السابحون في السماء

السابحون في السماء

عبد الله الطنطاوي

عبير الطنطاوي

[email protected]

بين فترة وأخرى يفاجئنا الأديب الكبير (عبد الله الطنطاوي) بعمل أدبي رفيع يثلج الصدور، ويعيدنا إلى أمجاد الأدب الإسلامي الفذ الذي تجد فيه حاجتك من الأدب الراقي .

(السابحون في السماء) مجموعة قصصية رائعة و(رايقة) فيها أسلوب الأديب الذي اعتدنا عليه السهل الممتنع ؛ ذلك الأسلوب السهل في ألفاظه وأفكاره وعباراته بحيث يستطيع أي قارئ من أي مستوى ثقافي أن يفهمه ويعرف مغزاه ولكنه بالوقت ذاته يصعب على أديب أي أديب تقليد أسلوبه لما فيه من خصوصية تميز أعمال أديبنا عن أي عمل لأديب آخر؛ فمنذ مدة صدر كتاب يضم مجموعة أفكار ومقالات وقصص قصيرة لمجموعة من الكتاب ولم يكتب اسم مؤلف العمل بجانب كل عمل إنما كتبت أسماء الأدباء في الفهرس بجانب اسم العمل ومع ذلك فقد استطعت أن أميز أن هذه القصص من أعمال الأديب الحلبي عبد الله الطنطاوي وكان تمييزي صحيحاً ولم أخطئ في قصة واحدة لأنه أديب مميز في أسلوبه وأفكاره وأعماله .

(السابحون في السماء) مجموعة قصصية نشلتني أنا الأم لطفلين هما كل وجل حياتي أنام وأصحو وهما على بالي شغلاني عن أعز هواية لي وهي المطالعة الأدبية فقد كنت قبل سنوات من القارئات الممتازات ولم أجد منذ فترة كتاباً يشدني ويشغلني عن طفلي كما وجدت في (السابحون في السماء) فهي مجموعة تقلب مزاجك كما تقلب أنت صفحات كتابها ! هي مجموعة من القطع المتوسط بطباعة أنيقة تضم قصصاً من التاريخ الإسلامي كقصة (لا تؤذه مرتين) و (الناطور العفيف) و (لن أعذب بهيمة في شهوة) و(الجود بالنفس) و (أصحاب الجنة) فهي من التاريخ الإسلامي القديم فالأولى عن عبد الله بن المبارك والثانية عن المبارك والده وقصة زواجه من أم عبد الله بن المبارك والثالثة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي رفض أن يأكل السمك الذي كان قد اشتهاه منذ سنين لأن خادمه أتعب فرسه في البحث عن سمك لأمير المؤمنين والرابعة عن أحد الأمراء الذي جاد بقطرة ماء فيها حياته لينقذ رجلاً تائهاً في الصحراء والخامسة عن أصحاب الجنة القصة المذكورة في سورة القلم في القرآن الكريم .

وثمة قصص أخرى هي بعض من معاناة الكاتب، ومنها ذكريات شخصية للأديب مع بعض من حوله مثل (الأرواح جنود مجندة) و (دخيلك سامحني) و (في جنيف) و (روحانية) و (بلا بيروت بلا سان جورج) و (أخت الرجال) و (رب أخ لم تلده أمك) و (قم يا حسين) فيها بعض الذكريات الحزينة عن أيام السجن والاعتقال ؛ كما فيها بعض المرح المخفي بين الخفايا يشرئبّ عنقه قليلاً ثم يختفي .

وهناك قصص سمع عن أصحابها وقد يكون قد عاشرهم مثل (أم المساكين) و (السابحون في السماء) و (هكذا أفهم الآية) و (النظر الثاقب) و (أجير الفوال) و (الكلمة الطيبة) و (جدتي) و (لا يذهب العرف بين الله والناس) و (عرس في الشارقة) و (يا ويح المنفرين) و (لماذا أصيب الحاج محمود بالربو) كلها قصص كموج البحر تعلو بك وتهبط تشدك إلى عوالم تشعرك كأنك واحد من أفراد هذه القصص أو ربما تكون بطلاً من أبطالها.

ولا أريد أن أنسى أن أشير إلى مدى احترام الأديب للمرأة في قصصه كلها بل وفي حياته العملية أيضاً وأن المرأة قد أخذت حظاً من قصصه وافياً أظهر فيها رقي فكر بعض النساء في الوقت الذي يغمض فيه كثير من الأدباء مع الأسف حق المرأة العاقلة القانتة المتدينة المثقفة ويضع جميع النساء في صف الجهل والتخلف ؛ ولمست جوانب من حبه الكبير لأمه (رحمها الله) التي غادرت الدنيا من دون أن يراها وتراه فتركت بصمة لا تمحى في قلبه الرقيق الحنون عبر عن هذا الحب في قصة (جدتي) مثلاً وكثير من قصصه التي أظهرت المرأة بمظهرها الإسلامي الجميل فالسابحون في السماء قصة تحكي عن أب لأولاد ثلاثة حلم حلماً أنه يطير في السماء بين الشهيد حسن البنا والشهيد سيد قطب فعرفت زوجته بحسها المرهف أن أبا أولادها ورفيق دربها سيطير حتماً إلى حيث طارا ؛ وكيف عالجت الأمر بحكمة وكيف تذكرت يتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ عبر الأديب الكبير عن أفكارها ببضعة سطور ولكنها كانت قادرة على سفح الكثير من الدموع .

حفظ الله لنا أديبنا الكبير وأعانه على همومه الكبيرة وهي هموم الأمة فما تجلس معه حتى تشعر بضيق في نفسه الرقيقة التي لا تحتمل أن ترى الأمة بهذا البلاء دون أن يظهر الحزن بين مآقيها ؛ حتى أنه قد عرف عنه عدم رغبته بالأفراح وحضورها إنما يحضرها طاعة لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا بتلبية دعوة الأخ المسلم ؛ كما أنه لا يغفل أن يروح عن نفس أحبابه من صغار أو كبار ببعض المرح اللذيذ الذي يسعد الجميع ويجعله كالنجم المتلألئ وحوله الناس مبهورين به حفظه الله لنا وأمد الله في عمره وبارك في وقته وجهده وصحته ليتحف الأدب الإسلامي بمزيد من الأعمال التي نحن في أمس الحاجة إليها خاصة في هذا العصر الصعب وأتمنى من الأدباء أن يحذوا حذوه في التواضع الجم الذي يتحلى به حتى يجعله هذا التواضع ينزل إلى كل المستويات ليرقى بمن هو أدنى منه إلى مستواه حتى ولو كان طفلاً صغيراً وهذا ما نلمسه في تعامله مع أحفاده الصغار وغير أحفاده فما عرفت طفلاً إلا وقد ضحك بين يدي أديبنا بل وتعلق به حتى ولو لم يتجاوز اللقاء نصف الساعة.