الإخوان المسلمون في سورية

عبد الله الطنطاوي

عدنان سعد الدين

المراقب العام السابق للإخوان المسلمين في سورية

عبد الله الطنطاوي

[email protected]

    مقدمة

هذا المجلد - من الكتاب الكبير (الإخوان المسلمون في سورية.. مذكرات وذكريات الذي يعكف على تأليفه - من ذوب قلبه، وعصارة فكره، وصفاء نفسه، وذكاء عقله، وحيوية ذاكرته - الأستاذ الكبير، الأخ عدنان سعد الدين، مهمٌّ، وخطير، لامس قضايا كبيرة، وخطيرة، وأضاء بؤراً حالكة الظلام، وناقش بعض (المحظور) بصراحة، وجرأة، وموضوعية، لأنه يؤدي شهادة لا يستطيع أن يكتمها، أو يسكت عنها، وما ينبغي له، وهو ابن الدعوة، نشأ وترعرع في رحابها، وكان من بُناتها، ثم كان راعيها وقائدها في حقبة حرجة من تاريخ الإخوان، وهو - تاريخ الإخوان المسلمين - جزء مهم من تاريخ سورية الحديث.

 يتحدث المؤلف الكبير - ­في هذا المجلد - عن ثلاث مراحل قلقة من تاريخ سورية المعاصر:

المرحلة الأولى: تبدأ من رحيل الشيشكلي وسقوط نظامه العسكري الديكتاتوري عام 1954 إلى قيام الوحدة بين سورية ومصر عام 1958، وفي هذه المرحلة، تسلط على الحكم في سورية، ما سُمّي بحكم التجمع القومي.. تجمع الشيوعيين، والبعثيين، والمتخاذلين، والسائرين في ركب اليسار عامة.. وقد عانى الأحرار الكثير من ظلم هؤلاء، وافتئاتهم على الديمقراطية التي كانوا يزعمون أنهم رعاتها والدعاة إليها، فيما كانت ديموقراطيتهم تلك، هشّة، زائفة، عانينا – أثناءها - ألواناً من الظلم، والقهر، والاستبداد، والإقصاء، والفوضى التي قادت الوطن إلى انتكاسات في كثير من الميادين السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية.. وقد نال الإخوان المسلمين ما نالهم من أولئك المتسلطين الأجلاف، فتراجع من تراجع من الإخوان، ولكن قائد الجماعة ومفكرها وخطيبها الدكتور مصطفى السباعي، وقف وحده - بين جموع السياسيين المذعورين من الديكتاتوريات العسكرية، واليسارية - شامخاً، مقداماً، لم تضعف روحه، ولم تَخُرْ عزيمته، ولم تلن إرادة القائد فيه، بل استمر - بجلده وصبره وقوة إرادته - ملهماً للإخوان، ولسائر الأحرار المقموعين المقهورين..

تعرض – السباعي - للتآمر ممن سُمُّوا (المنشقين) بقيادة ضابط المخابرات المصري الغادر الناكث للعهد: (نجيب جويفل).. وكان وطء الانشقاق ثقيلاً، ظاهر المتآمرين على الجماعة في الداخل وفي الخارج معاً.. تعرض السباعي وتنظيمه الإخواني إلى تآمر من الداخل، وتآمر من الخارج، تمثل في الحملات المحمومة عليه وعلى جماعته، ومن الغرب ودوائره الاستخباراتية التي حاولت اغتياله، ومن (اليسار) المزعوم الذي كان يهلّل لتلك الدوائر، ويتمنّى التخلص من الجماعة باغتيال قائدها المقدام..

بعد سقوط الشيشكلي، وعودة السباعي من منفاه في لبنان، بادر إلى رصّ صفوف الجماعة، وتصدّى لمؤامرة المنشقين، ونافح حتى تمَّ له إنشاء كلية الشريعة، ولم يهدأ، ولم يدع الساحة السياسية تهدأ، وهو يتصدّى للأحلاف الاستعمارية، ومن حوله أبناء الإخوان يشدّون أزره، ويطيعون أمره، حتى لو خاض بهم المنايا.. فقد كان، وإخوانه يتحركون في سائر الميادين، وخاصة الميدان السياسي الذي أخطؤوا تجاهه خطيئة العمر، عندما عصوا قائدهم، وابتعدوا عن العمل السياسي، بحجة التفرغ للعمل التربوي، فخسرت الجماعة، وخسرت سورية الكثير، وعاشت فراغاً ما لبث اليسار أن ملأه، وعيون القائد ­السباعي­ تفيض من الدمع، على ما كان من تفريط بهذا الميدان الحساس

تحدث الكاتب الكبير عن هذه المرحلة القلقة المضطربة من حياة سورية، ومن حياة الجماعة، حديث العارف البصير المدرك للخفايا.

والمرحلة الثانية" هي مرحلة الوحدة بين سورية ومصر، تلك التي دفع إليها حبُّ السوري للوحدة، واستعداده للتضحية بالغالي والنفيس من أجلها.. ولكن الذين سعوا إليها، لم يكونوا على مستوى المسؤولية والوعي، فقدّموا سورية الحرة الديموقراطية، قلب العروبة، وظئر الإسلام.. قدّموها على طبق من ذهب، لديكتاتور يعرفونه جيداً، ولكنه استخفّ بهم، فأطاعوه، واستغلّ الظرف السيّئ الذي تعيشه سورية تحت حكم التجمع القومي، وحماقات العسكر، فاشترط عليهم شروطاً غير عادية.. شروطاً مخيفة ومجحفة، ليمسك بيده كل شيء في دولة المخابرات والقمع والقهر..

تحدث المؤلف عن هذه الوحدة.. الطفرة.. التي سلقها العسكر ومن لا دراية لهم بشؤون السياسة والحكم، والمتآمرون على سورية الجمهورية العتيدة الراسخة.. وتحدث عن الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها الحاكم بأمره.. تلك الأخطاء التي جعلت الوحدة في مهبّ رياح هوج، وقد حذّر السباعي الحكيم البصير الخائف على الوحدة.. حذّر عبدَ الناصر من تلك الأخطاء، وقال له: لا تستمع للتقارير التي يكتبونها لك، فالوحدة معرضة للضياع.. وابتسم الحاكم بأمره، وربما سخر من نصيحة هذا الأكاديمي الرجعي في زعمه الذي لا يعرف - كما يظن الطاغية - بواطن الأمور

تحدث المؤلف عن تلك الأخطاء التي جعلت الشعب السوري يتطلع إلى الخلاص من حكم عبد الناصر الشديد الوطأة.. وعن استغلال فئة من الضباط تلك الأخطاء، من أجل فصم عُرا الوحدة.

والمرحلة الثالثة: كانت مرحلة الانفصال الذي فجعنا في أول مشروع وحدوي فرحنا به، على الرغم مما لقيناه من الحاكم وحاشيته من السوريين اليساريين بشكل خاص.

تحدث المؤلف - بإسهاب - عن حماقات الانفصاليين من الضباط الذين هم أعجز من أن يديروا (سوبر ماركت) وتحدث عن ضعف رئيس الجمهورية، واضطراب السياسيين بعامة، أولئك الذين سلموا مقاليد الأمور في سورية الحبيبة، لانقلابيي الثامن من آذار، بسبب خورهم، وترددهم، وشطط بعضهم على بعضهم الآخر، وكيد بعضهم لبعض، حتى كانت الكارثة التي شاركوا جميعهم في وقوعها.. أعني كارثة انقلاب الثامن من آذار، وتسلّم ثلة من الضباط الطائفيين لأزمَّة الحكم الذي سوف يتحدث عنه المؤلف في المجلد الثالث إن شاء الله تعالى.

كانت المرارات واضحة بين السطور التي خطّها المؤلف عن أولئك الذين ضيّعوا سورية، من الانقلابيين العسكريين المستبدين، ثم من يسار التجمع القومي البائس التعيس، ثم من الذين عبثوا بالوحدة، وأذلوا الشعب السوري، حتى ضاق ذرعاً بالوحدة، وفرح بزوالها، ولكنّ خيبة آماله برجال الانفصال، كانت أشد من الخيبة بالذين حكموا أيام الوحدة، وأساؤوا، وأساؤوا، وأساؤوا، حتى تبرّم بهم وبها من كان يفتديها.

لقد خسرت سورية من عمرها أكثر من نصف قرن، نتيجة عبث العسكر، وارتباطاتهم المشبوهة، توقفت فيها التنمية، وعمّ الفساد، وتوالت الانكسارات والهزائم، وصارت البلاد مزارع للطغاة، وصارت الجمهورية ملكية يتوارثها الأغراب.

تحدّث المؤلف عن كل هذا، كما تحدث عن الطائفية ودعاتها، وعن الباطنية ومخاطرها، بمرارة وألم، وهو الدارس للتاريخ، العارف بالمآسي والكوارث التي نزلت بالأمة على أيدي أولئك العابثين الشعوبيين..

وقد شجب المؤلف الدعوات الطائفية، والباطنية، والمذهبية، وحذّر منها ومن جلاوزتها وهراطقتها، ونبّه إلى خطورتها وخطورتهم على سورية شعباً وأرضاً وقيماً، بل وعلى الأمة عامة.. فهي مرض فتّاك، لا يقتصر ضرره على فئة دون فئة، بل يصيب كل شرائح الشعب والأمة، ولا يكاد أحد ينجو من شروره.. وضرب أمثلة من القديم ومن الحديث، ودعا الجميع إلى أن يعودوا إلى عهود الوئام والازدهار.. كما دعا إلى ضرورة تحصين أبناء الشعب والأمة من مكر الطائفيين وكيدهم.

الكلام عن هذا الكتاب النفيس يطول، ومهما طال، فلن يفيه حقّه، فالمعلومات التي حفل بها واحتواها، لا نكاد نجدها مجتمعة في كتاب ولا في كتب، ولابد من دراسة الكتاب دراسة جادة، وليس قراءة عابرة.

أدعوكم إلى دراسته، وأشدّ على يد المؤلف الكاتب الكبير، وأدعو الله أن يقويه ويعينه ويمدّه بالصحة والعافية والعمر المديد، لاستكمال هذا الكتاب النفيس، وليثري المكتبة العربية والإسلامية بالمزيد من كتاباته وكتبه القيمة وعقله المستنير بنور الله، ثم بتجاربه الغنيّة عبر حياته الحافلة، التي لم يعرف اللهو وضياع الأوقات إليها سبيلاً..

آمين.. آمين.. آمين.. والحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا ونبينا وقائدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.