من روائع حضارتنا

من روائع حضارتنا

عرض:  أحمد  معاذ الخطيب الحسني

خطيب  جامع  بني أمية الكبير سابقاً

رئيس تحرير مجلة التمدن الإسلامي

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين

مقدمة الترجمة البوسنية لكتاب من روائع حضارتنا

(من روائع حضارتنا) كتاب مدهش ألفه عالم متميز ، ورغم أن الكتاب لطيف الحجم إلا أن مؤلفه جمع فيه خلاصة عشرات المراجع التاريخية ، وبذل في سبيل ذلك جهداً لايخفى.

نلاحظ من خلال دراسة الكتاب أن المؤلف يهمه أن يبين لنا أمرين اثنين :

الأمر الأول منهما : هو ماتنطوي عليه الحضارة الإسلامية من روائع وماقدمته للبشرية من استقرار وتوازن ، ومايحف بها من جمال أخاذ وشمول بديع وروح سامية ويد متقنة في كل دروب الحياة.

يقول أحد كبار العلماء المسلمين وهو الإمام الشافعي أن (من جهل شيئاً عاداه) وهناك عدد غير قليل حتى من المثقفين ، ليست لديهم أية فكرة عن الإسلام وحضارته ، بل لديهم صورة سلبية زرعتها مصادر غير موثوقة في عقولهم ، وتصورات خاصة أقرب إلى الانفعالات النفسية التي بقيت تدور في نفوسهم حتى صدقوا الكثير منها دون أية دراسة منصفة أو بحث عميق.

وبالتالي فقد كانت النتيجة الوحيدة عند أولئك هي زيادة البعد عن الإسلام ونظامه وحضارته لأن الإنسان عدو مايجهل ، لذا يقدم هذا الكتاب صورة شاملة وغير متكلفة ستدهش الكثيرين ولكنها بالتأكيد ستعطيهم أفقاً آخر وبداية جديدة للتعامل مع الإسلام.

ويوجز المؤلف خصائص الحضارة الإسلامية في خمسة محاور:

1- الوحدانية المطلقة : فللكون إله واحد قادر عظيم لايحتاج إلى أحد والكل يحتاجه وهذا الإله لم يلد ولم يولد ولم يكن كفواً له أحد ، وليس بين هذا الإله وعباده أية واسطة وكل الناس سواسية بين يديه ، ويطلبون المغفرة منه مباشرة دون أي وسيط من البشر حتى لو كان نبياً ، وقد طبع هذا التوحيد آثاره في الإسلام بدءاً من الإيمان ومروراً بالفنون الجمالية والعمارة والخط والزخرفة ، بل في كل مناحي الحياة.

2- النزعة الإنسانية : فقد أعلن كتاب المسلمين المقدس (القرآن الكريم) وحدة النوع الإنساني وأن البشر كلهم من أصل واحد ولافضل لفرد أوشعب على آخر إلا بالتقوى ، وأن الأساس في العلاقة بين الناس هو التعارف واللقاء .

كما أن القرآن الكريم حدد بشكل دقيق الهدف من إرسال النبي صلى الله عليه وسلم : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

3- الأخلاقية : فللأخلاق في الحضارة الإسلامية المحل الأول في كل نظمها ، وهذا المبدأ مقدم على كل مصلحة ، وقد أعلن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أنه قد بعث ليتمم مكارم الأخلاق.

4- الإيمان بالعلم : فلم يكن في الإسلام يوماً أي تضاد أو عداء بين الدين والعلم ، بل العلم اليقيني يقوي الإيمان ، والعقيدة الإسلامية تجعل طلب أي علم من العلوم النافعة (من كل الاختصاصات الدنيوية) فريضة على الأمة ، وبذا فقد جمعت الحضارة الإسلامية بين العقل والقلب ، والدين والعلم ، والفرد والجماعة.

5- التسامح الديني : إن الكثيرين ممن لم يعيشوا بين المسلمين لديهم أفكار بعيدة عن الصواب تماماً ، وسواء في التاريخ أو الحاضر فإن أي احتكاك بالمجتمعات المسلمة سيوضح بشكل سافر تماماً تلك الروح المتسامحة التي يحملها المسلمون تجاه الآخرين ولو خالفوهم في عقيدتهم ودينهم ، وكتب التاريخ حافلة بحرص المسلمين على رعاياهم من غير المسلمين والذين وصلوا إلى أعلى المراتب وعاشوا بين المسلمين في غاية الأمن والاحترام.

الأمر الثاني : الذي حرص المؤلف على بيانه هو حاجة البشرية كلها اليوم إلى أساس تقوم عليه ، فلقد أُنهكت البشرية ضمن عالم المادة التي احتل فيها كل شيء ، وكاد بل ألغى في كثير من الأحيان خصيصة البشر الأساسية وهي الروح.

لقد وصلت البشرية إلى مستوى متقدم جداً في النواحي التقنية والمادية ، ولكنها في الوقت نفسه وصلت إلى مستوى مزر من الضياع الروحي والتأزم الأخلاقي والإفلاس الإيماني ، وإن الإيمان الذي يفترض فيه أن يهذب الروح ، ويكبح الغرائز ، ويجعل الحياة مثل جنة لله في الأرض ؛ هذا الإيمان أقصي من ساحة الحياة فانتشرت أمراض الروح ، وبدأ الاضطراب يزحف دون أن يقف عند حدود.

إن التفكك الاجتماعي ومشاكل الكحول والمخدرات ، والنزعات الفردية والأنانية ، والجشع والظلم والعدوان مهما وضعت لها القوانين فلاشيء يصد هجومها ويقي من غوائلها غير الإيمان. بل إن جنون التسلح والعدوان المرعب على البيئة والنزاعات المسلحة ، والكراهية بين الأمم وسرقة الشعوب الضعيفة والنهم الاقتصادي للدول الصناعية وغير ذلك من الكوارث لا علاج له أبداً من دون الحضارة الإيمانية الشاملة لكل أنشطة البشر المشروعة ، والتي يدعو المؤلف الجميع إلى البحث عنها في الإسلام وحضارته المتميزة.

إن هذا الكتاب لم يكتب من أجل المتعة التاريخية فقط بل ليقول للبشرية :

أنت تغرقين وفي الإسلام مشروع إنقاذ فادرسيه بموضوعية وإنصاف.

تكلمنا عن الكتاب ولكننا لم نتكلم عن العالم الذي كتبه؟

إن المؤلف عالم شهير في العالم الإسلامي ، وهو المرحوم الدكتور مصطفى السباعي ، وقد ولد في بلاد الشام من أسرة علمية عريقة (مدينة حمص عام 1915م) وقد حفظ القرآن الكريم صغيراً ثم التحق بالثانوية الشرعية وتخرج منها عام بتفوق باهر لفت أنظار أساتذته وبعدها سافر إلى مصر وانتسب إلى كلية أصول الدين ثم حصل منها على شهادة الدكتوراه عام 1949بدرجة الامتيازحول (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي).

عين السباعي أستاذاً في كلية الحقوق عام 1950م فكان من ألمع الأساتذة فيها وأكثرهم إنتاجاً ونشاطاً ، وقد بذل جهوداً مضنية حتى استطاع تأسيس أول كلية للشريعة في سورية عام 1955 وكان أول عميد لها وأنشأ موسوعة للفقه الإسلامي وكان يريد إخراج علماء دعاة محيطين بالواقع الذي حولهم ، ورغم مرضه الشديد فقد بقي حتى آخر أيامه يزرع الهمة في نفوس من حوله.

أما حياته الميدانية فقد كانت عجيبة ، فقد ألف جمعية لمقاومة جهود السلطات الفرنسية التي كانت تحتل سورية ثم بدأ يقود المظاهرات ويخطب في الناس فاعتقله الفرنسيون ولم يتجاوز السادسة عشرة من عمره ، وتحت الضغط الشعبي أفرجوا عنه فعاد إلى العمل ضدهم فاعتقل ثانية لعدة أشهر وبعد الإفراج عنه عاد إلى محاربة الفرنسيين وشارك في المقاومة العسكرية ضدهم لتحرير سورية.

وبعد الاستقلال كان نائباً في البرلمان (1949-1954م) وكان نائب الرئيس ورفض الكثير من العروض لاستلام مناصب في الدولة.

أسس السباعي منذ كان شاباً صغيراً العديد من الجمعيات الإسلامية ، ولكن سفره إلى مصر أحدث تغييراً جذرياً لديه من خلال اجتماعه مع الأستاذ حسن البنا ، وقد بلغ نشاط السباعي إلى درجة أن القيادة البريطانية في مصر قد اعتقلته ثم سلمته إلى سلطات الاحتلال البريطاني في فلسطين فبقي في السجن أربعة أشهر ثم تم تسليمه إلى السلطات الفرنسية في سورية والتي سجنته لمدة سنتين ونصف وتعرض خلالها للأذى والتعذيب!

لما اغتيل البنا عام 1948م تولى السباعي قيادة الحركة كلها لفترة قصيرة ، وقد حاولت السلطات الإنكليزية اعتقاله لكنها لم تفلح ، وقد عاد بعدها إلى سورية ليتابع عمله الذي أسسه من قبل تحت نفس الاسم الذي عمل من خلاله مع الأستاذ البنا.

كانت للقضية الفلسطينية أهمية خاصة لدى السباعي وقد قاد فصائل مسلحة في فلسطين وأسس أعمال مقاومة واسعة وقام بجولات واسعة للتعريف بالخطر الصهيوني.

في عام 1951 رأس السباعي وفد سورية إلى المؤتمر العالمي في باكستان ، وعام 1954 رأس وفد سورية إلى المؤتمر الإسلامي المسيحي في لبنان ، كما أوفدته الجامعة السورية عام 1956 إلى أوربة فزار أغلب دولها واجتمع مع كبار المستشرقين ، ودحض حججهم وشبهاتهم عن الإسلام ، كما ألقى عشرات الدروس والخطب في المساجد والجامعات ، وفي عام 1957 زار السباعي معظم الجامعات الروسية والتقى مع علماء الدراسات الشرقية وأعلن رأيه بصراحة في وجه شبهاتهم ، وموقف المسلمين من الشيوعية.

أما في ميادين الخدمة الاجتماعية فقد تبنى السباعي حركة العمال وطالب بإنصافهم ، وأدخل قضيتهم بقوة إلى المجلس النيابي ، كما ساهم في إنشاء مدارس مجانية للعمال في كل أنحاء سورية قامت بتخريج أكثر من ثلاثة آلاف عامل ، كما ألف لجاناً لدعم القرية والقيام بالخدمات الطبية والتعليمية فيها ، وأنشأ مدرسة ثانوية للشباب وأخرى للبنات ، كما ساهم في تأسيس العديد من النوادي الرياضية ، وفضلاً عن العديد من الجمعيات الخيرية التي ساهم فيها ، فقد نظم يوماً سنوياً للفقير ، ودعم إنشاء العديد من المستوصفات المجانية والخيرية للفقراء.

عمل الأستاذ السباعي في ميدان الصحافة فأنشأ جريدة المنار عام 1947 ولما أوقفت أسس بعد سنوات جريدة الشهاب وفي نفس الوقت أصدر مجلة المسلمون التي كانت تصدر في مصر ثم غير اسمها إلى حضارة الإسلام والتي كانت في طليعة المجلات الإسلامية في العالم الإسلامي لأكثر من عشرين عاماً قبل إيقافها.

أما على صعيد التأليف فله أكثر من عشرة كتب قيمة (الكتاب الذي بين أيديكم أحدها) ومن أعظمها كتابه في الدفاع عن السنة النبوية ، وللأستاذ شعر جميل رائق ، وفيه حلق عالياً وخصوصاً في مناجاته لله تعالى أو في محبته للنبي الهادي صلى الله عليه وسلم.

أما أخلاقه فقد كان شديد الغيرة على الإسلام لايخشى في الله لومة لائم ، فيه حدة ودعابة ومرح ، وفي غاية الكرم والجود مع ضيوفه ، كما كان رجاعاً إلى الحق واسع الصدر مع المخالفين ، قوي الحجة والبيان خطيباً مصقعاً قل نظيره.

كان عند العلامة السباعي شوق عظيم إلى بلاد الحرمين وكان الحج يوصله إلى مراتب من السمو الروحي لايمكن وصفها وقد حج ثلاث مرات واعتمر مرتين ، وكتب عن رحلاته نثراً وشعراً بما لايمكن للعين إلا أن تدمع وهي تقرأ عن شدة محبته لله ورسوله.

يلاحظ أن الكثيرين ممن يعملون في النشاط السياسي والدعوي تقسو قلوبهم مع الوقت وقد يزدادون خشونة ؛ إلا السباعي وأمثاله فهم يزدادون رقة ولوعة مع الأيام ، ويحسون تماماً أن عملهم الدعوي والتربوي إنما هومحفوف بفضل الله ورحمته ، محفوظ بعنايته فيزدادون حرصاً عليه ويلجأون إلى الله في كل حال من أحوالهم.

وبسبب استغراقه الشديد في حمل هموم المسلمين فقد كان يخطب أحياناً في المسجد الأقصى في القدس أيام الجهاد ولمدة ساعة ثم يلقي بعدها درساً لاينتهي إلا قبل العصر بقليل ناسياً أن يأخذ دواء مرض السكري أو الضغط ، حتى ينفجر الدم من أنفه!

ربما يظن البعض أن السباعي كان وافر الصحة متين الجسم ، عاش لسنوات طويلة حتى بنى كل ذلك البناء!

الحقيقة أن السباعي مر بمحنة قاسية بعد أمراض عديدة ، فقد أصابه مايشابه الشلل النصفي عام 1957 فتمرد على آلامه وبقي يقود ويدعو ويحاضر ويكتب ويوجه ويربي ؛ حتى أن محاضرته عن (اشتراكية الإسلام) استغرقت أكثر من ثلاث ساعات (وهو مريض!) ثم طبعت بعدها في كتاب كبير أحدث دوياً وجدلاً لم ينته! وكذلك محاضرته الرائعة عن (المرأة بين الفقه والقانون) ، وبقي السباعي خلال ثماني سنوات يصارع المرض ولايسمع منه أحد إلا كلمات الحمد لله والشكر على نعمائه!

وقد تعرض السباعي لمحاولة اغتيال فشلت ، ولكن الأمر الأكثر قسوة هو الانشقاقات التي قامت بها جهات معروفة والتي كانت تريد جر العمل الإسلامي وشبابه إلى المذبحة ، وتشيع فكر الصدام المسلح مع الحكام ، وهو الشيء الذي كان السباعي يرفضه ، ويرى أن بيان الحق وحمله والصبر عليه هو سبيل الأنبياء والدعاة.

وعندما أحس السباعي أن وطأة المرض لن تسمح له بمتابعة قيادة العمل الذي أسسه مد يده يبايع الأستاذ عصام العطار لقيادة العمل من بعده ..

وأخيراً وبعد رحلة محفوفة بالعناء والتعب وفي يوم السبت الثالث من تشرين الأول عام 1964م استراح السباعي من هذه الدنيا المضنية ، وانطفأت فيه شعلة الحياة ولم يتجاوز الخمسين من العمر!

مضى السباعي (الذي كان أمة في رجل) ليلقى وجه الله تعالى الذي كان يعمل دائماً في سبيله ، وترك وراءه نموذجاً متقناً فريداً وعينة نادرة وقدوة لاتغيب من صنع الإسلام العظيم.

وما الكتاب الذي بين أيديكم أيها القراء الكرام إلا نموذج عما يصنعه الإسلام ويقدمه للبشرية سواء على مستوى الحضارة الإسلامية الفريدة أو على مستوى فرد متميز صنعه الإيمان ، مثل مصطفى السباعي رجل الإسلام الأول في بلاد الشام.