السفارات النبوية

 السفارات النبوية

اللواء الركن

محمود شيت خطاب

     عرض:غرناطة الطنطاوي

يحق لنا ولمكتبتنا العربية أن تفخر بكتاب قيّم يدحض جانباً من افتراءات المستشرقين، ويبرز جانباً آخر من السيرة النبوية وعظمتها لتكون قدوة للحاكم وطريقاً منيراً لاختيار السفراء ذوي المواهب المتعددة.. فالسفير هو الوجه المشرق للأمة بما تحمل من عقائد وعادات وتقاليد وقيم.

كما أن هذا الكتاب يشرح قليلاً من حياة الملوك والأمراء الذين راسلهم النبي  ومدى تجاوبهم معه.

وكان تناول الكاتب لهذه المادة التي قلّما تناولها الكتّاب الآخرون، دليل ذكاء ووفاء وولاء لسيرة هذا النبي العظيم، الذي يتخذه الكاتب مثلاً أعلى له، ويريد من أبناء أمتنا الإسلامية أن تتخذ منه –عليه الصلاة والسلام- القدوة والنبراس، فكتب كتابه الأول عنه "الرسول القائد" كما أغنى المكتبة العربية والإسلامية بشتى الكتب التي تتناول سيرته العطرة، وسير أصحابه الكرام.

ولهذا فهو يسدّ ثغرة في المكتبة العربية ويزيدها ثراء على ثراء.

يقع هذا الكتاب "السفارات النبوية" في 625 صفحة من القطع الكبير، مقسمة إلى أربعة فصول..

الفصل الأول يتحدث عن الملوك والأمراء العرب وغير العرب، فكان جعفر بن أبي طالب أول سفير إلى النجاشي ملك الحبشة، وكان نصرانياً فأسلم على يديه.. والسفير الثاني عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي الثاني بعد وفاة النجاشي الأول، وقد أسلم أيضاً.

والمستشرقون على الرغم من ادعاءاتهم بأنهم يبحثون السيرة النبوية على أسس علمية محايدة، يرفضون تصديق إسلام النجاشي، لأنه ملك دولة مسيحية، ويعللون ذلك أن الحبشة بقيت دولة مسيحية، ولو أن النجاشي أسلم لأجبر رعيته على الإسلام. وهم مخطئون في تعليلهم هذا، لأن تعاليم الإسلام تدعو إليه بالرفق واللين، وليس بالضغط والإكراه..

وكان دحيّة الكلبي سفيراً إلى هرقل عظيم الروم، الذي صدق النبي e ولكنه لم يسلم، خوفاً على نفسه وعرشه من الروم.

أما أسقف الروم الأعظم فقد أسلم وقتل لذلك. وامتنع كسرى ملك الفرس ومزق كتاب رسول الله e، فدعا عليه الرسول "اللهم مزق ملكه" وكانت دعوة مجابة، وقتل على يد ابنه شيرويه، ولكن عامله على اليمن باذان الفارسي أسلم وحسن إسلامه، وشارك في حرب الردة، وأكرم المقوقس صاحب مصر سفير النبي، وبعث معه هدايا إلى الرسول e ولكنه لم يسلم.

أما الفصل الثاني فإنه يتحدث عن كتّاب النبي إلى الملوك والأمراء وعددهم أربعة وعشرون كاتباً، يتناول فيه جانباً من حياتهم الاجتماعية والعملية.

وقد استعمل النبي خاتماً يختم به كتبه، وهذا ما اقترحه عليه الصحابة عليهم رضوان الله، وكان من الفضة، ونقشه ثلاثة أسطر، السطر الأعلى: الله، والسطر الأوسط: رسول، والسطر الأخير: محمد، لتكون محمد رسول الله.. وكانت المواد المستعملة في الكتابة العظام، والحجارة، وأغصان النخيل، وجلود الحيوانات، وحبرهم من السخام وغيره.

والفصل الثالث يتحدث عن سمات سفراء النبي e ، وقد بلغ عددهم خمسة عشر سفيراً، وكانوا من صفوة دعاة المسلمين من الصحابة، وقد شرح هذا الكتاب صفاتهم ومناقبهم بشكل تفصيلي، فهم يتميزون بفصاحتهم، لأنهم من عرب شبه الجزيرة العربية، وبعلمهم وفقههم، وحسن خلقهم، وصبرهم الجميل في مخاطبة من أرسلوا إليهم، وشجاعتهم، فقد بلغوا الدعوة إلى الإسلام دون أن يخشوا في الله لومة لائم.

وقد سرد قصصاً جميلة عن حكمتهم، وحسن تصرفهم، وسعة حيلتهم.

ولم ينس صفاتهم الشكلية، فقد اتسموا بالجمال، وعبالة الجسم، وتمام القدّ. لأن الصورة تسبق اللسان، والمظهر الجميل قادر على استهواء القلوب القاسية، وهذه سنة الله في خلقه.

والفصل الرابع تناول فيه السفارات النبوية في الدراسات الحديثة، فقد شكك المستشرقون في السفارات النبوية، وفي صحة ما ورد في نصوص الرسائل النبوية، وتابعهم في ذلك بعض الباحثين المستغربين من المسلمين، وقد جادلهم كاتبنا هذا بالتي هي أحسن، فأورد لهم ما جاء في المصادر العربية القديمة الموثقة ما ينفي افتراءاتهم، وما يجعل السفارات النبوية من المسلّمات التاريخية التي لا تقبل الشكّ، بينما اهتمت المصادر الحديثة بالتلخيص والتحليل تارة، وبالشرح والتوضيح تارة أخرى، مؤكدة صدق السفارات النبوية وفق أسس علمية بحتة، ليست للعواطف فيها نصيب.

فالمستشرقون يشككون بالسفارات النبوية، مدّعين أن الإسلام مرسل فقط للعرب مستدلين على ذلك بقول الله تعالى: "وإنه لذكر لك ولقومك" من سورة الزخرف 43:44، وتناسوا الآيات القرآنية المتعددة التي توضح عالمية الإسلام وقوله تعالى "وما هو إلا ذكر للعالمين" من سورة القلم: 68، ومرة أخرى يعلّلون تكذيبهم للسفارات النبوية بحالة الضعف السياسي والعسكري الذي كان فيها الرسول e، وفي حالة الضعف السياسي والعسكري يستحيل تحدّي أعظم قوتين في ذلك الوقت "الفرس والروم" ، بالإضافة إلى الحبشة، ولكن المؤلف حشد من البراهين والحجج الدامغة الكثير مما يدحض هذا الادعاء، منها مثلاً أن موسى عليه السلام دعا فرعون وهو في قمة تألهه، وموسى وبنو إسرائيل في حالة شديدة من الضعف والهزال، وكذلك عيسى عليه السلام واجه الرومان، ودعا بني إسرائيل من يهود وهو في حالة ضعف، ولكن الواجب النبوي يدعوه لهذا العمل، وسيدنا محمد e نبي مرسل مثل موسى وعيسى، لا يأبه بحالة الضعف الذي يعانيه، ولا ينبغي له أن يقعده عن الدعوة والتبليغ..

ومرة أخرى يناقض المستشرقون أنفسهم، فيقولون أن دولتي الفرس والروم كانتا في حال ضعف وانقسام، ولذلك كان من السهل على محمد وصحبه أن يهزموا هاتين القوتين، ليسلبوا بذلك الإسلام قوته النفسية والروحية، وأثره العظيم في المسلمين وشدّ عزائمهم..

كما نراهم "أي المستشرقين والمستغربين" يتخبطون كمن به مسّ من جنون ليضلّوا عباد الله، يشككوا في كل شاردة وواردة، علّهم يجدون أذناً صاغية تبثّ الشك والوهن في نفوس المسلمين، وتحقق لهم ما أرادوا في ثلّة قليلة قليلة كزبد البحر، لا تلبث أن تذهب، دون أن تنقص من عظمة البحر شيئاً.

إنني أدعو سائر الباحثين إلى دراسة هذا السفر القيّم، وإلى الكتابة عنه، والتعريف به، فهو جدير بأن يحتل مكانه المرموق في المكتبة العربية الإسلامية، لأنه جهد عالم عسكري مؤرخ، أمضى أكثر من نصف قرن من حياته الحافلة بجلائل الأعمال، في دراسة تاريخنا، ثم تقديمه في ثوب قشيب، وبأسلوب علمي رصين، بعيد عن الهوى، يجاري أحدث الأساليب العلمية في البحث والتنقيب والتوثيق، وليس في هذا من عجب، فمؤلفه اللواء الركن محمود شيت خطاب صاحب عشرات المؤلفات في تاريخنا العسكري، هو من هو أصالة وأمانة وأدباً..