبتها بفعالية" هذا ما لاحظته جمعية (مراقبة الشرق الأوسط Middle East Watch)... وهي فرع من جميعة مراقبة حقوق الإنسان (24).

وكنظام وصاية، فإنّ أهم (مصادر) حزب البعث هي في قدرته على إيقاف التعيينات لكل المناصب، ومكتب الحزب الاقتصادي له رأي هام في الموافقة على المرشحين لكل نشاطات القطاع العام. ويزكّي كل أساتذة الجامعات وعمدائها مكتب التعليم العالي. حتى الذين لا ينتمون لحزب البعث يجب عليهم الحصول على موافقة الفرع المحلي للحزب قبل تعيينهم في أي من وكالات القطاع العام "والحزب" باختصار، يراقب الأشخاص أكثر من مراقبته للسياسات" هذا ما قاله (فولكر برتس) "وبالنسبة لهذه الوظيفة فكل عضو في قيادة حزب البعث هو سيد ذو سلطة قوية" (25).

وتحول حزب البعث إلى آلة سياسية لتوليد الولاء للرئيس وكلب حراسة للنظام لا يعني أن لا وجود للنقد أبداً. فمن وظائف الحزب أيضاً أن يعمل كوسيلة لنقل الشكاوي إلى القيادة. فالفساد مثلا كان يهاجم بقوة وانتظام في الاجتماعات الحزبية، ولكن في الوقت الذي تريده القيادة (لتنفيس الاحتقان)، والمؤتمرات الحزبية لها مُخرج أو أكثر يتقنون بدقة إخراجها المسرحي لذا فأي نقد مهما كان ناعما خفيفا للرئيس نفسه ولخطه السياسي هو أمر (محرّم).

المنظمات الشعبية – الجماهيرية

وبالإضافة لمشاهدة التضخم الهائل في عضوية حزب البعث لحظ عهد أسد توسعا في أعداد وأحجام المنظمات الشعبية ونشاطاتها المختلفة والتي يقودها ويديرها الحزب وتشكل عنصراً مهماً في شركة (الدولة) السورية. والعديد منها كانت من (مخلوقات) حزب البعث الجديدة بينما كان للمنظمات الباقية تاريخ طويل كمنظمات مستقلة سيطر عليها الحزب بعد ذلك تدريجيا أو غير ذلك، منذ عام 1963. ومثل كل وكالات الدولة الأخرى كانت وظيفتها عرض الولاء وتقويته للمساعدة في تطبيق وتنفيذ الأوامر الحكومية ونقل الشكاوى إلى المراكز العليا بانتظام، ومن المؤكد أنها شكاوى لا تتعدى مصالح الدوائر القريبة المباشرة لهذه المنظمات. ووضع هذه المنظمات مسجل في الدستور الذي أعلنه الأسد عام 1973 في المادة التاسعة التي تؤكد "إن المنظمات الشعبية والشركات التعاونية هي مؤسسات تضم قوى العمل الشعبية من أجل تنمية المجتمع، وتحقيق مصالح أعضائها" ولا تستطيع العمل إلا بالطرق التي يوافق عليها النظام الحاكم. والاضراب ممنوع في سورية منذ نيسان عام 1959 عندما كان القانون المصري للعمل معمولاً به في الاقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة. ويسمح القانون هذا بتأسيس منظمة عمل واحدة مربوطة بالحزب الحاكم. ولقد صدرت تشريعات جديدة في شباط عام 1964 بعد الانقلاب البعثي إلا أن منع القيام بإضرابات ومنع تشكيل اتحاد وطني مستقل بقيا في التشريعات الجديدة. وفي آب عام 2000 قدمت سورية للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة تقريراً وبينت فيه بنية اتحاد العمال فيها وأكدت "أن الدولة تحاشت حاجة العمال للجوء إلى الإضراب باعتمادها على عقود عمل جماعية ووسائل حميدة للتصالحات (26).

الاتحاد العام للفلاحين الذي شكل عام 1964 هو أكبر المنظمات الشعبية وكان عدد أعضائه، عام 2000 (94،236) ويربط اتحاد الفلاحين بالتعاونيات الزراعية، وهو مسؤول أمام مكتب الفلاحين في الحزب. وتلاميذ المدارس الابتدائية يجب أن يتسجلوا في منظمة طلائع البعث أما طلاب المدارس المتوسطة والثانوية فيجب أن يكونوا في منظمة (اتحاد شبيبة الثورة) (راجع الفصل الخامس). وطلاب الجامعات ينتظمون في الاتحاد الوطني للطلاب. وهناك الاتحاد النسائي واتحاد الكتاب واتحاد الحرفيين وغيرهم هكذا. وكان لإتحاد نقابات المهنيين كالأطباء والمحامين تاريخ طويل من التقاليد الاستقلالية وكانوا آخر من أُخضع لسلطة النظام. وكان لبعضهم دور هام في حركة المعارضة في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات حيث تعرض أعضاؤهم للاعتقال والتعذيب. ونقابات المحامين والأطباء والمهندسين أثبتت أنها الأكثر مرونة ولكن في عام 1980 و1981 عمد النظام إلى حلها جميعاً وأنشأ نقابات موالية مكانها. (راجع الفصل السادس).

على كل النقابات أن تنتسب إلى الاتحاد العام للنقابات العمالية الذي تشكل في آذار 1938 ولكنه الآن جزء من الدولة كما هو حزب البعث نفسه.

وفي عام 1975 ترأس الاتحاد عز الدين ناصر حتى عام 1980 ومن عام 1981 إلى حزيران 2000 وقت انعقاد المؤتمر القطري التاسع لحزب البعث ترأس ناصر أيضاً مكتب العمل في القيادة القطرية للحزب. وحالياً يربط الاتحاد العام 194 نقابة مجموع أعضائها (عام 2000) كان 820050 ويضم الاتحاد العام حالياً ثماني اتحادات مهنية هي نقابة عمال النسيج، نقابة عمال الخدمات العامة، نقابة عمال البترول والكيماويات، نقابة عمال البناء والنجارة، نقابة عمال المواصلات والنقل، ونقابة عمال الطباعة والثقافة والإعلام، نقابة عمال المعادن والصناعات الكهربائية، وعمال نقابة الصناعات الغذائية.

وغالبية عمال القطاع العام ينتسبون للاتحادات العمالية ويمثلون الكتلة الأكبر من الأعضاء. أما ما مدى نمو ونسبة النقابات في القطاع الخاص المتطور حديثا (باستثناء عمال الحوانيت والمزارع العائلية) فهو غير مؤكد تحديداً ولكنه لا يزيد عن حوالي 20% أما حجم هذه القوة العمالية في القطاع الخاص الحديث فغير مؤكد أيضاً، ولكن في عام 2002 كان مجموع أعداده (400000). ومديروا الشركات في القطاع الخاص الذين يريدون تحاشي قيام كتلة عمالية نقابية يعمدون على ما يبدو، لرشوة أعضاء الحزب العاملين عندهم لإبقاء الوضع على ما هو عليه.

والعمال غير النقابين في القطاع الخاص يعملون حوالي 14 إلى 16 ساعة في اليوم بدون أي ضمان اجتماعي رسمي أو ضمانات اجتماعية أخرى (27).

ويبرزُ اتحاد النقابات الانقياد السهل لعمالها بتعابير مشابهة لما تستعمله أجهزة الدولة الأخرى في تفسير انقيادها: أن الرئيس يعرف تماما مصلحة البلد وكل مكوناته ويتصرف حسب تلك المعرفة والمصلحة. لذلك يسود الإجماع ويعم التناسق وبالتحديد ليس هناك مجال للنزاع. وينتج عن هذه الحالة أن كل احتكاك قد يحصل يُعزى لحقد أو خبث أو لأعداء أجانب... إلى غير ذلك من الأسباب المشابهة. والمؤتمر العام للاتحاد العمالي عام 1972 أكد أن دور الاتحادات تحت حكم البعث هو دور سياسي أكثر مما هو مطلبي كما هو الحال و الحاجة في النظم الرأسمالية.

وليس الدور هذا مفيداً ولا إيجابيا بل على العكس إنه نوع من التخريب في النظام الاشتراكي. ولاحظ (برتس) تعقيباً: "في الواقع ورغم هذا الطنين الظاهر فالاتحادات (المسيسة) تعني تخلي النقابات عن دورها السياسي المستقل" (28).

وأثير موضوع (الوحدة) ورجع إليها لتبرير (الرأي الواحد) في بنية اتحاد العمال. ففي خطاب موجة إلى الجسم الأكاديمي في جامعة دمشق في شباط 2001، كجزء من الهجوم المعاكس للنظام على حركة المجتمع المدني، تساءل نائب الرئيس عبد الحليم خدام: " هل عندنا اتحاد عمالي عام؟ نعم عندنا، وهل يسيطر حزب البعث على الاتحاد؟ نعم، لماذا؟ لأن البعثيين فيه يشكلون الغالبية في هذا الاتحاد، وما عساهم يفعلون هل يصوتون لمنافسيهم خلال انتخابات الاتحاد؟ واستحضر خدام أن الولايات المتحدة ضغطت على سورية لتسمح باتحاد عمالي مستقل، وأشار خدام إلى مذكرة تطالب بتعدد الاتحادات في سورية والتي قدمها سفير أميركا في دمشق عام (1998-2001) ريان كروكر، والذي أصبح فيما بعد معاون وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى منذ أواسط 2002 إلى عز الدين ناصر. أي بتعبير آخر أراد أن يصبح اتحاد العمال الواحد عشرة اتحادات، وتابع خدام خطابه "وهذا يعني تفتيت الحركة العمالية" (29).

بشار... والحزب

رغم كل أحاديث الاصلاح والتحديث لم يتغير الحزب ذرة واحدة منذ تسلم بشار الرئاسة. صحيح أن أواخر عام (2000) آتُخذ قراران على مسؤولي الحزب أن يُنتخبوا ولا يعينوا من أعلى. لكن هذا الأمر بالكاد أن يسمى فجر عهد ديمقراطي جديد.

إنه عودة إلى ما درج عليه الأمر قبل الحركة التصحيحية. فالضبط لا يزال مركزياً محكماً. وليس الأمر فقط في أنّ كل المرشحين للانتخابات الحزبية يجب أن يحصلوا على موافقة المسؤولين.

في المؤتمر القطري التاسع (حزيران -2000) انتخبت قيادة قطرية جديدة مكونة من واحد وعشرين عضواً. بينهم أحد عشر، بالإضافة لبشار، اختيروا لأول مرة، بعضهم من التكنوقراط وادعى المسؤولون أن هذا الاختيار يدل على التغيير والتجديد في سياق الاستمرارية... طبعاً. ومهما كانت مزاياهم فكلهم من أعضاء الحزب أي من الموالين للنظام قلباً وقالباً، ومنهم رئيس الوزراء محمد ميرو، ووزير الخارجية العتيق في منصبه فاروق الشرع، ونائب رئيس مجلس الوزراء محمد ناجي القطري.

واحتفظ (الحرس القديم) بعضويتهم في القيادة بما فيهم نائبا رئيس الجمهورية عبد الحليم خدام ومحمد زهير مشارقة، ورئيس مجلس الشعب عبد القادر قدورة، وعبد الله الأحمر الأمين العام المساعد لحزب البعث الذي احتفظ لمدة طويلة بمركزيه في الحزب وفي القيادة القطرية منذ انقلاب الأسد عام 1970، ومصطفى طلاس وزير الدفاع منذ العام 1972. وهذه التشكيلة في القيادة القطرية لا توحي بأنها مستعدة ل (نقض) هذا النظام المعتل.

واختار المؤتمر أيضاً لحنة مركزية جديدة تضم أخا بشار (الأصغر منه) ماهر، وهو رائد في الجيش، ومناف طلاس ابن وزير الدفاع مصطفى طلاس، ورئيس الأركان على أصلان، والمدراء والمدراء السابقون لشبكة المخابرات الأربع الأساسيه على الحوري (مدير المخابرات العامة المتقاعد)، حسن الخليل (مدير المخابرات العسكرية، عدنان بدر حسن، الأمن السياسي، وإبراهيم حويجة (مدير مخابرات القوات الجوية). ضمت اللجنة الجديدة ست عشرة امرأة بالمقارنة لثلاث فقط في اللجنة السابقة.من المؤكد أن التغييرات بيّنت صعود الجيل الشاب وأغلبهم أولاد من هم في النظام. وبالنسبة للصفوة من السوريين لم يكن هناك الكثير من الاستنتاجات المطمئنة.

بعض المعلقين وجدوا بعض المغزى من تقليل عدد البعثيين في الوزارة (وزارة محمد علي ميرو) إلى تسعة عشرة فقط، والتي تشكلت في كانون أول عام 2001 وزيادة بالمقابل، لعدد الوزراء المستقلين وحلفاء حزب البعث من الجبهة الوطنية التقدمية (الائتلاف الذي سيطر عليه حزب البعث، وهو مكون من مجموعة أحزاب يسارية سمح لها النظام في الوجود (راجع الفصل الخامس). والوزارة السابقة التي شكلت في ظل حافظ الأسد في 7 آذار عام 2000 ضمت (26) وزيراً من حزب البعث (30). ومرة أخرى كانت هناك إشارات متعارضة ولاحظ بعض المعلقين أن تركيبة الوزارة الثانية لمحمد ميرو توحي بالتراجع".جاءت وزارة ميرو الجديدة دون أي إشارة إلى أن الحديث حل محل القديم". هذا ما علق عليه صبحي حديدي، والأسوأ من الاستنقاع، مع ذلك هو إمكانية أن تكون هذه الوزارة الجديدة، فعلا، خطوة إلى الوراء" (31).

معاكسة حركة المجتمع المدني:  النشرة رقم 1075: لم تُعِر إفلاس إيديولوجية البعث شيء "مثل ردها على حركة المجتمع المدني. فمنذ شباط 2001 طاف كبار المسؤولين في الحزب بسورية مستنكرين ومدينين للحركة متهمينها تقريبا بالخيانة. (راجع الفصلين الثاني والثالث). وأهم بيان رسمي لموقف الحزب من الحركة كان في النشرة رقم (1075):  منشور طويل صدر في 17 شباط 2001 وظهر في جريدة البعث الداخلية:  المناضل، وكان بيانا كلاسيكيا من البلاغة الإنشائية في الحزب مؤكداً أن الثورة أزالت كل العوائق الموضوعية من خلال الحركة التصحيحية التي قادها الزعيم الخالد حافظ الأسد وذكر بأن الأسد قال: "إن مسيرة الحزب هي مسيرة التاريخ والحياة" وترنم البيان بالوحدة الوطنية والاستقرار الذي أنجزهما النظام. وفسر البيان –المنشور– إن برنامج بشار الأسد في التنمية والتحديث هو نتيجة طبيعية لانجازات والده".وهي متكاملة مثل الشجرة والجذع والأغصان". كما أكد البيان.

في الماضي شكت "عملية التنمية الشاملة" من بعض النواقص مثلاً: " ضعف الرقابة، وفقدان الكفاءة وضعف المؤسسات" وهذه سببت مظاهر شاذة مثل الفساد والرشوة والكسل والتراخي، وانعدام المسؤولية والبيروقراطية، إلا أن التدابير قد اتخذت لمعالجة هذه التشوهات".

وأشار البيان إلى سلسلة من المعوقات "الموضوعية" للتنمية في سورية بما في ذلك الزيادة السريعة في عدد السكان وانهيار الأسواق التقليدية في الكتلة السوفييتة والحاجة لنفقات عالية على الدفاع. والإصلاحات المحدودة التي وافق عليها النظام والمشكلات عرضت على أنها الجواب الكافي على الصعوبات والمشكلات التي تعانيها سورية. وأشار البيان إلى إعادة الأسلوب الانتخابي داخل الحزب بعد أن حل التعيين محل الانتخاب، والسماح لأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية بافتتاح مكاتب لها في المحافظات بعد ما كان ذلك ممنوعاً حتى حينه، وتوزيع صحفها والتخطيط للسماح بافتتاح مصاريف- بنوك- خاصة وسوق للأسهم – البورصة – وإنشاء جامعات خاصة. وألح البيان على أن "أية تنمية لا تقودها قوة قادرة ومنظمة ومدعومة بكتلة جماهيرية عريضة، ستكون نتيجتها الفوضى، وربما الانهيار الشامل".

وهاجم البيان المنشور بشدة حركة المجتمع المدني "على أنها استغلت جو الحوار"، وأن بعض نشطائها هم من المطرودين من أحزابهم التي انتموا إليها سابقاً وبعضهم يتطلع إلى الدول الغربية وآخرون منهم من "الانتهازيين المستقلين الذين لا هم لهم إلا الوصول للسلطة". وحذّر البيان أنه "ليس من المستبعد أن يكون لبعضهم (علاقات) بالغرب".

وركّز بعض نشطاء حركة المجتمع المدني على النواحي السلبية التي بدأ الحزب والحكومة التعامل معها. ولكن البعض الآخر رأى أن الأولوية في الإصلاح السياسي هي إنهاء هذا النظام القائم. إن الذين ارتأوا التغيير السياسي الجذري "أرادوا استئصال الوحدة الوطنية والاستقرار والعودة إلى عهد الاحتلال الأجنبي، والانقلابات والتوتر والفوضى والتخلف الاجتماعي والاقتصادي".كما أشار البيان –المنشور- كذلك ادعى البيان ان حركة المجتمع المدني تناست ذكر (الخطر الصهيوني) الذي تواجهه سورية والعالم العربي، "وسواء قصدوا ذلك أم لا فإنهم – أي نشطاء المجتمع المدني– يضرون بمصلحة وطنهم لأنهم يخدمون أعداءه ويجب أن يتحملوا مسؤولية أعمالهم" على حدّ تحذير البيان. وحث البيان أعضاء الحزب على المزيد من الجهود في مواجهة ما أثارته حركة المجتمع المدني من نقاشات "وأن يدافعوا عن سياسات الحزب ومبادئه وأهدافه الكبيرة".

والمشكلة طبعاً هي أن الحزب لا يملك أية سياسات أو مبادئ أو أهداف غير هدف السلطة من أجل السلطة وعبادة الزعيم. ومواضيع (الاستقرار) و(الوحدة الوطنية) و(الخطر الصهيوني) هي فقط "حجج" لعدم القيام بأي نشاط أو عمل.

والحقيقة هي أن البيان –المنشور- رقم 1075 والحزب المعتل الذي أصدره لا يقدم لسورية إلا الاستنقاع.

أما بالنسبة لبشار ومقابلته في 8 شباط عام 2001 لمراسل جريدة الشرق الأوسط، فكل ما استطاع قوله في موضوع حزب البعث هو أن الحزب قام على الأساس القومي العربي وبعث الأمة العربية...

"... كما أرى الأمور اليوم تتحرك باتجاه إحياء حركة القومية العربية بخاصة بعد الانتفاضة (في الأراضي الفلسطينية المحتلة). ولن يلغى الحزب إلا إذا ألغيت فكرة القومية العربية الشاملة".

إنه التغاير المقابل التام لمثالية السنوات المبكرة لعفلق والبيطار والحوراني عندما ضحى الأطباء أعضاء الحزب، بمبادرتهم الشخصية، دون دعوة من زعمائهم وسافروا مترجّلين لتوفير الخدمات الطبية المجانية للفلاّحين في المناطق النائية والقرى المهملة، وحين أرسل بعض الناشطين البعثيين بعض أولاد الفلاحين الذين توسموا فيهم النجابة إلى المدارس الثانوية في المدن على نفقتهم الشخصية أو درّسوهم في بيوتهم مجاناً" (32).

أما رئاسة الحزب الآن فهي في بناية تحت حراسة شديدة مدسوسة بين وزارة الدفاع ورئاسة أركان القوات الجوية في الحي المترف بدمشق (أبو رمانة)، فالبعث اليوم هو آلة مسخرة تماما للسلطة العارية والحزب الذي فشل حتى في الاعتراف أن سورية في أزمة، يسلم فقط بحدوث (أخطاء) و(انحرافات) يمكن تصحيحها.

وأعضاء الحزب، حتى لا نذكر الشعب بعامته مطلوب منهم أن يسايروا الخرافة وإلا اتهموا بعدم الولاء للنظام.... أو حتى بالخيانة.

في كتاب جورج أرول (ألف وتسعمئة وأربع وثمانون) 1984 Niteen Eighty – Four)  يستغرق بطل الرواية (ونستون سميث) في التفكير ويقول:

"في النهاية يعلن الحزب أن 2+2=5 وعليك أن تؤمن بذلك. يقول لك الحزب إن عليك أن ترفض ما شاهدته عيناك وسمعته أذناك من أدلة.

.... وهو أمرهم الأخير... الأكثر جوهرية" (33).