سوريا ...لا خبز ...ولا حرية 4
سوريا ...لا خبز ...ولا حرية – 4
د.خالد الأحمد *
نشر الصحفي البريطاني ( آلن جورج )هذا الكتاب بالانجليزية عام (2003) وترجم إلى العربية من قبل الدكتور حصيف عبد الغني عام (2006) وهذه مقتطفات من الكتاب كالخلاصة ، ومابين المعقوفتين للباحث الحالي .
الفصل الرابع
الحزب القائد في المجتمع والدولة
ولد حزب البعث في الأربعينات وسط فوران المثالية في الوحدة العربية الشاملة والأمل بتوحيد المنطقة للتخلص من الوصاية الاستعمارية وإنجاز توزيع أعدل للثروة بين الحكام والمحكومين. وفي ظل سلطة الأسد تحولت هذه الشعارات إلى آلة لتوليد الولاء للرئيس مجردة من أي إيديولوجية متماسكة [ وبعد أن استخدم حافظ الأسد الحزب كسلم صعد عليه واستولى على ملكية سوريا ؛ عندئذ همش الحزب ، وطرد مناضليه الشرفاء أو قتلهم ( مثل عمران ) أو سجنهم ( مثل جديد ) أو شردهم ( مثل مؤسسي الحزب عفلق والحوراني والبيطار ، وحول الحزب إلى آلة لتوليد الولاء ] ...
والمؤتمر القطري في حزيران عام 2000 وهو الأول بعد خمسة عشر عاماً، يشي بالكثير عن حالة الحزب، "البعث هو في حالة فوضى عارمة" هذا ما قاله الكاتب السوري المنفي صبحي حديدي".إنه كالجسم الميت، لم يعد حزباً بالمعنى العادي للكلمة". ويؤكد حنا بطاطو كبير مؤرخي البعث وأصوله الاجتماعية وتطوره فيقول :
"في ظل سلطة الأسد تغيرت طبيعة حزب البعث، فاستقلالية أفكار أعضائه التي تمتعوا بها في الماضي، حجِّمت الآن فالأولوية أصبحت للامتثال . لقد أصبح الحزب في الواقع أداة حاول النظام استعمالها لضبط المجتمع بعامة أو لتحشيده وراء سياساته. وتحول (الكادر) الحزبي بصورة متزايدة إلى بيروقراطيين ومهنيين مزمنين ولم يعد لهم الحيوية النابضة على المستوى الإيديولوجي كما كانوا في الخمسينات والستينات.
· زكي الأرسوزي من أهل انطاكية، قاد في فترة 1936- 1938 الحركة المناوئة لتركيا في محافظتة والذي ادعى أنه هو أول من أطلق التعبير البعث اسماً لحركة سياسية. والأرسوزي خريج جامعة السوريون وكان واحداً من آلاف العرب الذين فروا جنوباً من سنجق الاسكندرون عندما سلّم لتركيا... استقر الأرسوزي بعد ذلك في دمشق وعاش في ضيق مادي شديد .
ومجموعة الأرسوزي ضمرت وخاب ظنه هو نفسه بالسياسة، [ بينما قامت ]مجموعة أخرى رئيسها ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، المدرسان في ثانوية تجهيز دمشق كلاهما من خريجي السوريون، (البيطار) مسلم سني كان يدرِّس الفيزياء بينما (عفلق) مسيحي أرثوذكسي كان يدرس التاريخ. وسميت مجموعتهما ابتداءً: حركة الإحياء العربي وأصدرت أول بلاغاتها في عام 1941 ومنذ عام 1943 استعملت اسم حركة البعث العربي. وعام 1945 تشكل أول مكتب تنفيذي للحزب. وتأسس رسمياً وشرعياً في مؤتمر عقد في نيسان /1947/ بمقهى الرشيد في دمشق . ولقد انضم للحزب الجديد أغلب أتباع زكي الارسوزي والأخير لم يحضر هو نفسه المؤتمر الأول، وحسب مختلف الروايات لم يغفر أبداً لعفلق وبيطار سرقتهما لاسم (البعث) منه.
وفي سنواته الأولى دعا حزب البعث لوحدة عربية وعدل اجتماعي كسبيل للإحياء العربي، ولم يكن تماماً حركة جماهيرية .[ بل كان نخبة مثقفين ] .
كان تعداد أعضائه بضعة مئات أغلبهم من الطلاب الريفيين وفي بداية الخمسينات كان تعداد أعضائه حوالي (4500) تقريباً. ومن ضمن هؤلاء كان أحد الطلاب الثانويين في اللاذقية واسمه حافظ الأسد، وآخر اسمه عبد الحليم خدام ليصبحا بعد فترة رئيساً ونائباً لرئيس الجمهورية. وإحدى علامات تاريخ نمو البعث كانت عام /1952/ عندما اندمج بالحزب العربي الاشتراكي لأكرم الحوراني، وهي خطوة أعطت الحزب جماهير أنصاره من الفلاحين. وأكرم الحوراني محام من مدينة حماة (حيث سُوّيَ مركز حزبه بالأرض، من قبل قوات البعث التي أخمدت ثورة إسلامية عام 1982).
وفي عام 1950 نظم الحوراني أتباعه في الحزب العربي الاشتراكي ومركزه في مدينة حماة . وعلى حد قول (باتريك سيل): "كان (الحزب الجديد) ائتلافاً بين طبقة بيروقراطيين ومدنيين: مدرسين وموظفين في الدولة وأمثالهم مع ثوريين من الأرياف". بينما لاحظ (بطاطو) إن "الدمج لم يكن أكثر من تجمع خفيف" حيث انضم فقط ثمانون من قادة الحزب العربي الاشتراكي للحزب الجديد. أما أفراد الحزب العربي الاشتراكي فبقوا على ولائهم الشديد لشخص أكرم الحوراني .
البعث الجديد [ البعث الأسدي ]
مهما كانت أخطاؤه ومثالبه فإن حزب البعث الأصلي – القديم - على حد تعبير (بطاطو) كان على الأقل حزباً سياسياً أصيلاً له سياساته ( أو على الأقل مثالياته وطموحاته وأعضاؤه وكان له بعض النجاح في الانتخابات [ وهذا ما أطلق عليه في كتاباتي البعثيين الشرفاء ]، ولكن حل محله شيء مختلف تماماً: لجنة عسكرية سرية أسست عام 1959 على يد ضباط سوريين منقولين إلى القاهرة (ومن ضمنهم حافظ الأسد)، وكانوا معارضين بشكل متزايد للوحدة التي قامت – واللجنة العسكرية التي سيطر عليها ضُباط من الأقليات، عملت بسريّة تامة حتى عام 1964 لدرجة أن الزعماء التاريخيين للبعث بقوا تماماً حتى ذلك الوقت في الظلام ولم يعرفوا بوجودها ولا بأهدافها الحقيقية" .
كان على [ البعث الأسدي ] أن يحكم بالقوة وليس بالرضى الشعبي ، كانوا جزءاً عسكرياً منشقاً عن حزب سابق ،لم يكن لهم أي قاعدة شعبية. وتجربة أيامهم الأولى [ الانقلاب العسكري ] أثرت في سلوكهم لسنوات طويلة قادمة: حتى عندما قوي الحزب وصار آمناً على حياته – لم يتخلص أبداً من عاداته في الإنهاك والقهر .
كان الصراع على السلطة فقط. كما يقول (بطاطو): لم تكن أبداً الاختلافات داخل الحزب طائفية محضة أو مناطقية محضة... غالباً ما كانت العوامل الشخصية والطموح للوصول للسلطة هي موضوع الخلاف. ووصل الخلاف أوجه في المؤتمر الاستثنائي العاشر لحزب البعث الذي عقد في دمشق من 30 تشرين الأول حتى 12 تشرين الثاني عام 1970. وكانت المداولات فيه تبادل اتهامات قاسية حيث أدان جديد الأسد متهماً إياه بأنه فاشستي خلق ثنائية في السلطة السورية. وختم المؤتمر أعماله بتبني قرار يجرد الأسد من منصبه كوزير للدفاع وأزاح حليفه الهام المسلم السني مصطفى طلاس، العضو السابق في اللجنة العسكرية الذي أصبح رئيساً للأركان في بداية عام 1968.
ولم يتأخر الأسد في الرد، ففي ليل 12-13 تشرين أوقف رجاله صلاح جديد ومعاونيه المقربين وفي 16 تشرين ثاني جاء الإعلان الرسمي لما سماها الأسد (حركة تصحيحية والتي كانت حقيقة انقلاباً عسكرياً. وأخيرا وصل الأسد إلى قمة السلطة حيث تفوق على كل زملائه في اللجنة العسكرية . وكان نجاحه نهاية حزب البعث كقوة مستقلة بل وحتى كندوة للنقاش الجدي.
أسد وعبادة الزعيم
بعد استيلائه على السلطة في تشرين ثاني 1970 يقال أن حافظ الأسد فكر في إلغاء حزب البعث كله. وعوضاً عن ذلك اختار أن يحوّله إلى مؤسسة قوية للضبط السياسي وبنفس الوقت يمكنه إضفاء مظاهر الشرعية على رئاسته.
ولم يستطع الحزب أبداً منافسة المخابرات ولا الصفوة التي تحمي النظام من التشكيلات العسكرية كالحرس الجمهوري والقوات الخاصة. تحت حكم الأسد تحول حزب البعث كما لاحظ (فولكر برتس )؛ فأضاع صفته الطليعية وأصبح أداة لتوليد دعم جماهيري وضبط سياسي.
وفي أيار عام 1971 حيّت القيادة القطرية الجديدة لحزب البعث أسد على أنه قائد المسيرة الوطنية. وأكد الشعب السوري على حاجته لزعيم قائد وبدأ يرى في الرفيق حافظ الأسد هذا الزعيم القائد على حد تعبير القيادة القطرية.
وخطا المؤتمر القطري الثامن في كانون الثاني 1985 خطوة أخرى فأعلن أن حافظ الأسد هو زعيمنا إلى الأبد.
ولقد أعلن الأسد وجهة نظره بعد أسابيع قليلة من استيلائه على السلطة.
فقال : "بعد هذا اليوم لن يكون البعث حزب النخبة" ومنذ ذلك التاريخ توسعت عضوية الحزب بصورة دراماتيكية، ففي عام 1971 كان هناك 65398 عضواً . وعام 1981 قفز الرقم إلى 374332 وفي أواسط عام 1992 أصبح المجموع 1008243 . وكان من الطبيعي أن يفتش الناس على مزيد من الأمن في – ظل – عضوية الحزب.
وتوسع الحزب لم يكن سهلاً تماماً، ففي تقرير تنظيمي عام 1985 ذكر أن الآلاف المؤيدين قد جندوا للدخول في الحزب دون اعتبار كامل للقوانين والمقاييس التي كانت سائدة في الفترة ما قبل المؤتمر القطري السابع في كانون الثاني عام 1980. ويذكر التقرير "أن الفوضى وفقدان السلوك – المناسب– بين صفوف المؤيدين أدى إلى توسع كان فيه العدد أهم من النوعيه".
وكما أكد (بطاطو): "كان هناك شعور عام أن الحزب هو أحد السبل الممكنة (للارتقاء) في المجتمع" . فليس من المفاجئ إذن أن ما سماه الحزب الانتهازية انتشرت بأسلوب واسع وكانت سبباً آخر للطرد –الجماعي-. وعندما أصبح (الكم) أكثر أهمية من (النوع) تسلل الانتهازيون إلى الحزب ومراتبه وشكلوا ظاهرة خطيرة.
هؤلاء الناس لا يتخلفون عن الاجتماعات ولا يتأخرون في دفع اشتراكاتهم الشهرية، ويعلنون طاعتهم وولاءهم والتزامهم. إنهم كالزئبق بدون أي رأى شخصي في حق أو باطل. أهم اهتماماتهم هي الوصول إلى مراتب القيادة والمسؤولية لكي يحققوا أرباحاً معنوية ومادية ويقطفوا الثمار على حساب سمعة الحزب ومناضليه... يستغلون الفرص للحصول على منافع غير مشروعه بشرائهم بيوتاً وحاجات ثمينة وأراض زراعية ويراهنون في الأملاك العقارية، يقومون بدور – الوسطاء– السماسرة وبالتهريب مستغلين الحزب والآلية الحكومية لأهدافهم الشخصية دون أي اعتبار لمبادئ الحزب الثورية والنضالية .
وقد وصف ميشيل كيلو ر بدقة وبلاغة فقال : "البعث لا يعترف بالمجتمع، إنه يعتبر أنه هو المجتمع" . لذلك يصف نفسه فيه "إنه الحزب القائد في المجتمع والدولة"،
وبعد الحركة التصحيحية أصبح الحزب هرمياً بصورة أشد، قبلا كان باستطاعة أعضاء الحزب انتخاب إدراتهم المحلية، ولكن بعد الانقلاب الأسدي صار الأمر تعييناً من القيادة القطرية المؤلفة من (21 عضواً) والمسؤولة عن 19 قيادة للفروع .
ومنذ عام 1970، القيادة القومية المهمة والتي رأسها الأسد، أصبحت لجنة شرفية لها وظيفة استشارية فقط. ومع ذلك ظل الادعاء أنها أهم من القيادة القطرية لأنها – نظرياً فقط – تشرف على القضايا القومية وهي لذلك معنية بالوحدة العربية إحدى أهم أركان إيديولوجية حزب البعث.
والمشكلة طبعاً هي أن الحزب لا يملك أية سياسات أو مبادئ أو أهداف غير هدف السلطة من أجل السلطة وعبادة الزعيم. ومواضيع (الاستقرار) و(الوحدة الوطنية) و(الخطر الصهيوني) هي فقط "حجج" لعدم القيام بأي نشاط أو عمل.
أما رئاسة الحزب الآن فهي في بناية تحت حراسة شديدة مدسوسة بين وزارة الدفاع ورئاسة أركان القوات الجوية في الحي المترف بدمشق (أبو رمانة)، فالبعث اليوم هو آلة مسخرة تماماً للسلطة العارية والحزب الذي فشل حتى في الاعتراف أن سورية في أزمة، يسلم فقط بحدوث (أخطاء) و(انحرافات) يمكن تصحيحها.
وأعضاء الحزب، حتى لا نذكر الشعب بعامته مطلوب منهم أن يسايروا الخرافة وإلا اتهموا بعدم الولاء للنظام.... أو حتى بالخيانة.
في كتاب جورج أرول (ألف وتسعمئة وأربع وثمانون) 1984يستغرق بطل الرواية (ونستون سميث) في التفكير ويقول:
"في النهاية يعلن الحزب أن 2+2=5 وعليك أن تؤمن بذلك. يقول لك الحزب إن عليك أن ترفض ما شاهدته عيناك وسمعته أذناك من أدلة.
.... وهو أمرهم الأخير... الأكثر جوهرية" .
تعليق [ هذا ما يريده البعث الجديد البعث الأسدي ولكن البعثيين الشرفاء البعث الحقيقي لن يرضى بذلك ، وقد شكلت قيادة قطرية مؤقتة جديدة ، وسوف تعمل على إعادة حزب البعث العربي الاشتراكي ، حزب الوحدة والحرية والعدالة ، حزب الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة ، وسوف ينضم لهذه القيادة مابقي من البعثيين الشرفاء ، والموجود ين في البعث الأسدي ، وينسلخون عن صف الطغاة ، ليقفوا في صف الشعب العربي السوري ، وعسى أن يكون ذلك قريباً ] ..
*كاتب سوري في المنفى باحث في التربية السياسية