حدثني جدي

 قبل أكثر من سبعين عاماً

قطاع غزة .... ما لم يكتبه التاريخ

تحسين أبو عاصي *

– غزة فلسطين –

[email protected]

{متفرقات من هنا وهناك في حياة الفلسطينيين ما قبل النكبة ، على لسان الأجداد}

كافة الحقوق محفوظة إلا بإذن صاحبها

الإهداء

إلى زوجتي الصابرة التي وفرت لي كل راحة من أجل إعداد هذا الكتاب .

إلى أبنائي الأعزاء الذين حرصوا على معرفة تراثهم الشعبي الفلسطيني ، والذين لمست بأعينهم حباً لوطنهم ؛ وحثوني بإصرار على إنجاز هذا الكتاب .

إلى طلاب وطالبات مدارسنا وناشئتنا من أجل الحنين إلى الوطن .

إلى زملائي وزميلاتي من المعلمين والمعلمات .

أهدي كتابي هذا

التمهيد

يعتبر التراث في جميع المجتمعات البشرية أحد عوامل النصر أو الهزيمة ؛ بسبب تأثيره على الوعي المجتمعي ، فهو يربط فكر ووجدان المرء في مقومات واستمرارية تواجده وهويته التي تغذي مقاومة اندثاره وذوبانه ، فقد تعرضت كثير من التجمعات البشرية للطمس والتذويب بسبب ضعف جذورها التراثية ، والتي لم تضرب عميقا في تربة البناء العقلي والسيكولوجي في تنشئة الإنسان ، كما حافظت تجمعات بشرية أخرى على عوامل ديمومتها وحيويتها وأثبتت هويتها وعمق انتمائها ، ووقفت شامخة أمام الأعاصير والمحن التي واجهتها ، كالآشوريين والكلدانيين والصابئة في العراق وسوريا ، والبربر في المغرب العربي ، فقد حافظت على بقائها رغم قلة عددها ومحدودية إمكانياتها من حيث المؤسسات والتعليم والتمويل والإعلام ، وذلك بفضل تمسكها بتراثها وبطقوسها وعاداتها الضاربة عميقا في البنى الفكرية والنفسية لتلك المجتمعات .  

ولا شك بأن التراث له كثير من الصور والمظاهر، وهو عميق ومتشعب ، ولذلك فهو متأصل في حياة المجتمعات التي حافظت عليه ، كما انه الملهم الأول في تحقيق ثوابتها وتفاعلها بين الشعوب ، وهو شكل من أشكال الثقافة ، والثقافة عنوان يدل على تقدم الجماعة أو تأخرها .

وما يتميز به الشعب الفلسطيني رغم  حرب العدو المفتوحة ضدنا هو تمسكه بتراثه ، فنحن شعب لن نذوب ولن نتلاشى بإذن الله تعالى ، ولا زلنا نعكس عمق حضارتنا وتمسكنا بجذورنا العميقة وبهويتنا القومية والوطنية ، نورثها إلى أجيالنا جيلا بعد جيل حتى العودة إلى أرض فلسطين بإذن الله تعالى مهما طال الزمن ، ومهما يحاول العدو طمس تراثنا فستظل لمعالمه حضوراً قوياً بالوعي الفلسطيني الذي يتطور عبر الأجيال ومراحل النضال ، وذلك من خلال المحافظة على عراقة وأصالة هذا التراث الغني العظيم الذي مزج ما بين الاجتماعي والأخلاقي والوطني ، والديني والقومي والتاريخي مزجاً جميلا له روح مبدعة خلاقة ، بحيث شكّل جماله في الوعي الفلسطيني مصدراً قوياً من مصادر الاعتزاز بوطننا وشعبنا وهويتنا ، مما جعله حاضرا في كثير من مجالات الحياة معبرا عن الضمير الحي للشعب الفلسطيني ، من أجل ذلك لا يزال العدو يبذل كل محاولاته لطمس معالم تراثنا وتذويبها ومن ثم تلاشيها ونسيانها من خلال السرقة والضم والهدم والعرقلة والتزييف ، بهدف فصل الفلسطيني عن ماضيه وتاريخه وحضارته ، وذلك من خلال عملياته المنهجية والمدروسة ، مستغلا ضعفنا وتفرقنا ، فقد أعلن مؤخراً عن تغيير أسماء شوارعنا العربية إلى أسماء يهودية ، وتدمير مقابرنا ومزارات وأضرحة الأولياء ، واعتبار مواقعنا التراثية جزءا من متاحفهم وتراثهم كما حصل مؤخرا من إعلانهم عن ضم المسجد الإبراهيمي في الخليل وقبر النبي يوسف عليه السلام في نابلس إلى متاحفهم وتراثهم وتاريخهم في مارس 2010م ، وكذلك التهديد الواقع على أهالي قرية كفل حارس شمال محافظة سلفيت بالضفة الغربية بسبب التوسع الاستيطاني ومحاولة المستوطنين السيطرة على ثلاثة مقامات إسلامية بالقرية ، كما يوجد بالقرية مقامات ذي الكفل وذي النون ومقام ثالث بناه السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ، ويسعى المستوطنون لتحويل المقام إلى مزار توراتي ، وأطلقوا عليه مقام يوشع بن نون ، وهو اسم قائد جيش النبي موسى { عليه السلام } الذي دخل فلسطين من جهة أريحا كما يدّعون.

ولا يزال العدو يسرق تراثنا ويعرضه في محافله على أنه تراث يهودي ، كما حصل في معرض في فندق هيلتون وأزياء ديان في تل أبيب ، أو بيعها في الأسواق باعتبارها بضاعة إسرائيلية قديمة ، كما تقوم دولة الكيان بعرض حفلات الدبكا في أوروبا باللباس الشعبي الفلسطيني باعتباره تراثا يهودياً .

كل ما سبق يرتبط ارتباطا كاملا بالحرب الشاملة التي يشنها الاحتلال على الشعب الفلسطيني وهي حرب وجود وهوية وتاريخ وثقافة وحضارة ، خاصة عندما يزعم العدو أن الفلسطينيين لا حقوق لهم ولا تراث ولا ثقافة ولا حضارة .

نشرت صحيفة هآرتس مؤخراً تقريراُ يتناول حملات تدمير المعالم العربية في فلسطين عام 1950 خصوصاً الأماكن المقدسة : ففي شهر تموز/ يوليو 1950 أصدر ديّان أمراً بهدم مقام مشهد الحسين الذي تم بناؤه في القرن الحادي عشر ، كما وجدت وثائق تتعلق بأوامر ديّان لتفجيره ، وشملت حملة تفجير المساجد تدمير أكثر من 120 مسجداً من أصل 160 مسجد كانت قائمة في القرى والمدن الفلسطينية قبل عام 1948، وأظهرت وثائق في أرشيف الجيش الصهيوني التي تم كشفها أخيراً ، أنه عمل منذ قيام الدولة العبرية سنة 1948 على إزالة آثار قرى وبلدات عربية تم تهجير سكانها ومحوها من الوجود ، وأن ديان أعطى أوامره لتنفيذ حملات غايتها تفجير مساجد وأضرحة أولياء بأوامر صادرة عن قائد الجبهة الجنوبية في حينه موشيه ديّان ، الذي حول فلسطين وفقاً لمؤرخ صهيوني ، إلى صحراء مدمرة لطمس الحضارة العربية الإسلامية الفلسطينية التي كانت قائمة ، وإقامة دولة الاحتلال عليها .

ما ورد في هذا الكتاب غيض من فيض ، وما لم نتمكن من الحصول عليه كان أعظم بكثير ولا تسعه الكتب والمجلات في حقيقة الأمر ، وكم كنت أتمنى أن تتوفر جهة وطنية مسئولة تعمل على جمع هذا التراث الشفوي المبعثر هنا وهناك ، والذي ينقرض في معظمه بموت الأجداد الذين عاصروا تلك الأزمنة .

المقدمة

جاء هذا الكتاب في معظمه على ألسنة كبار السن الذين عايشوا أو علموا بأحوال الفلسطينيين في قطاع غزة قبل أكثر من سبعين عاما وما حولها ، باعتبار أن ذلك من أهم المراجع التي تعتمد على سرد التراث الشفوي ، أستقي المعلومات على ألسنتهم ومن خلال ذكرياتهم وتجاربهم ، والأحداث التي مروا بها والعصور التي عاصروها ، باعتبار أن ذلك تاريخا وتراثا وعلما يكاد أن يندثر بموت معاصريه ، وعلى الرغم من صعوبة الحصول على معلومات في مجال التراث الشعبي الفلسطيني من كبار السن ، والصعوبة التي واجهتني في جمع المعلومة وتدوينها ثم تنقيحها ومراجعتها ، والتأكد من صحتها من خلال تعدد مصادرها البشرية وتكرار سردها على ألسنة كبار السن الذين ذكرت سماءهم أدناه ، وكذلك التجربة الشاقة التي خضتها في هذا المجال ، إلا أنني تمكنت أخيرا بفضل الله تعالى من جمع مادة جيدة ، لعلها تُعتبر مرجعاً إلى ناشئتنا من طلاب وطالبات المدارس في يوم من الأيام ، تجذبهم إلى وطنهم فلسطين ، كما رجعت إلى بعض المراجع لتثبيت وتأكيد ما صدر على لسان الأجداد والآباء ، بالإضافة إلى الشبكة العنكبوتية التي حصلت منها على الصور المناسبة للنص ؛ من أجل تعزيز ثقافة الصورة لدى القارئ ؛ ومن أجل توضيح وترسيخ الفكرة التي يدور النص حولها بقدر الإمكان خاصة لناشئتنا ، وحرصت إلى اختصار موضوع التراث على قطاع غزة تقريباً بحكم نشأتي وترعرعي به ، وما سمعته من والدي وجدي رحمهما الله ، وما لا يزال موجوداً من معالم للتراث الشعبي الفلسطيني في قطاع غزة حتى اليوم .

ولا شك أن بعض ما جاء في هذا الكتاب مدوناً في بعض المراجع التراثية مثل الأمثال الشعبية إلا أنني رأيت عدم فصلها عن السياق الطبيعي لمجرد أنها مدونة في الكتب ؛ بسبب ما لها من قيمة وأهمية تضفي على محتوى الكتاب مزيدا من الرونق والحيوية والجمال .

ولا زال الكثير من الفلسطينيين في قطاع غزة حتى اليوم يمارسون أنماطا من الفلكلور الشعبي في  كثير من مجالات الحياة ، في ملبسهم ومأكلهم ومشربهم وفي عاداتهم وتقاليدهم ، وفي أبنيتهم وفنونهم وآدابهم وأفراحهم وما إلى ذلك . 

الجزء الأول من كتاب : حـدثـني جـدي.... قـبـل أكـثـر مـن سـبـعـيـن عـاماً

قطاع غزة .... ما لم يكتبه التاريخ

الاقتصاد الفلسطيني والاستعمار البريطاني : عمل الاحتلال الانجليزي بقوة على ضرب الاقتصاد الفلسطيني في زمن الانتداب البريطاني من خلال وسائل كثيرة منها :-

أحضر المستعمر البريطاني القمح من أستراليا وباعوه بثمن رخيص من أجل منافسة القمح الفلسطيني ؛ من أجل الضغط على الفلاح فيُسلّم أرضه للبريطانيين وأعوانهم ، إلى درجة أن الفلاح لم يقدر في ذلك الوقت على شراء جمل له إذا مات جمله ، فيضطر إلى بيع جزء من أرضه من أجل شراء الجمل ، والذي كان يقدر بحوالي عشرين جنيها فلسطينيا في ذلك الوقت ، أي في عصر الثلاثينات من القرن الماضي .

في الوقت الذي كان يعادل هذا الثمن ثمن ما جمعه من محصول في العام كله ، وإذا كان الفلاح أو المزارع أو التاجر الفلسطيني يبيع صاع القمح بأربعة قروش فلسطينية على سبيل المثال في ذلك الوقت ، كان الاحتلال يغرق الأسواق بأجود أنواع السلع ، ويبيع السلعة أو الصاع بقرش واحد . وكذلك كان يعمل مع باقي السلع الغذائية كسلعة الذرة والشعير والحمص وغيرها من مقومات الاقتصاد الفلسطيني في تلك الحقبة .

كانت معظم مناطق قطاع غزة زراعية ، وكانوا يزرعون القصب والخضار والفواكه والحمضيات والحبوب والبقوليات والبلح والزيتون والعنب ، واشتهر قطاع غزة كسائر مدن فلسطين بالحمضيات .

ووضع الفلاحون المحاصيل في أماكن عرفت بالخوابير مفرد خابور، فخابور للقمح ، وخابور للشعير، وآخر للذرة .

 

والخابور هو مكان واسع يوضع به السلعة ، وأحيانا كان يغطى بالقماش ، ويبنى حوله السياج المكسو بالصاج أو القماش أو الحجارة أو الأسلاك أو التراب .

     

وكان المزارع الفلسطيني يؤجر أرضه أحياناً مقابل أن يحصل على ربع الناتج من المحصول ، باستثناء الأفندية ( الإقطاعيين والباشاوات ) فكانوا يحصلون على ثلثي ناتج المحصول ، وكان الانتداب البريطاني يفرض على الفلسطينيين ضريبة تسمى بضريبة الويركو ، وهي ضريبة على الأرض الزراعية كما سيأتي معنا لاحقاً ، وكانت الضريبة ما بين جنيه واحد إلى عشر جنيهات سنوياً على كل دونم مربع ، ولما كان عدد كبير من السكان الفلسطينيين يملكون الأراضي الزراعية الواسعة ، أي أن غالبيتهم من الفلاحين والعمال والمزارعين .

فلا بد من دفع عشرات الجنيهات الفلسطينية كل عام ، أو مئات في أحيان كثيرة لمن يملك مئات الدونمات ، علما بأن العامل أو الموظف كان يتقاضى أجرا بالقروش وليس بالجنيهات ، أي مائة وخمسين قرشا في الشهر أو مائتين على سبيل المثال لا الحصر ، مما زاد العبء المخطط له مسبقاً على الفلسطينيين ، وكل من لا يتمكن من دفع الضريبة فمصيره السجن والتعذيب والتغريم ، أو مصادرة الأرض ومن ثم يقوم الانجليز بتسليمها مجانا إلى العصابات اليهودية ، كان الهدف من وراء ذلك واضحا هو الضغط على الفلسطينيين ؛ لكي يتنازلوا عن أرضهم ومن ثم يقوم الانجليز بتسليمها إلى اليهود لإقامة مشروعهم الصهيوني على تراب فلسطين .

   

كان بعض الأغنياء إقطاعيين في ذلك الوقت ، وكانوا يلقبون ويعرفون بالأفندية أو الباشاوات ، فكان الإقطاعي الأفندي يحضر بنفسه يوم توزيع غلة المحصول ؛ ليرى بعينيه عملية قسمة أو توزيع الغلة ، فيحصل هو على الثلثين ويحصل من قام بزراعة الأرض وفلاحتها على الثلث ، وكان لزاما على الفلاح المسكين أن يذبح ذبيحة للأفندي من أجل أن يحصل على رضاه ( شاة أو بقرة أو خروف ) ، وإن لم يفعل الفلاح ذلك فسيعتبره الأفندي مستهزئا به ومستخفاً بكرامته ، الأمر الذي يستوجب عقاب الفلاح بالطرد أو السجن ...

كانوا يبيعون الغلة في سوق الزاوية والذي لا يزال موجودا في مكانه القديم حتى اليوم ، وقد عرف من قبل بسوق التُجار، وكان به منطقة تسمى سوق الغَلة لبيع وشراء جميع أنواع الحبوب ،  وكانت المكاييل بالصاع والنصف صاع والربع صاع ، ولم يكن في وقتها الموازين ، و كان يقدر الصاع الواحد بعشرة كيلو جرامات تقريباً ، والصاع عبارة عن وعاء خشبي أو من الفخار أو الجلد ، كما كان ما يعرف بـ الكُعُد وهو وعاء من الخشب يستخدمونه للكيل أيضاً .

              

*كاتب فلسطيني مستقل