"الجبال لا تسقط" رواية صنعت تاريخها الخاص

"الجبال لا تسقط" رواية صنعت تاريخها الخاص

سعدية اسلايلي

[email protected]

"الجبال لا تسقط "رواية من إبداع سعدية اسلايلي مستشارة في التوجيه التربوي، وهي ليست أول إصدار روائي لكاتبتها فحسب بل هي أول إصدار بهذا الحجم يكتبه قلم نسائي بالجهة الشرقية كلها .......

قال عنها الكاتب الجزائري المعروف الطاهر وطار"لقد تمكنت من أن تقعدني في مكاني حتى الرابعة صباحا" لشدة التشويق فيها ولغناها وتنوع مواضيعها، وأضاف "مند عشر سنين لم يشدني عمل كما شدتني "الجبال لا تسقط"...

لاحظ الدكتور جميل حمداوي في دراسة له عن الرواية بالجهة الشرقية "أنها أول رواية بقلم نسائي بهذا الحجم في الجهة الشرقية" . تتمحور الرواية حول موضوعين هامين وهما. قضية المرأة وقضية العمال على ضوء قانون العولمة الذي قلب الموازين وكرس عوامل الضغط والاستغلال على كل الواجهات ، لكنها تتناول هذه المواضيع وغيرها في أسلوب ممتع وبشكل يجمع بين الشاعرية المرهفة والواقعية الصلبة والرومانسية الفائقة، بحيث يجد كل نوع من القراء ضالته. فمن خلال القراءات المتعددة التي خضع لها النص نستشف أن عدد القراءات هو بعدد القراء، وهذا ينم عن عمق في المضمون وتنوع في الأسلوب وغنى في الأفكار.

مند صدورها، عرفت الرواية عدة لقاءات مع القراء وعدة قراءات ولا زالت مذكرتها حافلة بالمواعيد عبر مختلف المدن المغربية.

هي رواية عن العنف:

"-:"لقد هددني بالقتل إن لم أعطه علامة أربعة عشرة  في مادتي، وهو لا يستطيع تركيب كلمة واحدة، توجه نحوي بحضور التلاميذ وأخرج سكينا غرسه في خشب السبورة ودفعني ضد الحائط حتى صار ملتصقا بي تماما. كان قويا ورائحة الحشيش تنبعث منه قوية، هددني بالاغتصاب والقتل..قالها بحضور تلاميذي...أليس هناك قانون في البلد ؟؟

-:"لا تكملي..نحن نعرف أكثر من هذا لكننا عاجزون تماما..فاللعبة أكثر منا...."

عن التضامن والعطاء:

"في هذه القاعة الكبيرة، يصطفون على الجانبين فوق أفرشة تقليدية من صنع نساء المنطقة : حنابل بألوان الصوف المصبوغة محليا، ووسائد تبدو من صلابتها أنها محشوة بالصوف، روائح الأرض والتراب الممزوج بالعرق، ورائحة القش أو الروث تنسم الجو بعبق الطبيعة الذي تستهويني ويثير عواطفي. ليسوا رجالا كمن تعودت رؤيتهم في النقابة، بل هم أناس كهؤلاء الذين نصادفهم في بوادي بلدنا الرحبة، هيئاتهم المعبرة عن الهمة والصدق والخالية من التصنع، لباسهم الذي يفصح عن رغبتهم واستعدادهم للبقاء حتى الوقت اللازم، جلدتهم المحمرة اليابسة، وجوههم التي تحمل آثار الزمن في تجاعيد لا تؤثر على تعبيريتهم في شيء، عيونهم المترقرقة بزرقة غريبة وثاقبة تخجل الرائي بصدقها ونفاذها، كأنها نوافذ مفتوحة على الأرض بصلابتها، كما على السماء برحابة الحلم فيها، وفسحة الأمل التي جاؤوا يلتمسونها في مناضلي العاصمة كما يسموننا. كل هذا يشعرني بذنب المسؤولية، ويزج بي في مساءلة للذات قاسية،  تمتد جذورها في عمقي أكثر من امتدادها في عمق المأساة الإنسانية التي أكتشفها لتوي مع هؤلاء الرجال من كل الأعمار، الذين يجسدون واقعا كان غيابه يخنقني بثقل النظريات وضوضاء الأفكار المنتمية لزمن كنت أظنه مضى."

عن المواجهة:

"سيارات السلطات تلاحقنا ونحن في الأمتار الأخيرة نتطلع أن تطل علينا مشارف المدينة/الحكاية. مرتفع اشتد فيه احتقان الزمن في رؤوسنا وصدورنا وقد غلب الإنصات الكلام وعلا التوجس على كل الإحساس. صرنا نتلهف لحدث ما ينزلنا من علياء النظريات إلى غبار الحقيقة، لننزل أخيرا، بمشاريعنا النضالية المؤجلة، لنتلمس نبض الأرض....

بدأت تتناهى إلى أسماعنا أصوات اقشعرت لها أبداننا، فهي شعارات كالتي ألفنا سماعها، لكنها بنكهة الحياة الواقعية وبعبق التاريخ. كأن الجبال المحيطة بنا تكبرها وتحولها إلى ما يشبه أهازيج الأعراس الشعبية في هذه المنطقة. عرس بحجم أحلام البلاد بأكملها.

تتوقف السيارات، ينزل كبيرهم وقد فقد الكثير من خيلائه المعتاد في أيام الصمت والسواد، تتراءى لنا جحافل الأطفال كسيل رمت به منحدرات الجبال، كأن مطرا سخيا هطل بهم ليملؤوا السفوح غير آبهين برجال السلطة ولا بالقمع الذي يتوعدهم.

يتوجه نحونا في خطى مرغمة وغير مفهومة، ويكلمنا في جمل غير مفيدة عن حقوق الإنسان والدموقراطية...كما تستدعي الموضة في هذه الأيام، فالمخزني والدركي والشرطي تعلموا التلفظ بهذه العبارات دون أي احترام لمعانيها، وهم يفعلون ذلك كما لو أنهم تلقوا تعليمات بهذا الشأن. لم يذهبوا من تلقاء أنفسهم، بل أرغموا على الرحيل إرغاما."

عن الحب:

"-:"أيها الناس الملونون بالكدر والوجع والألم الطويل، رجاءا اتركوا لنا فسحة صغيرة للاسترخاء، وعودوا بعدها نتبعكم حيث شئتم من دروب العناء، فنحن لسنا مثلكم، نحن لا نقوى على كل هذا العنف. دعوا لي لحظة أغرس فيها رأسي في عنقه المبلل بالعرق الخاثر وأتلقف روائحه : روائح الأرض العطشانة والغابات المورقة بالشفاء من كل داء. دعوا لي فسحة أعيد فيها نحت ذلك الجسد المنصهر من التعب ومن الحنان، وأعيد تشكيله على هواي، مثل آلهة إغريقية تلتقي فيها صلابة الحجر بشفافية الحلم. أعجن عناصره من جديد لأنتشل من تكوينه كل معاني الحرمان، فأنا بحضوره صانعة للحياة وقادرة على زرعها في عمق البوار. اتركوا لي فرصة واحدة أمتص فيها من شفتيه زبد الكلام، وأديب منها كل قسوة الخطابات التي قالها، كأنه يخرجها من كبد مجروح. كم متعبة عيناه! ذلك الأمير المدلل والشاعر الرقيق، لكنه يكابر ليكون في مستوى اللحظة القاسية علينا جميعا. كم يغلبه الدمع! ولا أرضى إلا أن يكون بكاؤه على كتفي وفي كفي تحلب العيون عصارة الروح مرة واحدة... كم أتلهف لتكون لنا وحدنا لحظة للارتعاش والبوح والضعف والارتخاء والتعري! فقط في حضرة بعضنا وللحظة واحدة..."

عن الجهل والاضطهاد:

"... تبعتها، دققت الباب، دفعته بكل قوتي، أحسست جسمها خلف الباب، ظننتها مغمى عليها لكن رؤية الدم الذي يسبح فيه جسدها صعقتني فصرت اهدي بكلام لم يسبق ان فكرت فيه بخصوص والدي. كان عمري آنذاك أربعة عشر سنة واستطعت أن أقول له.

-: أنظر يا قاتل طفلتك.

داهم الباب غضبا وليس خوفا أو ندما، وجدها تغرق في دمها، تسمر مع الحائط، استجمعت كل قوتي وانهلت عليه بالضرب بقبضتي الصغيرتين، كنت أصرخ وأخبطهما تباعا على صدره حتى نزل على ركبتيه. ولأول مرة، رأيت دمعتين متجمدتين على خديه

 -:"أستحق أكثر من الضرب ، لقد قتلت طفلتي."

"...سألتهما لماذا لم يخرجن مع نساء القرية؟ وأنهن كن محتجبات ولم يلمحهن رجلا، وعلقت بسذاجتي أن هذا ليس حرام حسب علمي، ولا يكرهه الله لأنه طلب للحق وذوذ عنه.

-:نحن لا نعرف ما يحبه وما يكرهه الله، نحن نعرف ما يحبه ويكرهه زوجنا، إن تصادفا، فتبارك الله حج وزيارة، وإن تعارضا، فالذنب على الحاكم لا على المحكوم.

أو:

"ها قد وصلنا، فضاء مثقل بضباب رصاصي وبروائح الصدأ الحمضية. الأصوات ترتد خرساء كما لو كانت تصطدم بجدار من الغبار الأسود، السماء تبدو أقرب وأثقل على هامات الجبال المطأطئة، ونحن نتقدم كمن يقتحم الغابات المحرمة للقمع في هذا الوطن.

اقتربنا عبر طريق ملتوية، متربة، غبارها أصفر كأفعى ضخمة.

ثم اختفت معالم القرية فجأة وكما بفعل ساحر خلف الجبال، وإذا بنا ونحن نفقد آثارها خلف الغبار بعد أن تراءت لنا معالمها، نتخيل أنها تغرق بكل مرارتها، تدفن تماما كما هم مدفونون تحتها. قبل ذلك كنا نسأل عن الطريق

-:" هل وصلنا؟"

 لكننا حين اقتربنا، عرفنا وحدنا أننا اقتربنا من القناع الخاص الذي لبسته وجوه مرافقينا ومن بحة أصواتهم، كأنهم هناك، كانوا يمارسون الغناء على وتر بعيد، وهاهو قد اقترب، لبسوا جلال المكان ولبسهم، تحولنا فجأة إلى ضيوف وهم إلى أهل مكان؛ عرفنا وحدنا أننا وصلنا.

ما تبقى من مواقع المنجم: هياكل ديناصورات فولاذية يعلوها الصد، وتصفر بين قوائمها الريح. منظر يؤرخ للسكون الجنائزي المطلق حتى إن أسراب العقبان تكاد تلوح في الفضاء لتخترق بأصواتها الممزقة تواطؤ الصمت، وتكاد تتقدم قطعان الضباع الجائعة، تخرج من كل المنحدرات التي لا زال يعلوها غبار سيارات السلطات ليأتي على ما تبقى من أشكال الحياة . لم يعد بالمكان سواهم، كأنهم حشرات مصابة بالوباء الأسود، يهرب منها الجميع. ملابسهم التي أكلها الزمان رؤوسهم الشعثاء وعيونهم التي تأكل وجوههم وترسم كل الكارثة ......

أصابني ذهول من يحل بقرية من الرفات، ولعنت الجد الأول لمدنية تقتل الحياة بهذه البشاعة، صرخت أعماقي كما في معبد قديم، والدمع يغسل كل شيء

عن الجمال:

"تفتح الجبال السخية صدرها وتتدلى منها الشلالات كما في جنة أرضية. الوديان تتعانق في ألفة، الماء والخضرة يمحوان الكدر عن الوجدان ويوحيان أن الدنيا لا زالت بخير. الماء أصل كل حياة. والشجر، ذلك الكائن المرافق للإنسان في رحلة وجوده فوق الأرض، ما من مكان في الكون يمكن أن يتوفر فيه هذا التآلف بين العناصر بهذه الروعة.

شلالات من الخضرة يأنس لها الضمير المتقلب على سعير القلق، غابات من النور ومهرجانات من الماء والبريق. الشمس تحتفل بعيدها كامرأة تفصح عن أنوثة كانت مخنوقة. كم جميلة طبيعة بلادنا؟"