البعد الإنساني في الرسالة الإسلامية(1)
البعد الإنساني في الرسالة الإسلامية(1)
|
عدنان سعد الدين |
المقدمة
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، وأفضل صلاة وأزكى سلام على سيدنا محمد، الرحمة المهداة والنعمة المزجاة الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق، وبعثه رحمة للعالمين وبعد:
فلقد أمسى موضوع حقوق الإنسان حدث العصر وحديثه، تدافع عنه الدول في جميع البقاع وشتى الأصقاع، إذ لم تبق دولة أو منظمة سياسية إلا وأدلت بدلوها في هذا الشأن، فأنشأت له الهيئات والمؤسسات، وأقامت لـه الفـروع، وكتبت فيـه المواثيق، وكانت هذه الموجة قد بلغت ذروتها في إعلان الأمم المتحدة ميثاقها الخاص بالدفاع عن الإنسان، والتأكيد على حقه في الاعتقاد والتفكير والتعبير. وصارت دول العالم تحتفل كـل عام بذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمـم المتحدة في العاشر من شهر كانون الأول ـ ديسمبر ـ عام1948.
فهل أخذ هذا الميثاق طريقه إلى التنفيذ والتطبيق؟ وهل نَعِم الإنسان بحقه في الحياة والحرية والتعبير والمساواة بين الدول والشعوب؟ لقد حدث ما يلفت النظر، ويدعو إلى التأمل والتفكير العميق!
فكل ما دعا إليه الميثاق أو نص عليه من الحقوق عمدت الدول عملياً وعلى أرض الواقع على طمسه وإجهاضه وتنفيذ ما يناقضه، وكان باكورة الخروج على ميثاق الأمم المتحدة طرد الشعب العربي في فلسطين من وطنه في عام 1948م، أي في العام الذي صدر فيه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وتم تسليم هذا الوطن السليب إلى شعب آخر، ثم رأينا نكبات الشعوب تترى، ليشهد عصرنا الذي ولد فيه ميثاق حقوق الإنسان أخطر انتهاكاتٍ لهذه الحقوق من قبل دول وقعت على بنود الميثاق، ثم دأبت الدول الكبيرة على ظلم الشعوب وسحقها والتلاعب في مصائر الأمم، فاستعذبت تعذيب بني البشر، وفي أحيان كثيرة قتلهم وإبادتهم بدعاوى زائفة وأعذار واهية وأسباب تدعو إلى الهزء وتثير السخرية.
فباسم الأمم المتحدة التي أنشئت لإسعاد الإنسان وحمايته والدفاع عنه، تحاصر شعوب بأكملها حصاراً يفضي إلى قتل مئات الألوف من أبنائها باعتراف مؤسسات المنظمة نفسها، وإلى عزل دول وحرمان شعبها من السفر وركوب الطائرة ولو إلى بيت الله الحرام، وإلى خنق أمم وقتل أبنائها الأبرياء بالقنابل الرهيبة التي تدك الجبال دكاً، وإلى التحريض على شعوب مستضعفة وتجويعها بدعاوى باطلة وأسباب لا تصدقها العقول ولا تقبلها الفِطر السليمة، لأنها أوهى من بيت العنكبوت!! فأي هول أكبر من هذا الهول؟ وهل تكون هيئة الأمم المتحدة بعد هذا الإجرام الذي ترتكبه أو يُرتكب باسمها مؤهلة لرعاية حقوق الإنسان ومصالح الشعوب؟
إن هيئة الأمم المتحدة أو الذين يصادرون قراراتها تدفع بالبشرية إلى الهاوية، وتقود الشعوب إلى حتفها، وتثبت في كل مناسبة أنها تسير على خطا سابقتها عصبة الأمم التي انتهى بها المطاف إلى الفشل، ومن ثم إلى نشوب الحرب العالمية الثانية.
فلا مناص والحالة هذه أن تتحمل الشعوب مسؤولياتها لإنقاذ البشرية من كارثة رهيبة ربما يكون فيها القضاء المبرم على الإنسان. لا بد من تحرك جريء عاجل يقوده العلماء والفلاسفة والمفكرون والمصلحون وقادة الرأي وأرباب الأقلام ودعاة الحرية والغيورون على رسالات السماء، وأن يفكروا بصوت مسموع، ويرسلوا صيحاتهم مدوية في وجوه الظالمين والمتسلطين على عباد الله، يصادرون حرياتهم ويسلبون أقواتهم ويزهقون ـ إذا اقتضت مصالحهم ـ أرواحهم.
فإذا ما التقت قوى الخير الموجودة في أمريكا وأوربا وفي بلاد المشرق، وتعاونت وتلاحمت بصرف النظر عن جميع الفوارق في الأجناس والأفكار، وأخذت على عاتقها الدفاع عن الإنسان بكل ما تملك من طاقات وقدرات. فاليأس الذي يغمر حياة الشعوب أو معظمها سيبدد، والآمال في تصحيح المسار في رحلة الإنسان في هذا الكون ستحيا، والمسؤولية تقع على كاهل المسلمين قبل غيرهم باعتبارهم أصحاب رسالة خاتمة، ولأن حقوق الإنسان وكرامته وقيمته الكبرى في ميزان الإسلام واضحة ثابتة وراسخة ومكتملة وهذا يوجب على الدعاة والمفكرين أكثر من غيرهم أن يعملوا على بيانها والتبشير بها والدعوة إليها.
وفي هذا السياق تأتي هذه الدراسة بعنوان: البعد الإنساني في الرسالة الإسلامية، والله من وراء القصد، وهو ولي التوفيق.
* * *
الفصل الأول
البشرية قبل ظهور الإسلام
كي نلمس الأثر الكبير، وندرك التغير الذي أحدثه الإسلام بعد ظهوره في حياة البشرية، لابد من إلقاء نظرة فاحصة على حياة الشعوب والأقوام والأمم المعروفة لدى المؤرخين قبل بزوغ فجر الإسلام.
الديانة اليهودية
1- انحرفت اليهودية عن مسارها كدين سماوي، وتسربت إليها تعاليم خاطئة وأفكار منحرفة ونزعات ضارة، فأصبحت مجموعة من طقوس وتقاليد لا روح فيها ولا حياة، وهي ـ علاوة عن ذلك ـ ديانة سلالية ـ كما انتهى بها المآل ـ لا تحمل للعالم رسالة، ولا للأمم دعوة، ولا للإنسانية رحمة([1]).
فقد جاء في دائرة المعارف اليهودية ما فحواه: إن سخط الأنبياء وغضبهم على عبّاد الأوثان يدل على أن عبادة الأصنام والآلهة تسربت إلى الإسرائيليين، ولم تُستأصل شأفتها إلى أيام رجوعهم من النفي إلى بابل، فقد قبلوا معتقدات خرافية ومشركة. إن التلمود يشهد بأن الوثنية كانت ذات جاذبية خاصة لليهود، ويدل تلمود بابل الذي يبالغ اليهود في تقديسه ـ وقد يفضلونه على التوراة ـ والذي كان ما يزال متداولاً بين اليهود في القرن السادس المسيحي على ما يزخر به من نماذج غريبة من خفة العقل وسخف القول والاجتراء على الله، والعبث بالحقائق والتلاعب بالدين والفكر، كما يدل على ما وصل إليه المجتمع اليهودي في هذا القرن من الانحطاط العقلي وفساد الذوق المعتقدي، وقد نقل هذه النصوص من دائرة المعارف اليهودية إلى العربية الدكتور روهلنج، والدكتور يوسف حنا نصر الله الذي نقله من الفرنسية بعنوان: المرصود في قواعد التلمود([2]).
جراء هذا الانحراف عن عقيدة التوحيد، والإمعان في العبادات الوثنية، والابتعاد عن القيم والمثل السماوية، عُرف اليهود بصفات وخصائص ظلت لهم شعاراً وطابعاً على تعاقب العصور والأجيال، منها الخنوع عند الضعف، والبطش وسوء السيرة عند الغلبة، والختل والنفاق في كل الأحوال، والقسوة والأثرة وأكل أموال الناس بالباطل، والصد عن الحق والعدل وعن سبيل الله، وقد وصفهم القرآن الكريم وصفاً دقيقاً عميقاً أبْرَزَ ما كانوا عليه في القرنين السادس والسابع الميلاديين من تدهور خلقي وانحطاط نفسي وفساد اجتماعي انتهى بهم إلى كره الشعوب لهم ومقتهم لتصرفاتهم وما يلحقونه بالناس من إيذاء وضر وكيد.
لقد حدث في أوائل القرن السابع ما دفع بهم إلى الصدام مع المسيحيين وإلى تشويه سمعتهم، ففي السنة الأخيرة من حكم فوكاس الإمبراطور الروماني (610م) أوقع اليهود بالمسيحيين في أنطاكية، مذبحة رهيبة؛ فأرسل الإمبراطور قائده اينوسوس ليقضي على ثورتهم، فأنفذ عمله بقسوة بالغة، وقتل منهم مقتلة كبيرة بالسيف والشنق والإغراق والتعذيب والرمي إلى الوحوش الكاسرة([3]).
قال المقريزي في الصفحة 392 من الجزء الرابع في خططه: في عهد ملك الروم فوقا بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر، فخربوا كنائس القدس وفلسطين وعامة بلاد الشام، وقتلوا النصارى بأعداد كبيرة، وساروا إلى مصر فقتلوا منهم أمة كبيرة، وسبوا منهم سبياً لا يدخل تحت حصر، وقد انضم اليهود إلى الفرس وساعدوهم في قتل النصارى وهدم كنائسهم، ونالوا من النصارى كل منال، وأمعنوا بالنكاية فيهم، وخربوا لهم كنيستين في القدس، وأحرقوا أماكنهم، وأخذوا قطعة من عود الصليب، وأسروا بطرق القدس وكثيراً من أصحابه.
سار هرقل من القسطنطينية على رأس قواته ليسعف بلاد الشام ومصر، ويجدد ما خربه الفرس، فاستقبله يهود طبريا وقدموا له الهدايا، وطلبوا منه أن يؤمنهم ويحلف لهم على ذلك، فأمنهم وحلف لهم، وعندما وصل القدس (وتلقاه النصارى بالأناجيل والصلبان) وجد المدينة وكنائسها خراباً، فأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود عليهم وتعاونهم مع الفرس ضدهم، وأنهم كانوا أشد نكاية بهم من الفرس، وحثوا هرقل على الوقيعة بهم، فاحتج بتأمينه لهم وحلفه على ذلك، فأفتاه رهبانهم وبطاركتهم وقسيسوهم بأنه لا حرج عليه في قتلهم، وأنهم يقومون عنه بكفارة يمينه، فأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم فيها حتى لم يبق في ممالك الروم بمصر والشام إلا من فر واختفى.
بهذه الروايات ندرك ما وصل إليه الفريقان ـ اليهود والنصارى ـ من القسوة والضراوة والاستخفاف بالدم الإنساني، والاستهانة بحق الإنسان في الحياة، والاستهتار بدماء بني البشر، إذ لا يمكن لطائفة أو أمة تحمل رسالة الحق والعدل والسلام([4]) أن ترتكب مثل هذه الجرائم الشنعاء.
الديانة المسيحية
أما المسيحية ـ الديانة السماوية السمحاء ـ فقد ابتليت بتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، ووثنية الرومان المنتصرين منذ عصرها الأول، وأضحى كل ذلك ركاماً، دفنت تحته تعاليم السيد المسيح عليه السلام، واختفى أو انطفأ نور التوحيد وإخلاص العبادة لله وراء هذه السحب الكثيفة.
تحدث كاتب مسيحي منصف عن تغلغل عقيدة التثليث في المجتمع المسيحي كما جاء في دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة حول التثليث المقدس في الجزء 14 ص295 فقال: تغلغل الاعتقاد بأن الله مركب من ثلاثة أقانيم في حياة المسيحيين وفكرهم منذ ربع القرن الرابع الأخير، ودامت عقيدة رسميةُ مَسلَّمَة، عليها الاعتماد في جميع أنحاء العالم المسيحي، ولم يرفع الستار عن تطور عقيدة التثليث وسرها إلا في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر الميلادي([5]).
تحدث مؤرخ مسيحي معاصر عن ظهور الوثنية في المجتمع المسيحي بمظاهر مختلفة وألوان شتى، فقد تفنن المسيحيون في اقتباس الشعائر والعادات والأعياد الوثنية من أمم وديانات عريقة في الشرك بحكم التقليد أو الإعجاب أو الجهل، وقد أورد المؤرخ في ـ تاريخ المسيحية في ضوء العلم المعاصر ـ أن الوثنية انتهت، لكنها لم تلق إبادة كاملة، بل إنها تغلغلت في النفوس، واستمر كل شيء فيها باسم المسيحية وفي ستارها، فالذين تجردوا عن آلهتهم وأبطالهم وتخلوا عنهم أخذوا شهيداً من شهدائهم ولقبوه بأوصاف الآلهة، ثم صنعوا له تمثالاً، وهكذا تنقل هذا الشرك وعبادة الأوثان إلى هؤلاء الشهداء المحليين، فلم ينته هذا القرن ـ الرابع ـ حتى عمت فيهم عبادة الشهداء والأولياء، وتكونت عقيدة جديدة، هي أن الأولياء يحملون صفات الألوهية، وأنهم وسطاء بين الله وخلقه، وصاروا رمزاً لقداسة القرون الوسطى وورعها وطهرها، وغيرت أسماء الأعياد الوثنية بأسماء جديدة حتى تحول في عام 400م عيد الشمس القديم إلى عيد ميلاد السيد المسيح([6]).
وعندما جاء بولس طمس نور المسيحية، وطعمها بخرافات الجاهلية حتى أصبحت النصرانية مزيجاً من الخرافات اليونانية والوثنية والرومانية والأفلاطونية المصرية والرهبانية، فاضمحلت في جنبها تعاليم السيد المسيح البسيطة كما تتلاشى القطرة في اليم.
وكل من رفض هذه المعتقدات تعرض لاضطهاد وحشي، (ولاسيما في مصر) استمر عشر سنين على يد قيرس، ووقع على المؤمنين من العذاب ما تقشعر منه الجلود، كان الرجال يعذبون ثم يقتلون إغراقاً، وكانت المشاعل توقد وتسلط نارها على المضطهدين حتى يسيل الدهن من الجانبين إلى الأرض، كما كان السجين يوضع في كيس مملوء بالرمل، ويرمى به في البحر، إلى غير ذلك من ألوان التعذيب الرهيبة([7]).
يقول الدكتور غوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب (تعريب عادل زعيتر في الفصل الرابع من كتابه: العرب في مصر ص336): لقد أكرهت مصر على انتحال النصرانية، فهبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط الذي لم ينتشلها منه سوى الفتح العربي، وكان البؤس والشقاء أن يغمر حياة السكان في مصر التي كانت مسرحاً للاختلافات الدينية الكثيرة في تلك الفترة، وكان أهل مصر يقتتلون ويتلاعنون بفعل تلك الاختلافات، كما كانت مصر التي أكلتها الصراعات الدينية، وأنهكها استبداد الحكام تحقد أشد الحقد على سادتها الرومان، وتنتظر ساعة تحريرها من قياصرة القسطنطينية الظالمين، الذين اتخذوها شاة حلوباً يستنـزفون مواردها، ويمتصون دمها.
يقول الدكتور ألفريد ج. بتلر في كتابه فتح العرب لمصر: إن الروم كانوا يجبون من مصر جزية على الرؤوس وضرائب أخرى كثيرة العدد، فكانت ضرائب الروم ظالمة غير عادلة، وكانت فوق طاقة المواطنين([8]).
يقول هـ.ج ويلز: لقد أطبق على أوربا ليل حالك في القرن الخامس وحتى القرن العاشر، وكان هذا الليل يزداد ظلاماً وسواداً، فقد كانت همجية ذلك العهد أشد هولاً وأفظع من همجية العهد الجديد، لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تعفنت، وانطمست معالم هذه الحضارة وقضي عليها بالزوال، وكانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها هذه الحضارة وبلغت أوجها في الماضي كإيطاليا وفرنسة فريسة الدمار والفوضى والخراب. ويقول الأستاذ ثيلي في كتابه ـ تاريخ الفلسفة ـ: لعل القرنين السابع والثامن كانا أظلم عهد في تاريخ حضارة أوربا الغربية، إنه كان عهد بربرية وجهالة لا نهاية لـهما، أما الأستاذ دريبر فإنه يصف أوربا بالكلمات الآتية: يصعب القول عن سكان أوربا القدماء بأنـهم تجاوزوا البربرية والوحشية، فقد كانت أجسامـهم قذرة، وأخيلتهم مفعمة بالأوهام، يؤمنون إيماناً راسخاً بكل ما ينقل من الأساطير والحكايات التافهة التي لا أساس لـها عن كرامات الأضرحة ودعاوى القداسة المزعومة([9]).
الديانات في إيران
تفشت الوثنية في إيران، وسيطرت على السكان المعتقدات البالية والأساطير والأوهام والخرافات وعبادة النار وتقديس الأمراء وتأليه الأباطرة.
كانت الزرادشتية ديانة إيران القديمة، ومن الراجح أن زردشت مؤسس هذه الديانة ظهر في القرن السابع قبل الميلاد، وبنى هذه الديانة منذ ظهورها على الحرب القائمة بين إله الخير وإله الشر، أو بين النور والظلام. وبعد قرون على ظهور هذه العقيدة وانتشارها ظهر ماني في أوائل القرن الثالث الميلادي ليجدد هذه الديانة، ويضيف عليها من فكره وفلسفته كما جاء في الباب الرابع من كتاب ـ إيران في عهد الساسانيين ـ وكان من أتباع ماني شاه بور الذي خلف أردشير عام241م مؤسس الدولة الساسانية، فاحتضن شاه بور دعوة ماني ثم أصبح له معارضاً.
كان ماني يدعو إلى حياة العزوبة لحسم مادة الفساد والشر من العالم، ويعلن أن امتزاج النور بالظلمة شر ينبغي الخلاص منه، فحرم النكاح استعجالاً للفناء، وانتصاراً للنور على الظلمة لقطع النسل، ثم أبعده الإمبراطور، فقضى أعواماً في المنفى، ليعود بعد ذلك إلى إيران، ويقتل في عهد بهرام الأول، غير أن تعاليمه لم تمت، بل بقيت تؤثر في التفكير الإيراني وفي المجتمع الإيراني لفترة طويلة([10]).
في أوائل القرن الخامس الميلادي ظهر مزدك، فدعا إلى إباحة الأموال والنساء، فقويت دعوته واستفحل خطرها، فكان الناس يدخلون على الرجل في داره، فيغلبونه على أهله وأمواله، لا يستطيع الامتناع منهم، فساءت الأحوال في أنحاء الإمبراطورية ـ الساسانية ـ بشكل فظيع وصورة مخيفة، ولا سيما في القرن السادس الميلادي، وتأله الملوك ووضعوا أنفسهم فوق بني آدم، واستعبدوا المواطنين، وكانوا يخاطَبون بكلمة الإله، وتنسب إليهم الألوهية بعبارات واضحة معلنَة.
أما الشعب فقد كان يائساً بائساً يغمره الشقاء والعناء، يئن من الظلم، ويجأر بالتذمر والبكاء، ويعيش في جهد ورهق، ويكابد لاهثاً للحصول على ما يسد رمقه ويستر عورته.
ولم تزل المحرمات التي تواضعت أو اتفقت على حرمتها طبائع الناس وأهل الأقاليم موضع خلاف ونقاش واستنكار، حتى إن يزدجرد الثاني الذي حكم في أواسط القرن الخامس الميلادي تزوج ابنته ثم قتلها، وإن بهرام جوبين الذي تملك في القرن السادس كان متزوجاً بأخته كما جاء في الجزء الثاني من تاريخ الطبري صفحة 138.
وكان بين طبقات المجتمع هوة واسعة لا تصل بينها صلة، فكان ملوك إيران لا يولون وضيعاً وظيفة في دوائرهم، وقد بلغ هذا التفاوت بين طبقات المجتمع درجة الامتهان للإنسان كما كان يظهر جلياً في مجالس الأشراف والأمراء([11]).
يقول مكاريوس في كتابه: تاريخ إيران صفحة 90: كان لكسرى أبرويز 12 ألف امرأة، وخمسون ألف جواد، وأشياء لا تحصى من أدوات الترف والقصور الباذخة ومظاهر الثروة والنعمة، وكان قصره مثالاً في الغنى والأبهة، ويقول مكاريوس أيضاً: لم يرو في التاريخ أن مليكاً بذخ وتنعم مثل الأكاسرة الذين كانت تأتيهم الهدايا والجرايات من كل البلدان الواقعة ما بين الشرق الأقصى والشرق الأدنى([12]).
أما المجوس فقد عرفوا من قديم الزمان بعبادة العناصر الطبيعية، وفي مقدمتها النار، فقد عكفوا على عبادتها، يبنون لها هياكل ومعابد، فانتشرت بيوت النار في طول البلاد وعرضها. يصف الأستاذ آرتهر كرستين سين أستاذ الألسنة الشرقية في جامعة كوبنهاكن بالدانمارك في كتابه ـ إيران في عهد الساسانيين ـ طبقة رؤساء الدين ووظائفهم بقوله: كان واجباً على هؤلاء الموظفين أن يعبدوا الشمس أربع مرات في اليوم، ويضاف إلى ذلك عبادة القمر والنار والماء، وكانوا مأمورين ألا يدعوا النار تنطفئ، وقد دانوا بالثنوية التي كانت شعاراً لهم، وآمنوا بإلهين اثنين ما يزال الصراع بينهما قائماً والحرب مستعرة ودائمة.
يقول آرتهر كذلك: كان الفلاحون في شقاء وبؤس أليم، وكانوا مرتبطين بالأرض، وكانوا يُستخدمون مجاناً، ويُكلفون بكل الأعمال، ويسيرون خلف الجيوش مشاة، وكأنه قد كتب عليهم الرق الدائم، ولم يكونوا ينالون إعانة أو أجرة، وكانت علاقتهم بالملاك أصحاب الأراضي كعلاقة العبيد بالسادة كما يقول المؤرخ أميان مارسيلينوس([13]).
الديانات في الهند
أما الهند التي ازدهرت فيها العلوم الرياضية وعلم الفلك والطب والفلسفة في العصر القديم، فقد اتفقت كلمة المؤرخين لها على أن أحط أدوارها ديانة وخلقاً واجتماعاً كان في ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس الميلادي، إذ انتشرت الخلاعة حتى في المعابد، وأضحت مألوفة لا عيب فيها، لأن الدين قد أضفى عليها لوناً من القداسة والتعبد، ولم يكن للمرأة قيمة ولا عصمة ولا كرامة، كان الرجل يخسر امرأته في القمار، وإذا مات زوجها صارت كالموؤودة لا تتزوج ولا تستحق احتراماً، وانتشرت عادة إحراق الأيامى نفوسهن على وفاة أزواجهن.
كان المجتمع الهندي جامداً، وكان ثمة تفاوت عظيم بين الطبقات، وتمييز معيب بين أسرة وأسرة، وكانوا لا يسمحون بزواج الأيامى، ويشددون على أنفسهم في أمور الطعام والشراب. أما المنبوذون فكانوا يعيشون ـ مضطرين ـ خارج بلدهم ومدينتهم، لقد بلغ إهدار كرامة الإنسان وازدراء الطبقات التي اعتبرها الآريون المحتلون في القانون المدني الذي وضعوه مخلوقاً خسيساً لا يتميز عن الحيوان إلا أنه يمشي على اثنتين، وأنه يحمل صورة الآدمي ـ مع أنهم سكان البلاد الأصليون ـ لقد نص هذا القانون الجائر العجيب على أن الهندي المنبوذ إذا مد إلى برهمي يداً أو عصاً ليبطش به قطعت يده، وإذا رفسه قطعت رجله، وإذا ادعى أنه يعلمه سُقي زيتاً مغلياً، وأن دية الكلب والقطة والضفدع والغراب والبومة والمنبوذ سواء([14]).
لقد نافست الهند جاراتها وشقيقاتها بالتدهور الخلقي والاجتماعي الذي عمّ الكرة الأرضية في تلك الحقبة من الزمن، وأخذت نصيباً وافراً من هذا الظلام الذي مد رواقه على المعمورة، بل لقد زادت على ذلك، وعُرفت بظواهر وخلالٍ يمكن تلخيصها بثلاثة أمور: 1- كثرة المعبـودات والآلهة كثـرة فاحشـة. 2- الشهوة الجنسية الجامحة. 3- التفاوت الطبقي المجحف، والامتيازات الاجتماعية الجائرة، فقد بلغت الوثنية أوجها في القرن السادس، وارتفع عدد الآلهة من ثلاثة وثلاثين لتصبح في هذا القرن /330/ مليوناً، وأصبح كل شيء جذاب، وكل مرفق من مرافق الحياة إلهاً يعبد، أما نظام الطبقات فلم يعرف في تاريخ الإنسانية نظام طبقي أشد قسوة وأكبر فصلاً بين طبقة وأخرى، وأكثر استهانة بشرف الإنسان من النظام الذي سيطر على الحياة الاجتماعية في الهند، وناءت بحمله وخضعت له آلافاً من السنين، ولا تزال آثاره وبقاياه في الحياة الهندية حتى يومنا هذا([15]).
فالمنبوذون ـ شودر ـ بنص القانون أحط من البهائم، ومن سعادتهم أن يقوموا بخدمة البرهمي بدون أجر، وليس لهم أن يقتنوا مالاً أو يدخروا كنـزاً، فإن ذلك يؤذي البراهمة، وإذا هم المنبوذ أن يجالس برهمياً فعلى الملك أن يكوي استه، وإذا سبه يقتلع لسانه([16]).
أما البوذية ـ الديانة المنتشرة في الهند وآسيا الوسطى ـ فقد تحولت إلى وثنية تحمل معها الأصنام حيث سارت، وتبني الهياكل، وتنصب تماثيل بوذا حيث حلت ونزلت. وهذا ما يؤكده إيشورا توبا أستاذ تاريخ الحضارة الهندية في جامعة حيدر آباد، والسيد جواهر لال نهرو رئيس الهند الأسبق في الصفحة 201 ـ 202 من كتابه: اكتشاف الهند.
أما الأستاذ الهندوكي سي.وي. ويد فيقول في كتابه: تاريخ الهند الوسطى وهو يتحدث عن عهد الملك هرش (606ـ648م): كانت الديانة الهندكية والديانة البوذية وثنيتين سواء بسواء، بل ربما كانت الديانة البوذية قد فاقت الديانة الهندكية في الإغراق بالوثنية، فمما لا شك فيه أن الوثنية كانت منتشرة في العالم المعاصر كله، فلقد كانت الدنيا كلها من البحر الأطلسي إلى المحيط الهادي غارقة في الوثنية، وكأنما كانت المسيحية والديانات السامية والديانة البوذية تتسابق في تعظيم الأوثان وتقديسها([17]).
العرب قبل الإسلام
أما العرب الذين آمنوا في الزمن القديم بدين إبراهيم عليه السلام، وقام في أرضهم بيت الله الحرام، فقد ابتلوا في العصر الأخير ـ لبعد عهدهم من النبوة والأنبياء، والانحصار في جزيرتهم ـ بوثنية سخيفة لا يوجد لها نظير إلا في الهند البرهمية الوثنية، لقد تدرجوا في الشرك واتخذوا من دون الله آلهة، واعتقدوا أن للأوثان التي يعبدونها مشاركة في تدبير الكون، وقدرة ذاتية على النفع والضرر والإيجاد والإفناء، وانغمست قبائلهم في الوثنية وعبادة الأصنام بأبشع أشكالها، فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم، بل لكل بيت صنم خاص به، ثم هبطوا بعد ذلك في وثنيتهم إلى عبادة الحجر كما ذكر ذلك الكلبي في الصفحة 33 من كتابه ـ الأصنام ـ.
وفي جوف الكعبة ـ البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام لعبادة الله وحده ـ تزاحمت الأصنام حتى بلغت ثلاثمائة وستين صنماً كما جاء في صحيح البخاري ـ كتاب المغازي ـ فتح مكة ـ.
هكذا انغمس العرب في الوثنية وعبادة الأصنام بأبشع أشكالها. قال الكلبي: كان لأهل كل بيت أو دار من مكة صنم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في بيته أن يتمسح به، وإذا قدم من سفر كان أول ما يصنع إذا دخل منـزله أن يتمسح به أيضاً. كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن، وكانت حمير تعبد الشمس، وكانت كنانة تعبد القمر، ونحم وجذام تعبدان المشتري، وطي تعبد سهيلاً، وقيس تعبد الشعرى، وأسد تعبد عطارد، كما جاء في كتاب طبقات الأمم في الصفحة 43([18]).
روى البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً خيراً منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به.
وكما انغمس العرب في أوحال الوثنية وأمعنوا بعبادة الأصنام، تفشت فيهم عادات سيئة وأعراف ضارة، فأولعوا بالخمر والقمار، وبلغت بهم القساوة والحمية الهوجاء إلى وأد البنات، وشاعت فيهم غارات على بعض، وقطع الطرق على القوافل لسلبها ونهب ما تحمله من متاع أو تجارة، وسقطت منـزلة المرأة فكانت تورث كما تورث الدابة أو قطع الأثاث. كانت أجسامهم قذرة، ورؤوسهم مملوءة بالأوهام. وكانوا يزهدون في النظافة واستعمال الماء، ويبحثون في أن المرأة حيوان أم إنسان، وهل لها روح خالدة!! وهل لها حق الملكية والبيع والشراء؟ أم ليس لها شيء من ذلك!!!([19]) فكانت في المجتمع الجاهلي عرضة للغبن والحيف، تُؤكل حقوقها وتُبتَز أموالها، وتُحرم إرثها، وتعضل بعد الطلاق أو وفاة زوجهامن أن تنكح زوجاً ترضاه. وقد بلغت كراهية البنات إلى حد الوأد كما مر آنفاً، ذكر ابن الهيثم بن عدي على ما حكاه عنه الميداني أن الوأد كان متفشياً في قبائل العرب قاطبة([20]).
ديانات الأمم الأخرى
في الدولة الرومانية كان القياصرة آلهة، فكل من تملك زمام البلاد تأله على شعبه، فالرومان لم يكونوا يختلفون عن الإيرانيين كثيراً، وإن لم يبلغوا شأوهم في الوقاحة وفي امتهان الإنسان وإهدار كرامته.
أما الأمم الأخرى في آسيا الوسطى، وفي الشرق كالمغول والترك واليابانيين فقد كانت بين بوذية فاسدة ووثنية همجية([21]).
وقصارى القول أن القرن السادس الميلادي ـ الذي كانت فيه البعثة المحمدية ـ وما يليه، كان من أحط أدوار التاريخ وأشدها ظلاماً وبؤساً في حياة البشرية، ويلأساً من صلاحيتها للبقاء بله الازدهار. فالديانات العظمى أضحت فريسة العابثين والمتلاعبين ولعبة المحرفين والمنافقين، حتى فقدت روحها وشكلها، بحيث لو بعث أصحابها الأولون لأنكروها ولم يعرفوها([22]).
وبالجملة لم تبق على ظهر الأرض أمة صالحة المزاج، ولا مجتمع قائم على العدل والرحمة، ولا قيادة مبنية على العلم والحكمة، ولا دين صحيح مأثور عن الأنبياء([23]).
ظهور الإسلام
من هذا الظلام الدامس، وفي هذه الظلمة الحالكة، وأمام هذا الظلم الذي طغى على حياة البشرية، والظلمات التي تراكمت دياجيرها بعضها فوق بعض، أدرك اللطيف الخبير عباده بواسع عطائه وفيض جوده، وتجلى عليهم بالرحمة المهداة والنعمة المزجاة، فانبثق الفجر، وأشرقت شمس الهداية، {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}([24]).
إن مساحة هذا الإعلان الزمنية تحوي جميع الأجيال والأدوار التاريخية التي تتلو البعثة المحمدية، ومساحته المكانية تسع العالم كله، فالإنسان أخو الإنسان من جهتين، لأن الرب واحد، ولأن الأب واحد. {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم}([25])، وحينما قام النبي الكريم بهذا الإعلان التاريخي العظيم لم يكن العالم في وضع طبيعي يسيغ أو يستوعب هذه الكلمات الجريئة.
لقد أعاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإنسانية كرامتها المهدورة وشرفها، ورد إليها اعتبارها وقيمتها، وأعلن أن الإنسان أعز مخلوق في الكون، وأغلى جوهر في العالم: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً}([26]).
وسرعان ما انتشرت هذه البشرى بالمساواة بين الناس بسرعة الضوء، فاستعاد كل مخلوق ثقته بنفسه بعد ثقته بربه الذي أعتقه من ربقة العبودية وأغلال الطغاة والجبارين. فتحرر الإنسان من الخوف والذل والخنوع، فهذا مبعوث المسلمين المغيرة بن شعبة إلى رستم، وهو في أبهته وسلطانه، جلس ـ على عادة العرب ـ على سرير رستم، فوثب عليه جنود رستم، وأنزلوه ومغثوه، فقال: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوماً أسفه منكم، إنا معشر العرب سواء، لا يستعبد بعضنا بعضاً، إلا أن يكون محارباً لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه، ولم آتكم، ولكن دعوتموني.
هذا ما نقله الطبري في الجزء الرابع من تاريخه في الصفحة 108 كما جاء به الندوي رحمه الله في كتابه: السيرة النبوية([27]).
الهوامش:
([1]) السيرة النبوية للندوي ص1.
([2]) المصدر السابق ص2.
([3]) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي ص45.
([4]) المرجع السابق ص47.
([5]) السيرة النبوية للندوي ص3،2.
([6]) المرجع السابق ص4.
([7]) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص36، 39.
([8]) المرجع السابق ص 42،41.
([9]) المرجع السابق ص44،43.
([10]) السيرة النبوية للندوي ص12،11.
([11]) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين. للندوي ص 51،47.
([12]) المرجع السابق ص211.
([13]) السيرة النبوية للندوي ص4-5.
([14]) المرجع السابق ص17،15.
([15]) ماذا خسر العالم ص58،56.
([16]) المرجع السابق ص61،60.
([17]) السيرة النبوية للندوي ص7،6.
([18]) ماذا خسر العالم للندوي ص64،63،62.
([19]) السيرة للندوي ص18،17.
([20]) ماذا خسر العالم للندوي ص69،68.
([21]) السيرة للندوي ص19.
([22]) ماذا خسر العالم ص36.
([23]) المصدر السابق ص72.
([24]) الآية التاسعة من سورة الأنبياء: 107.
([25]) سورة الحجرات الآية 13.
([26]) سورة الإسراء الآية 70.
([27]) السيرة النبوية ص29،28.