حرب أم سلام

عرض ومناقشة: د. محمد مخلوف

تأليف: لوران كوهن ـ تانوجي

ثلاثة مظاهر أساسية للصعوبات التي يواجهها الغرب:

الحلقة الخامسة

يجد القارئ نفسه هنا مع ذروة عالية من ذرى التحليل المعمق التي يحلق إليها مؤلف هذا الكتاب، حيث يطرح الأسئلة الأكثر أهمية بالنسبة للتحديات التي تواجهها الولايات المتحدة اليوم ويتطرق إلى آفاق الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وأوروبا، ويلقي الضوء بصفة خاصة على ما يتعين على أوروبا القيام به في إعادة تعزيز الأسس السياسية للبناء الأوروبي، وهو الشرط الحتمي لأي مساهمة أوروبية لها قيمتها في تحديد ملامح نظام دولي جديد.

شكّلت الصعوبات التي واجهتها الكتلة الغربية إحدى المفارقات المترتبة على نهاية الاستقطاب الثنائي الدولي الذي عرفه العالم خلال فترة الحرب الباردة. وقد تبدّت تلك المفارقة من خلال ثلاثة مظاهر تمثّلت في أزمة التضامن الأطلسي والتقهقر النسبي لنفوذ القوة الأميركية وحالة العطالة التي عانى منها البناء الأوروبي. السؤال الكبير هو معرفة ما إذا كانت المسألة تتعلق بصعوبات عابرة أو مستدامة؟ وسؤال آخر لا يقل جوهرية ويتعلق بمعرفة ما إذا كانت العلاقات عبر الأطلسي ستبقى الخيار الأفضل بالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا خلال القرن الحادي والعشرين؟ يشير مؤلف الكتاب أولا إلى أنه قبل عدة سنوات، وفي أوج تفاقم الأزمة بين جانبي الأطلسي حيال العراق، أثار التساؤل حول مستقبل التضامن الغربي ثلاثة أنماط من الإجابات. رأى المتفائلون والدبلوماسيون أن قوة القيم والمصالح المشتركة بين العالم الجديد (أميركا) والقارة القديمة (أوروبا) ستتغلب،

كما كان الوضع دائما في الماضي، على أشكال الشقاق التي أثارتها الأزمة العراقية. على العكس، ركّزت الأطروحة الانفصالية، أي القائلة بالفصل بين ضفتي الأطلسي على الخلافات المتعاظمة بين الولايات المتحدة وأوروبا بما في ذلك على الأصعدة السياسية والثقافية، ودفعتا شقة الخلاف الأطلسية إلى حد القول بوجود طلاق حقيقي. أما النمط الثالث فهو الذي يرى أن مستقبل الشراكة الأطلسية يقع في النقطة الوسط بين النمطين السابقين. فمن جهة هناك التحديات البنيوية التي يواجهها التضامن الأطلسي في عالم ما بعد الحرب الباردة وما بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001، ومن جهة أخرى هناك أيضاً الضرورة المتجددة لاستمرار شراكة أوروبية ـ أميركية وللالتزام النشيط بها في السياق الدولي الجديد. تتم الإشارة هنا إلى أنه منذ عام 2004 فرضت الرؤية الواقعية نفسها على الحكومات كما على الرأي العام في هذه الجهة من الأطلسي وتلك. وقد شجع على ذلك الفشل المزدوج للتدخل الأميركي في العراق والمشروع الدستوري الأوروبي،

كما شجع عليه إدراك أشكال تضامن جديدة بين ضفتي الأطلسي في عالم الغد. وكانت المواجهة الكبرى بينهما خلال الأزمة العراقية 2002 ـ 2003 قد أدّت إلى تطوير الإشكاليات المطروحة. لكن فهم هذا التطور يتطلب العودة بضع سنوات إلى الوراء، كما يشير المؤلف. - العماء المزدوج: دخلت أوروبا وأميركا القرن الحادي والعشرين على إيقاع نغمتين متباينتين، بل متنافرتين. وعند نهاية سنوات التسعينات المنصرمة وزوال المعسكر الشيوعي انطرح تساؤل كبير حول مستقبل الحلف الأطلسي. بدا عنده وجود ميل نحو التباعد بين الموقفين الأميركي والأوروبي، فالقوة العظمى الأميركية جنحت نحو نوع من الرضا الذاتي عن النفس ومن الغطرسة بينما مال الاتحاد الأوروبي نحو النزعة السلمية مع نوع من العداء لأميركا ذي مضمون يتعلق بالهوية. وكان ألم الصدمة الذي أثارته تفجيرات 11 سبتمبر 2001 والتقليل من أهمية هذا الحدث طويلا من قبل الرأي العام الأوروبي والطبقة السياسية الأوروبية أدّى إلى تحويل ذلك التباعد إلى أزمة ثقة متبادلة عميقة ومخرّبة أمام القضية العراقية.

كان ذلك الجفاء والتعارض في المفاهيم الجماعية عام 2003 وراء نشوب الأزمة الأكثر جدية التي اجتازها التضامن الغربي منذ الحرب العالمية الثانية. ويؤكد المؤلف هنا أنه لولا صدمة 11 سبتمبر 2001 فإن إدارة جورج دبليو بوش الأولى ما كان لها أبدا أن تستطيع جعل الرأي العام الأميركي يقبل بدخول المغامرة العسكرية الوقائية والمقررة من طرف واحد ضد نظام صدام حسين تحت لافتة «الحرب ضد الإرهاب».

كما يؤكد أنه لو لم يكن الرأي العام الأوروبي قد قلل من قيمة أثر صدمة 11 سبتمبر على النفسية الأميركية وعلى النظام الدولي، ما كان للثنائي الألماني - الفرنسي الذي جسّده غيرهارد شرودر وجاك شيراك أن يرى من المناسب سياسيا تحويل المعارضة المبدئية للتدخل في العراق إلى حملة فرنسية ـ ألمانية ـ روسية ضد السياسة الخارجية لحليفهم الأميركي «الذي لا بد منه».

وفي المحصلة لولا «العماء المشترك» وعدم رؤية مدى هشاشة العلاقة الأطلسية في فترة ما بعد الحرب الباردة، فإنه ما كان لإدارة بوش الأولى وللثنائي الفرنسي ـ الألماني أن يخاطروا بمثل ذلك القدر من الشراسة في التعامل مع تلك العلاقة. 

ما يتم التأكيد عليه هو أن إدارة بوش قد اقترفت سلسلة من الأخطاء السياسية والاستراتيجية ذات العواقب الوخيمة. كان الخطأ الأول هو جعل «الحرب ضد الإرهاب» مفتاح السياسة الخارجية الأميركية لفترة ما بعد 11 سبتمبر، 

لاسيما أن هذا المفهوم أقل من أن يغطي المصالح المتنوعة للولايات المتحدة في العالم وأكثر تجريدا من أجل أن يحقق درجة كافية من الفعالية العملياتية، فضلا عن أنه يتجاهل خاصة الأسباب والدوافع السياسية للإرهاب كي يأخذ برؤية عسكرية تبسيطية لا حظ لها أبدا في اقتلاع المشكلة من جذورها.

 ثم إن واشنطن، بتركيزها جلّ ردها العسكري على تفجيرات 11 سبتمبر على العراق، قد انخدعت في الخصم وقوّت وجود منظمة القاعدة في قلب الشرق الأوسط. زد على ذلك، أنها بإطلاقها عمليتها العسكرية على العراق من طرف واحد ومن دون وجود أي برهان حقيقي على امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، أثارت حفيظة المجموعة الدولية وعززت مشاعر البغض حيالها في العالم العربي ـ الإسلامي، وخارجه 

تعاظمت مشاعر البغض هذه وبهتت الصورة الأخلاقية لأميركا، بسبب التجاوزات التي مارسها الجيش الأميركي في العراق وما اقترفه من خروقات لحقوق الإنسان في جوانتانامو أو في السجون السريّة التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أو في السجون العراقية. ثم إن واشنطن اقترفت أخطاء كبيرة أيضاً في إدارتها للحرب ثم في عملية إحلال الأمن والاستقرار في العراق بعدها.

هكذا فقدت الولايات المتحدة الكثير من صدقيتها كقوة عظمى دولية. وكانت هذه الصدقية قد تضاءلت أصلا بنظر العديد من خصومها، ومن أصدقائها أيضا، بفعل عدم قدرتها في الكشف عن تفجيرات 11 سبتمبر 2001 قبل وقوعها.

ثم إن المغامرة العراقية تحوّلت تدريجيا إلى فيتنام جديدة بفعل ما تتحمله أميركا من خسائر في الأرواح (3000 جندي أميركي حتى شهر ديسمبر 2006 وعشرات الآلاف من ضحايا الحرب الأهلية العراقية) ومن كلفة مالية باهظة (أكثر من 320 مليار دولار حتى شهر يونيو 2006) وكلفة دبلوماسية لا تقل عن ذلك. هذه الأمور كلها لا بد وأن يكون لها تأثيرها على زعامة الولايات المتحدة للعالم.

أيضا، ومع أنه لا يزال الوقت مبكرا لإجراء تقويم جدّي للحرب التي شنتها الولايات المتحدة ضد القاعدة والحركات الدائرة في فلكها، فإن المؤلف يؤكّد على أن الحرب الأميركية في العراق حوّلت أنظار واشنطن عن إنهاء المعركة في أفغانستان وعن المرامي النووية لكوريا الشمالية والإيرانية وحل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي والصعود القوي للصين وروسيا، أي حوّلت أنظارها عمليا عن التحديات الاستراتيجية التي تواجهها المجموعة الدولية اليوم.

 لقاء أم منعطف استراتيجي؟

 لكل أمر سيئ جانبه الجيد. هكذا يعبر المؤلف عن الأزمة الكبيرة التي عرفتها العلاقات الأميركية ـ الأوروبية حيال القضية العراقية 2002 ـ 2003 إذ «فقأت الدمّل المحتقن» وأنذرت الطرفين أنه لا يمكنهما الذهاب أبعد.

اعتبارا من عام 2004، وخاصة منذ إعادة انتخاب جورج دبليو بوش لفترة رئاسية أميركية ثانية، عادت أجواء المصالحة إلى العلاقات الأميركية ـ الأوروبية وعادت واشنطن إلى القبول الصريح ب«التعددية القطبية» في العالم. حدث ذلك على خلفية الدروس المستخرجة من الأزمة نفسها. لقد اكتشفت أميركا ثمن الغطرسة والحدود السياسية والعسكرية للأحادية القطبية وللائتلافات «المصنوعة حسب الطلب» في إطار الجيوسياسة غير المستقرة لمطلع هذا القرن الحادي والعشرين. 

لقد استعادت منظمة الأمم المتحدة دورها الطبيعي كمسرح لتسيير الأزمات الدولية. وأدرك الأوروبيون من جهتهم الثمن السياسي للمعارضة مواجهة مع الحليف الأميركي، وذلك بالنسبة للتلاحم الأوروبي نفسه كما بالنسبة إلى التضامن الأطلسي. 

كما أدركوا من خلال تفجيرات مدريد ولندن أنه ليست هناك أية حصانة أوروبية في مواجهة الإرهاب. في المحصلة غدا نسيان الانتقادات المتبادلة والعودة إلى أجواء المصالحة أولوية مشتركة لدى الرئيس الأميركي الذي أعيد انتخابه، كما لدى المستشارة الألمانية الجديدة انجيلا ميركل وأيضا لدى الدبلوماسية الفرنسية. 

كان جورج دبليو بوش، بعد أن أدّى القسم لرئاسة ثانية في فبراير 2005، قد قدم إلى بروكسل من أجل زيارة المؤسسات الأوروبية كمؤشر على اعتراف واشنطن ب«الوجود السياسي» وب«الفائدة السياسية» للاتحاد الأوروبي. واعتبارا منذئذ نسّق الأميركيون والأوروبيون عامة، وواشنطن وباريس بشكل خاص، سياستهم حيال مختلف الملفات الدولية الكبرى،

لاسيما تلك المتعلقة بالشرق الأوسط مثل المؤلف السوري - اللبناني والملف النووي الإيراني. بل غلب «الاعتدال والتعاون» بين الطرفين حيال المواضيع الحساسة مثل الترميم السياسي وإعادة التعمير الاقتصادي للعراق. في هذا السياق تخلّى الاتحاد الأوروبي عن مشروع رفع الحظر عن بيع الأسلحة للصين في منظور فتح السوق الصينية أمام منتجات الأوروبية، وذلك أمام إظهار قلق أميركي - ياباني حول أمن تايوان.

 

مع ذلك يرى مؤلف الكتاب أنه من المشروع التساؤل حول مدى العمق الحقيقي لهذه المصالحة الأطلسية ومناقشة الآراء التي صدرت مؤخرا عن تزايد عمق الهوة بين أوروبا والولايات المتحدة وعن التحديات البنيوية التي تتواجه حيالها، موضوعيا، الشراكة الأطلسية. 

وتتم الإشارة أولا إلى أن المحرّك الحقيقي الكامن لأزمة 2002-2003، لدى واشنطن كما لدى باريس وبرلين، كان التخلّي عن الحلف الأطلسي لصالح شراكات أخرى جرى اعتبارها مناسبة أكثر في السياق الدولي الجديد.

ولم يخبئ المحافظون الجدد الأميركيون ازدراءهم لأوروبا واعتقادهم بعدم أهمية العلاقة الأطلسية. بل كانوا ينوون استبدال الحلف الأطلسي لقاء «تحالفات» تُقام تبعا للمهمات المراد تنفيذها ومع حلفاء تمليهم الظروف، ديمقراطيين كانوا أو غير ديمقراطيين.

هذا يعني أنه كان قد جرى التشكيك بالفكرة القائلة ان العلاقة الأوروبية ـ الأميركية ووحدة المعسكر الغربي هي جوهرية بالنسبة لاستقرار العالم ولأمن الولايات المتحدة الأميركية. هذا وأمام المنظور المعلن حول «تفسخ المنظومة الأميركية». 

كما شرح مطوّلا المفكر الفرنسي ايمانويل تود، في كتاب له حمل عنوان: «نهاية الإمبراطورية، دراسة في تفسخ المنظومة الأميركية«، جرى طرح التساؤل، عما إذا لم تكن لأوروبا مصلحة في أن توجه أنظارها نحو الشرق ونحو آسيا، حيث توجد الولايات المتحدة أصلا؟

لكن مثل هذه الإغراءات ثبتت أنها أقل فاعلية بالنسبة لأوروبا وأميركا مما هي القيم السياسية والأخلاقية والمصالح الاقتصادية والاستراتيجية المشتركة في العالم المتعدد الأقطاب وغير المستقر الذي ترتسم معالمه. هكذا أدركت أوروبا أنه ليس لها حليف حقيقي سوى الولايات المتحدة الأميركية، والعكس صحيح.

وبناء على هذا الواقع الذي جرى تجاهله لفترة من الزمن. بدا اللقاء الأوروبي - الأميركي من جديد ذا سمة استراتيجية ومستدامة. هذا لا يعني أنه ينبغي على أوروبا أن لا تقيم علاقات وثيقة مع قوى كبرى أخرى، خاصة الصين والهند الغائبة عنهما كثيرا، وكذلك مع روسيا. لكن مثل هذه العلاقات هي من طبيعة أخرى غير الطبيعة التضامنية التي توحّد منذ قرنين من الزمن الديمقراطيات الغربية في إطار مصير مشترك. 

ويتم التأكيد في هذا السياق على أن عودة الحرارة للعلاقة الأميركية ـ الأوروبية فيما بعد الأزمة العراقية يمكن أن تمثل بداية حركة عميقة ستدفع أوروبا والولايات المتحدة إلى تقريب توجههما بصورة أكثر ثباتا من الماضي، خاصة أكثر من فترة الحرب الباردة،

من أجل المحافظة على مواقعهما قبل محاولة استعادة زعامتهما المشتركة في عالم القرن الحادي والعشرين. مع ذلك لن يكون لأية شراكة أطلسية متجددة أي معنى إلا إذا جمعت بين أميركا «رممت» مصداقيتها وقدرتها على الفعل الدولي وبين أوروبا التي أصبحت قوة فاعلة حقيقية على المسرح العالمي. فهل يمكن تحقيق هذا الشرط المزدوج؟

 التحدي الأميركي الجديد 

يتفق المحللون السياسيون الكبار للسياسة الخارجية الأميركية على القول ان التفوق العسكري للولايات المتحدة لن يبذه أي منافس آخر خلال العقود المقبلة. الصين وحدها ستكون قادرة على المدى الطويل أن تكون منافسا ممكنا، وحدها أو ربما بالتحالف مع خصوم آخرين لواشنطن مثل إيران أو روسيا أو الاثنتين معا. 

ولا شك أن أميركا سوف تفعل كل ما في وسعها من أجل المحافظة على تفوقها، هذا ما تدل عليه الميزانية المهمة المكرّسة لوزارة الدفاع وتطوير منظومات الدفاع المضاد للصواريخ. كما أن الاقتصاد والسيطرة على التكنولوجيات المتقدمة والتجدد الديمغرافي يسمح لأميركا بالمحافظة على المرتبة الأولى في العالم بينما سيكون على الصين والبلدان الصاعدة الأخرى مواجهة تحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية كبرى. 

المشكلة الحقيقية للولايات المتحدة اليوم تتعلق بتقهقر زعامتها وتضاؤل دورها على المسرح الدولي وانكماش هامشها للمناورة الاستراتيجية والدبلوماسية بسبب تورطها في العراق وصعود نزعة العداء لأميركا في العالم.

 ثم إن المحورين الأساسيين للسياسة الخارجية الأميركية منذ 11 سبتمبر 2001 والمتمثلين في الحرب ضد الإرهاب ونشر الديمقراطية في الشرق الأوسط هما موضع جدل فيما يخص مفهومها وآليات تنفيذهما وكانت لهما نتائج هزيلة، إن لم تكن، سلبية، مثّلها الفشل في العراق.

وإذا أرادت أميركا أن تستعيد أوراقها الرابحة كقوة عظمى سيكون عليها إعادة النظر في سياستها الخارجية وفي موقعها الدولي، واللذين اهتزّا منذ نهاية المواجهة بين معسكري الشرق والغرب. ثم إن الولايات المتحدة تواجه اليوم مطلبين أساسيين.

من جهة ضمان أمنها في جميع أنحاء العالم وبشكل رئيسي بواسطة الوسائل العسكرية، ومن جهة أخرى دمج مفهوم أمنها القومي داخل مشروع أوسع لإعادة هيكلة المنظومة الدولية القائمة على الوحدة الكونية للمصالح وبمشاركة جميع القوى الفاعلة المنضوية في إطارها. 

ويصل المؤلف في تحليلاته إلى القول ان خيار الزعامة يفترض عدم المضي في «الحرب ضد الإرهاب» التي تمثل أحد التوجهات الرئيسية للسياسة الخارجية الأميركية. وينبغي أن لا يستهدف العمل الخارجي حماية أمنها وأمن حلفائها فقط، وإنما عليه أن يتصدّى للمشاكل الرئيسية العالمية، بما في ذلك الإرهاب، ولكن أيضاً تدهور البيئة والفقر والنزاعات الاثنية وانتشار الأسلحة النووية والفوضى في الشرق الأوسط.

وسوف تسترجع أميركا شرعيتها عندما ستحدد هدفها في إعادة إشادة منظومة دولية للقرن الحادي والعشرين، عبر التنسيق مع القوى الأخرى. هذا وبعد انتصار الديمقراطيين في الانتخابات التشريعية في شهر نوفمبر 2006، على خلفية الوضع في العراق، يبدو أن ساعة تغيير اتجاه السياسة الأميركية لم تعد بعيدة. لكن الحالة العراقية ستلقي أيضاً بثقلها على السياسة الداخلية والخارجية للقوة العظمى العالمية الأولى.

 نهاية أوروبا

 التحدي أكبر وأخطر على الجانب الأوروبي. وللمفارقة المؤسفة، كما يقول المؤلف، إنه في الوقت الذي تتعزز فيه العولمة وتبرز الأمم - القارات تبهت صورة البناء الأوروبي بنظر الرأي العام في بلدان الاتحاد المطلوب تدعيمه أكثر من أي وقت مضى. ورفض الدستور الأوروبي من قبل دولتين مؤسستين هما فرنسا والدانمارك يبيّن بوضوح أن هناك أزمة في العمق. 

وبدا أن تغيير المعطيات الجيوسياسية في أوروبا بعد سقوط جدار برلين قد هزّ الأسس التي قامت مغامرة البناء الأوروبي عبر إنهاء المواجهة بين الشرق والغرب، ودخول «أوروبا الأخرى» إلى «النادي» الأوروبي. ثم إن الحقبة الجديدة التي دخل فيها العالم تضع ايديولوجية البناء الأوروبي نفسها أمام الامتحان ومدى صلاحيتها بالنسبة للقارة القديمة في عالم القرن الحادي والعشرين.

قامت مسيرة التوحيد الأوروبي على دعامتين أساسيتين هما السلام عبر تجاوز النزعات القومية والسيادة والاندماج في إطار القانون واقتصاد السوق. كما أنها كانت تعتمد على استقرار ضمني للمحيط الدولي بالتناظر مع الحرب الباردة والحماية العسكرية الأميركية، مما وفّر على البناء الأوروبي كل همّ استراتيجي. بهذا المعنى يكون المشروع الأوروبي «وليد» الحقبة الأطلسية والسلام الأميركي. 

ويتم في هذا السياق وصف القوى القديمة والجديدة، في مطلع هذا القرن الحادي والعشرين أنها ذات ثقافة تؤكد على السيادة وعلى الهوية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، ولكن أيضاً الصين والهند وروسيا واليابان وإيران ودول العالم كلها تقريبا.

هكذا انتشرت في أوروبا نفسها أيضاً ظاهرة استيقاظ القوميات والتأكيد على الهوية الوطنية بمقدار ما كان البناء الأوروبي يتراخى. بنفس الوقت أدرك الاتحاد الأوروبي أنه لا يمكن أن يكون جزيرة للسلام وللمثالية في عالم مفتوح على شتى أشكال النزاعات. هذا لاسيما وأن العولمة تمنع كل تقوقع اقتصادي أو استراتيجي.

بالتالي غدا على أوروبا، إذا أرادت أن تحافظ على نفوذ لها من أجل التأثير على مجريات أمور العالم في القرن الحادي والعشرين، أو على الأقل البقاء كقوة إقليمية فاعلة، أن تتماشى مع قواعد اللعبة السائدة في النظام الدولي.

 وإذا لم تكن قد استطاعت أن تصبح امة- قارّة، فإنه مطلوب منها أن تطرح نفسها كقوة لها مصالحها الاستراتيجية وعليها أن تدافع عنها. بكل الحالات لن تستطيع أوروبا، مثلما هو حال الولايات المتحدة لأسباب أخرى، أن تنتهج أي سبيل يؤدي بها إلى عزل نفسها عن العالم.

واعتبارا من شهر ديسمبر 2003 تبنّى المجلس الأوروبي وثيقة تحمل عنوان: «مبادئ استراتيجية أمن الاتحاد الأوروبي»، وهي وثيقة تشابه تلك التي تنشرها الإدارة الأميركية سنويا حول الأمن القومي الأميركي وتتقاطع معها في العديد من النقاط فيما يخص مضمونها. وقد سمح هذا بالتقريب بين الرؤيتين الأميركية والأوروبية لجيوسياسة العالم بعد تفجيرات 11 سبتمبر بعد فترة التباعد بين هاتين الرؤيتين أثناء أزمة ثم حرب العراق 2002-2003.

هنا يفتح المؤلف قوسين ليؤكد أن التقارب لا يعني أبدا أن تلغي أوروبا تطلعها الخاص بها فيما يتعلق بتحديد نظام دولي جديد. لكن المطلوب هو أن تفعل مثل الولايات المتحدة وغيرها من القوى الكبرى وتوجه جهودها في سبيلين.

الأول هو سبيل تعددية الأطراف في النظام الدولي واحترام القانون الدولي والمحافظة على السلام والآخر هو سبيل القوة وخدمة المصالح، وحيث لها موقع في السبيلين. أما الخطوة الأولى في تحقيق هذا كله فيتم تحديدها في إعادة تعزيز الأسس السياسية للبناء الأوروبي.

في محصلة التحليل حول مستقبل أوروبا ودورها في العالم اليوم، يتم التأكيد على أن الظروف في بدايات هذا القرن الحادي والعشرين تقدّم للقادة الأوروبيين فرصة حقيقية للتعبئة من أجل تعزيز موقع أوروبا ودفاعها عن مصالحها وعن هويتها في عالم الغد المعولم.

ومثل هذا الهدف يمكنه أن يجنّد جميع الطاقات وفي جميع الميادين، لاسيما أنه هدف يندرج في نهج الاستمرارية الكاملة للمشروع الذي صاغه الآباء المؤسسون قبل أكثر من نصف قرن.إن العولمة وبروز قوى عالمية جديدة صاعدة وتغيّر المعطيات الجيوسياسية الدولية أمور «تضغط كلها» كي تتقدم أوروبا. وعلى قادتها أن يوفروا لها الزخم المطلوب.