حرب أم سلام 2
كتاب - حرب أم سلام-
تأليف : لوران كوهن ـ تانوجي
عرض ومناقشة: د. محمد مخلوف
الحلقة الثانية
العولمة تأخذ منحى جديداً يحولها إلى ظاهرة جيوسياسية
مؤلف هذا الكتاب، لوران كوهن ـ تانوجي تخرج من جامعة هارفارد بالولايات المتحدة ومدرسة المعلمين العليا في باريس التي سبقه إلى التخرج منها حشد من كبار مفكري فرنسا وفلاسفتها من أمثال جان بول سارتر. وقد سبق أن استقطب الأنظار بكتب مهمة في العلاقات الدولية منها «أوروبا في خطر» و«دروب الحرية». وهو هنا يلقي الضوء على فكرة بالغة الأهمية .
حيث يشير إلى أن العولمة تأخذ الآن منحى مختلفاً غير ذلك الذي سارت فيه في الثمانينات من القرن الماضي عندما كانت مرادفاً لتسارع تدويل الاقتصادات ذات الطابع الوطني والتداخل فيما بينها نتيجة لاقتصاد السوق وتحرير المبادلات والاستثمارات الدولية، أما الآن فقد اقتحمت الحلبة الجيوسياسية حيث لا تتردد الرأسماليات الجديدة في العالم الصاعد في استخدام السلاح الاقتصادي لغايات سياسية والعكس صحيح. إذا كانت الصين هي التي تطمح لاحتلال المرتبة الأولى كقوة عظمى في عالم الغد، فإن هناك دولا صاعدة أخرى تبحث عن احتلال موقع متقدم هي الأخرى. وفي مقدمة هذه الدول الهند التي حققت قفزة اقتصادية كبيرة خلال السنوات الأخيرة المنصرمة لكنها لا تزال بعيدة وراء جارها الشرقي العملاق.
كانت الهند قد أدارت ظهرها لعدة عقود من النزعة الاقتصادية المركزية بعد حصولها على الاستقلال السياسي، وشرعت مسيرة انفتاحها الدولي وتحرير اقتصادها بعد عشر سنوات من الصين. كانت نقطة بداية الانعطافة الجديدة في مسيرة الهند عام 1991 بمناسبة المفاوضات حول قرض مع صندوق النقد الدولي. واعتبارا من ذلك التاريخ حققت نموا اقتصاديا بمعدّل 6 بالمئة سنويا، بل وقارب هذا المعدّل 8 بالمئة خلال السنوات الأخيرة.لا شك أن النمو الذي حققته الهند هو أقل من ذلك الذي عرفته الصين، لكنه كان مع ذلك وراء تبدلات جوهرية في حياة الهنود، إذ استطاعت الهند أن تقلّص نسبة الفقر إلى النصف خلال عشرين سنة، لتنتقل من 51 بالمئة من مجموع سكان الهند خلال فترة 1977-1978 إلى 26 بالمئة خلال 1999-2000، كما أشارت التقديرات الرسمية.
آفاق النموذج الهندي
على غرار الصين، اعتمد النمو الاقتصادي الهندي على تطوير الصادرات وزيادة الاستثمارات الأجنبية، أيضاً على وجود سوق داخلي كبير وعلى ما يتسم به القطاع الخاص من دينامية. وعلى غرار إمبراطورية الوسط ـ الصين ـ تتمتع شبه القارّة ـ الهند ـ بوجود يد عاملة وفيرة وقليلة الكلفة.
لكنها تتمتع أيضا، على خلاف الصين هذه المرة، بوجود طبقة وسطى مهمة ونخب تتقن اللغة الانجليزية ـ كأحد مخلّفات إمبراطورية التاج البريطاني ـ وجيّدة التأهيل مما يشكل ورقة رابحة مهمة على صعيد المنافسة بفضل الخبرات العلمية والتكنولوجية التي تُعتبر أنها الأكثر أهمية في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية. محصلة هذا كله تمّت ترجمتها في سهولة اندماج الهند في إطار شبكات العولمة.
إن الهند تؤمن قسطا كبيرا من الأعمال الثانوية مثل صناعة قطع تبديل الآلات أو مكوّنات هذا المنتج أو ذاك لحساب الشركات الغربية الكبرى متعددة الجنسيات. كما أنها تطوّر بنفس الوقت صناعة محلية متقدمة في مجالات تكنولوجيات الإعلام والصناعات الصيدلانية ـ الأدوية والتجميل ـ وصناعة السيارات. ويشكل قطاع الخدمات لاسيما خدمات المعلوماتية والخدمات المالية أكثر من نصف إجمالي الإنتاج الداخلي في الهند. وتلعب الهند دوراً مهماً على الصعيد الدولي في إطار المنظمة العالمية للتجارة حيث تدافع بقوة عن مصالحها الزراعية. ثم هناك حضور مهم للشركات الهندية في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا.
وتشير التحليلات المقدّمة إلى أنه من المفترض تسارع النمو الاقتصادي الهندي كي يلحق، بل يسبق، النمو الاقتصادي الصيني في أفق عام 2015، خاصة بسبب الشيخوخة الديموغرافية والتباطؤ المحتمل لإيقاع التنمية في الصين مع مرور الوقت. هكذا سوف تصبح الهند ـ أكبر ديمقراطية في العالم ـ الأمة الأكبر في العالم من حيث عدد السكان وستحتل المرتبة الثالثة على صعيد الاقتصاد العالمي من الآن حتى أفق عام 2050.
إن مجموع «الصين ـ الهند» الذي يضم العملاقين الآسيويين وثلث سكان المعمورة لم يكن يمثل سوى 6 بالمئة من إجمالي الإنتاج العالمي، قد ساهم في عام 2005 بنسبة 40 بالمئة من النمو الاقتصادي في العالم ويحتوي تقريبا النسبة نفسها من عدد القادرين على العمل. ومن المفروض أن يصبح قبل عام 2050 القطب الأول للاقتصاد العالمي وما سيعادل أكثر من ضعف اقتصاد الولايات المتحدة.
وتتم الإشارة في هذا السياق إلى زيارة قام بها الرئيس الصيني إلى دلهي في نوفمبر 2006 ودعا فيها إلى ضرورة التقارب بين أكبر دولتين في الاقتصاد الآسيوي وبحيث يمكن للتجارة الحرة وللاستثمارات الثنائية أن تساعد في ذلك. لكن لابد من القول إن الصين والهند، رغم تنامي مبادلاتهما التجارية ورغم تكامل مواقعهما الاقتصادية. فإن كلا منهما تشكل منافسا قويا للآخر في مجال صناعات التكنولوجيا المتقدمة كما في مجال التزود بالطاقة وأيضا على صعيد الاستثمارات الدولية.
ماذا عن روسيا؟
يبدو الحديث عن روسيا كبلد صاعد غريباً ومستهجناً، باعتبار أنها وريثة الاتحاد السوفييتي الذي كان لمدة أربعة عقود كاملة القوة العظمى الثانية في العالم. لكن المؤلف يشير إلى أن الاتحاد السوفييتي لم يكن في أي يوم من الأيام نموذجا للنجاح الاقتصادي، ولا تزال روسيا بعد خمس عشرة سنة من تفجره تتعثر في مسيرة اندماجها داخل الاقتصاد العالمي بسبب حالة عدم الاستقرار التي شهدتها سنوات التسعينات، ثم بسبب نزعة التسلط منذ بداية عام 2000، أي منذ وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة.
الاقتصاد الروسي اليوم، كما يتم تقديمه، جدير بالمقارنة مع اقتصاد البرازيل والهند. وتشير التوقعات إلى أنه سيكون قابلا دائما للمقارنة مع اقتصاد البرازيل عام 2050، بينما لن يمثل آنذاك سوى ربع الاقتصاد الهندي. أما أهم مصادر الدخل في روسيا فتتمثل في النفط والغاز حيث تمتلك أكبر احتياطي من هذه المادة الثانية في العالم. وقد تضاعف إجمالي الإنتاج الداخلي الروسي أربع مرات ما بين عام 1999 وعام 2006 وزاد معدل النمو الاقتصادي فيها من صفر عام 1995 إلى أكثر من 6 بالمئة عام 2000. وكان ذلك خاصة بفضل ارتفاع أسعار مواد الطاقة وزيادة الاستهلاك الداخلي.
كان فلاديمير بوتين قد أحكم سيطرة الدولة من جديد على الصناعات الاستراتيجية التي كانت قد جرت خصخصتها في عهد بوريس يلتسين مثل صناعات النفط والغاز ومجالات البنوك والبناء والصناعات الفضائية. إن مجموعة «غاز بروم» التي يعمل بها ثلاثمئة ألف شخص وحققت أرباحا بلغت 7 ,11 مليار دولار عام 2005 تمثل رمز روسيا بوتين بجدارة.
وفي سياق زيادة الطلب الكبيرة، خاصة من الصين والهند، على مواد الطاقة، ومع التوترات التي شهدتها وتشهدها منطقة الشرق الأوسط لم تعد ثروتا الطاقة الروسية مجرد متنفس اقتصادي فحسب، وإنما أيضاً أعطتا لموسكو دورا سياسيا مهماً حيال البلدان التي تعاني من التبعية حيال مصادر الطاقة خاصة تلك التي كانت تدور في فلكها سابقا. كما أثبتت أزمة الغاز مع أوكرانيا في شتاء عام 2005 وأزمة النفط في بيلاروسيا عام 2006، ولكن أيضاً إلى حد ما الاتحاد الأوروبي الذي يشتري 26 بالمئة من الغاز من روسيا.
إن رأسمالية الدولة الروسية، على غرار الدولة الصينية، ترمي إلى الاندماج في الاقتصاد العالمي. وكانت روسيا قد أصبحت عضوا في قمة الدول المصنعة السبع (أصبحت الثماني) عام 1998، بل وتولت رئاستها عام 2006. وهي الدولة الوحيدة غير الديمقراطية في هذا النادي الذي يدير الاقتصاد العالمي.
ويشير مؤلف الكتاب هنا إلى أن «الانحراف التسلطي» للنظام والعودة عن الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية لسنوات التسعينات وعن الحقوق المكتسبة والفساد أمور قد أدى إلى كبح قبولها في المنظمة العالمية للتجارة وإلى تضاؤل تدفق رؤوس الأموال الأجنبية مع إثارة الحذر لدى العالم الغربي حيال الاستثمارات الروسية.
دور البرازيل
يصف المؤلف البرازيل، عملاق أميركا اللاتينية، بأنها آخر الصغار بين البلدان الصاعدة الكبرى. فاقتصادها يعادل اليوم اقتصاد الهند لكنه لن يكون في أفق عام 2050 إلا ما يعادل أكثر من ربع الاقتصاد الهندي بقليل، ومع ذلك سوف يتجاوز اقتصاد ألمانيا وبريطانيا ويعادل اقتصاد اليابان.
وبعد عقد من التناوب بين التقهقر الاقتصادي والمراوحة في المكان عرفت البرازيل بقيادة رئيسها، لولا، نموا اقتصاديا ما بين 3 بالمئة و4 بالمئة سنويا على قاعدة تسيير اقتصادي حازم وتطوير الصادرات. وتتفرّد البرازيل بأنها استغلّت أفضل استغلال الموارد الطبيعية لأرضها الشاسعة واستخدامها للتكنولوجيات الجديدة كي تصبح القوة الزراعية-الغذائية الأولى بين بلدان الجنوب.
إن البرازيل التي أصبحوا يصفونها ب«مزرعة العالم» انتقلت بين عام 2000 وعام 2005 من المرتبة الثانية عشرة إلى المرتبة الخامسة في مجال الصادرات الزراعية الدولية. ثم إن إمكانياتها في القطاع الزراعي-الغذائي جعلت منها أحد زعماء معارضة نزعات الحماية الزراعية الأوروبية والأميركية أثناء المفاوضات التجارية متعددة الأطراف.
من جهة أخرى توجهت الصادرات الزراعية البرازيلية في عام 2005 بحوالي نصفها نحو بلدان صاعدة أو متخلّفة بينما لم تكن تتوجه سوى نسبة 20 بالمئة منها نحو هذه البلدان منذ 15 سنة، وهناك مؤشرات عديدة تدل على أن السنوات القادمة ستشهد زيادة في هذا التوجه المتسارع.
وفي البرازيل أيضاً يؤدي الجمع بين وجود المواد الأولية وتوفر اليد العاملة الرخيصة والتكنولوجيات الأكثر حداثة إلى القدرة الكبيرة على المنافسة وإلى جذب الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات لبلدان الشمال الغنية. كما أدى ازدهار «العالم الصاعد» والتزايد الكبير في الطلب الناتج عن ذلك سمح للبرازيل بتجاوز إجراءات الحماية لدى بلدان الشمال وأن تشرع بانطلاقتها الاقتصادية على أساس التجارة مع بلدان الجنوب التي كانت تتلقى وارادتها الزراعية ـ الغذائية سابقا من أميركا وأوروبا.
والبرازيل بلد منتج للنفط. وقد اختارت الانخراط في العولمة كي تتباين بذلك عن فنزويلا وبوليفيا، كما أنها تستخدم مواردها الطبيعية من أجل تطوير مصادر الطاقة المتجددة، مما يضعها في مرتبة متقدمة من الحداثة في هذا المضمار المستقبلي. هكذا يمثل «الايثانول» اليوم 25 بالمئة من استهلاك الطاقة فيها، وأكثر من سيارة برازيلية من أصل كل ثلاث سيارات تسير بمحروقات من درجة التركيب (ايثانول ـ بنزين) بينما أن المزيج المشابه لا يمثل سوى معدّل 1 بالمئة من المحروقات المباعة في بلد مثل فرنسا.
في المحصلة يرى مؤلف الكتاب أن عوامل كثيرة سوف تحد من القوة الاقتصادية للبرازيل في المستقبل المنظور، وفي مقدمة هذه العوامل تواضع نموّها الاقتصادي بالقياس إلى نمو الدول الصاعدة الأخرى، وضعف نسيجها الصناعي وبناها الأساسية (التحتية) ومنظومتها التربوية وجهازها الحكومي.
عولمة وتوتر
غدت المسائل المتعلقة بالطاقة في مقدمة الاهتمامات الدولية وأحد مصادر التوتر في العالم بفعل تلاقي العاملين المزدوجين المتمثلين في تزايد حدة المواجهة بين التيارات المتشددة في العالم العربي-الإسلامي والغرب من جهة، وفي النمو القوي الذي شهدته الدول الصاعدة من جهة أخرى.
ويحدد المؤلف تطوير نوع من المحور بين بكين وطهران على مستوى الطاقة كأحد مؤشرات المعطيات الجيوسياسية العالمية الجديدة وفي مقدمتها التعاظم الكبير في الطلب على الطاقة بالارتباط مع النهوض الاقتصادي الآسيوي، ومما يطرح بالتالي المسألة المقلقة المتعلقة بتأمين واستمرارية التزوّد بالطاقة من غاز ونفط. وتضاف في هذا السياق مشكلة زيادة سخونة الأرض والتغيرات المناخية ليقوم من هذا الخليط كله نوع من «التوازن الهش»، بل من المعادلة المتفجّرة بالنسبة للمستقبل، وحيث يغدو السؤال الكبير: «حرب أم سلام؟» مبررا تماما.
وفي الواقع، غدت مسألة الطاقة منذ تفجيرات 11 سبتمبر 2001 هي في صميم استراتيجيات القوى الكبرى المستهلكة والمنتجة باستثناء أوروبا. لقد حاولت الولايات المتحدة أن تحوّل العراق، صاحب أكبر احتياطات نفطية في العالم بعد السعودية، إلى دولة ديمقراطية صديقة للغرب وكانت نتائج ذلك معروفة.
كما أن مكافحة الإرهاب والتباري على الطاقة مع الصين والمنافسة مع روسيا، أمور أدت بمجملها إلى تعزيز الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. بالمقابل اعتمدت روسيا وبلدان منتجة أخرى للطاقة مثل إيران وفنزويلا في صعودها كقوة دولية على مواردها في الطاقة وعلى الموقع الاقتصادي ـ السياسي الذي توفّره تلك الموارد لها.
أما الصين فقد جعلت من الوصول إلى مصادر الطاقة وإلى المواد الأولية، الضرورية من أجل متابعة تطورها الاقتصادي، المحور الأساسي لدبلوماسيتها ولتوسعها الدولي. ولا شك أن الهند سوف تأخذ المنحى نفسه. فقط الاتحاد الأوروبي الذي يحتاج من أجل استهلاكه في مجال الطاقة إلى بلدان أخرى بنسبة تزيد على 55 بالمئة اليوم وسوف تصل هذه التبعية للخارج إلى 80 بالمئة في أفق عام 2030، فإنه لا يزال عاجزا حتى الآن عن صياغة سياسة طاقة مشتركة جديرة بهذه التسمية. ذلك أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لا تزال تتبع استراتيجيات متفرقة تبعا للمصالح الخاصة لكل منها.
ويتم التأكيد في هذا السياق على أن الصعود القوي للصين ووزنها الهائل لم يؤديا إلى إعادة توزيع الأوراق بالنسبة لاقتصادات العالم فحسب، وإنما أدّيا إلى تسارع إيقاع العولمة، عبر المنافسة على الطاقة تحديدا. ثم إن النهم الصيني والآسيوي عامة للطاقة أثار منافسة قاسية بالنسبة لاستثمار حقول جديدة من قبل البلدان المستهلكة الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصين وأوروبا والهند واليابان، كما أدّى إلى ارتفاع هائل في أسعار النفط مما يصب في مصلحة الدول المنتجة.
هذه المنافسة وما ينجم عنها من توترات تعاظمت أكثر فأكثر بفعل محدودية الاحتياطات البترولية والغازية والسمة الاستراتيجية الحساسة للمناطق التي توجد فيها هذه الاحتياطات تاريخيا، أي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وروسيا بشكل أساسي. انطلاقا من هذا الواقع، وكما كان الأمر في الحقبة الاستعمارية، غدا الوصول إلى مصادر الطاقة رهان الإستراتيجيات الدبلوماسية المعقّدة بين القوى الكبرى وسببا في دافع التوسع لدى الدول المستهلكة وسلاحا اقتصاديا وسياسيا بنفس الوقت بالنسبة للبلدان المنتجة.
الشركات البترولية الصينية تستثمر مبالغ هائلة في البلدان ذات الثروات النفطية والمنجمية في إفريقيا وآسيا الوسطى وأميركا اللاتينية بينما تلعب روسيا وإيران وفنزويلا وبوليفيا لعبة سلاح الطاقة من دون أية عقدة لغايات اقتصادية وسياسية أيضا. وكان قطع الغاز الروسي عن أوكرانيا في شتاء عام 2005 قد أيقظ الأوروبيين على واقع تبعيتهم الكبرى في مجال الطاقة حيال روسيا وحيال المخاطر الناجمة عن ذلك.
ويتم التأكيد في هذا السياق على أنه منذ أن استعاد الكرملين السيطرة الاستراتيجية على موارد الطاقة في بلدان عدة، وما رافق ذلك من تعاظم دور الدولة في الرأسمالية الروسية وتصميم فلاديمير بوتين على فرض المعاملة بالمثل حيال الغرب فيما يتعلق بالاستثمارات في ميدان الطاقة، بدا الأمر وكأن هناك عودة إلى الحقبة السوفييتية أكثر مما هو مرحلة انتقالية نحو الرأسمالية ونحو الديمقراطية.
منحى جديد للعولمة
من جهة أخرى، ولّد الطلب الهائل على مواد الطاقة من قبل الصين وغيرها من بلدان العالم وما ترتب على ذلك من زيادة كبيرة في أسعارها نوعا من التحوّل في الثروات لصالح البلدان المنتجة وفي مقدمتها روسيا وبلدان الخليج. ثم إن الارتفاع الهائل لأسعار النفط الخام كان وراء التحسّن الاقتصادي والصعود القوي لبلدان مثل إيران والجزائر وفنزويلا وليبيا. وكان لإعادة التوزيع هذه في الثروات آثار إيجابية من حيث تسديد الديون الخارجية العامة لأغلبية البلدان المنتجة التي كانت قد راكمت تلك الديون في فترات أقل ملاءمة لها.
كما أدّت، أي عملية إعادة التوزيع، إلى استيقاظ النزعات القومية الاقتصادية في أميركا اللاتينية وتجمّع ثروات كبيرة بين أيدي مجموعة من النخب. كذلك ازدهرت صناديق الاستثمار في البلدان المنتجة خاصة في الإمارات والسعودية والكويت حيث يتم تقدير ما تتصرف به الصناديق المعنية في هذه البلدان الثلاثة على ما يزيد من 1000 مليار دولار. كما أن هناك أيضاً عددا متزايدا من أصحاب المليارات في البلدان الصاعدة، والصين مثلا تمتلك احتياطات هائلة من العملات الصعبة من أجل تمويل توسعها الاقتصادي ودبلوماسيتها الدولية.
وتركز التحليلات المقدّمة على القول إن العولمة كانت تدل في الواقع منذ سنوات الثمانينات على تسارع عملية تدويل الاقتصادات التي كانت ذات طابع وطني متشدد وأيضا على زيادة التداخل فيما بينها كثمرة لاقتصاد السوق وتحرير المبادلات والاستثمارات الدولية.
وكانت العولمة، التي ارتبطت مع التوجه الأميركي، قد ظهرت في البداية كتهديد بالنسبة للنماذج الاجتماعية ونماذج البنى الاقتصادية في أوروبا، وأيضا كتهديد بالنسبة للتوازنات الاجتماعية-الاقتصادية للعالم الثالث. لكن العولمة، أخذت منذ مطلع القرن الحادي والعشرين منحيً جديدا إذ أصبحت «ظاهرة جيوسياسية».
إن المؤلف يؤكد على السمة التناقضية للمنحى الجديد الذي عرفته العولمة. لقد كانت تقليديا في النهج المباشر للفكر السياسي والاقتصادي الليبرالي باعتبارها ظاهرة غير سياسية ويحرّكها فقط منطق السوق وبالتالي كانت حيادية فيما يخص المسائل الاستراتيجية وإذن كانت تدفع بالأحرى باتجاه التهدئة على صعيد العلاقات الدولية.
ويرى مناوئو العولمة، من اليساريين واليمينيين على حد سواء، إنها تشكل تهديدا أيضاً للهويات الوطنية وورقة ضاغطة على الخيارات الديمقراطية وإنها تعد عنصرا مسيئا في الحياة السياسية. لكن بالمقابل يفاخر مؤيدوها ب«فضائلها» في الدفع نحو السلام والمساواة على صعيد التجارة وتشجيع قيام ديمقراطية شاملة على الصعيد العالمي حقا. لكن هؤلاء وأولئك لم يكونوا يجمعون أبدا بين العولمة والجيوسياسية وبين التجارة ونزعة التحارب.
لكن مثل هذه الصورة تغيرت منذ بدايات القرن الحادي والعشرين بفعل تصاعد التطرف والازدهار الكبير للدول الصاعدة وإسقاطاتهما السياسية-الاقتصادية، ومما جعل العولمة تغير بصورة غير مباشرة الجيوسياسة العالمية عبر تسريع التوترات الدولية بدلا من تهدئتها، وهذا ما غيّر بدوره من طبيعة العولمة نفسها.
في الغرب الليبرالي، انسحبت الدولة إلى حد كبير من رأسمال الشركات وانحصر تدخلها في الاقتصاد بقواعد المنافسة وبمستلزمات ميزانيتها. بالتوازي مع هذا سمحت قوانين السوق ومبادئ حرية انتقال رؤوس الأموال وحرية الاستثمار بسيطرة أجنبية على المجموعات الصناعية أو المالية، وأحيانا على الاقتصادات الوطنية نفسها، دون أن تكون هناك أية أداة قضائية أو أية اعتبارات سياسية تعارض ذلك، باستثناء بعض الصناعات «الاستراتيجية» المحدودة أكثر فأكثر.
لكن في الوقت نفسه أصبحت العولمة «حلبة جيوسياسية» تختبئ الدول فيها غالبا وراء الرأسماليات الجديدة للعالم الصاعد ولا تتردد في استخدام السلاح الاقتصادي لغايات سياسية، وبالعكس. بتعبير آخر اصطدمت عملية نزع السمات السياسية عن الحركات الاقتصادية كما كان يتم التأكيد في سنوات الثمانينات، مع نزعة إخفاء طابع جيوستراتيجي على المجال الاقتصادي العالمي منذ بداية القرن الحادي والعشرين كنتيجة ل«التنازعات» الحضارية وللازدهار الاقتصادي للأمم-الدول ذات الطموح الاستراتيجي المشروع.
في المحصلة يؤكد مؤلف هذا الكتاب أن المنحى الجيوسياسي الجديد للعولمة يمكن أن يفرض عليها، في أقل تقدير، واجبات أمنية ويدعو الغرب إلى درجة أكبر من الحذر، لاسيما وأنه ترافق مع الانحطاط النسبي للزعامة الديمقراطية الغربية في عالم القرن الحادي والعشرين.