مستقبل السودان الجيوسياسي في ضوء أزماته المتلاحقة

مستقبل السودان الجيوسياسي

في ضوء أزماته المتلاحقة

هشام منور

كاتب وباحث فلسطيني

[email protected]

عنوان الكتاب: السودان ومستقبل الصراع الجيوسياسي.

المؤلف: أبو إسكندر السوداني.

عدد الصفحات: 280

الناشر: مركز الغد العربي للدراسات، دمشق، طبعة أولى، 2008م.

لم يكن السودان ليستأثر بكل هذا الاهتمام الإعلامي والسياسي على المستوى الدولي لو لم يكن وراء الأكمة ما وراءها، ولو لم يكن يستأثر باحتياطي كبير من الثروات المعدنية والنفطية، وبالذات معدن اليورانيوم. فالأزمات التي يعرفها أكبر الدول العربية والإفريقية على حد سواء، وانفجار فتيلها المتلاحق فجأة، وتسليط الضوء عليها من قبل وسائل الإعلام الغربية يشير بما لا يدع مجالاً للشك إلى حجم تلك الأزمات والأصابع الخفية الكثيرة التي تغتنم فرصة غياب النظام العربي أو أي حد من التنسيق بين الدول العربية والإقليمية لحماية سيادة وثروات السودان من النهب والتشرذم والاستلاب.

ويندرج كتاب (السودان ومستقبل الصراع الجيوسياسي) في سياق الدراسات الهادفة إلى بحث خلفية هذه الأزمات وتحليلها، في ضوء ما يعانيه السودان الحديث من بؤر التوتر الخمس: الجنوب، وجبال النوبة، وجنوب النيل الأزرق، والشرق، وإقليم دارفور الملتهب منذ عدة سنوات.

يفتتح المؤلف الكتاب بالتعريف بالسودان القديم باعتباره أصل الحضارة الأول في وادي النيل، فيعرف بنشأة الدولة السودانية الحالية، وذلك عن طريق رصد وتحليل الأحداث والتحولات التي أسهمت في تكوينه الجيوسياسي في العصر الحديث. وتؤكد المعلومات التاريخية أنها كان منطقة وادي النيل كانت منطقة صراع من أجل النفوذ بين ملوك السودان القديم وملوك مصر القديمة. ولم تنقطع هذه الحالة إلا بسقوط مصر القديمة تحت سيطرة قدماء الإغريق والرومان. مؤكداً على امتلاك السودان لحضارة تعود إلى أول إنسان سكن السودان قبل مليون عام!.

يتناول المؤلف في المبحث الثاني من الكتاب الإشكاليات المختلفة التي تهدد عملية التطور السلمي، فيرى أنها تتمثل في أربع إشكاليات: الأولى في التكامل الوطني الاندماجي، وتتمثل الإشكالية الثانية في ديناميكيات الحراك السياسي، حيث برزت إلى السطح حركة الأقليات العرقية خلال السنوات القليلة الماضية. فيما اعتبر عملية فراغ القوة والسلطة ومعضلة الأمن السياسي الإشكالية الثالثة، إذ أدت التجاذبات السياسية في إطار الجغرافيا السياسية للسودان إلى إفراغ نظام الحكم المحلي والفدرالي من مضمونه الحقيقي، الأمر الذي أدى إلى ظهور إشكالية أخيرة تتجلى في عدم التماسك السياسي وانعدام التكامل الوطني.

يحاول الكتاب بعد ذلك توضيح ظاهرة العنف السياسي ودلالاته في السودان، إذ يشير إلى أن ظاهرة العنف السياسي في السودان إنما هي ظاهرة مركبة اقتصادياً واجتماعياً وسياسيا وثقافياً بسبب التداخل بين كافة مكونات المتغيرات الجيوسياسية. وتشير معطيات هذه الظاهرة إلى وجود ارتباط قوي بين طبيعة الوقائع والأحداث من جهة وبين الأطر المذهبية والعقائدية الخاصة بالأطراف التي تلجأ لاستخدام العنف.

وينتقل الكتاب بعد ذلك إلى تحليل بيئة العنف نفسه، فيؤكد أن حالات عدم التوازن المرتبطة بالتوزيع الجهوي والمناطقي أدت إلى كثير من التداعيات السلبية على استقرار خريطة السودان الجيوسياسية وتوازنها، وإلى إتلاف النسيج الاجتماعي السوداني وتقويض تماسك قوام الوطنية السودانية.

ويشير المؤلف في المبحث الخامس إلى أبرز ظواهر العنف وأنماط وأساليب عملها في السودان، ومنها الحرب والغزو والمظاهرات والتمرد المسلح والعصيان المدني والانقلابات العسكرية والإضرابات والمظاهرات والاعتصامات والأحكام العرفية، وغير ذلك من حالات العنف. إذ تمثل أشكال العنف السياسي هذه أساليب لمواجهة الآخر وإقصائه عن المسرح السياسي والاقتصادي والاجتماعي بشكل كلي أو جزئي.

أما في المبحث السادس، فيرصد المؤلف ما عرف مؤخراً بنزاعات السودان وحروبه الأهلية، ففي جنوب السودان، اندلعت حربان أهليتان تعدان الأطول والأكثر خطورة، بسبب شدة العنف السياسي والتدخل الخارجي وأخطاء الحكومات السودانية. وفي شرق السودان، اندلعت حرب أهلية تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأقدمية التاريخية، وفي وسط السودان، جبال النوبة، اندلعت حرب أهلية ضعيفة الشدة وتميزت بارتباطها بالحرب في جنوب السودان. واندلعت الحرب في الجنوب الشرقي من وسط السودان أو في جنوب النيل الأزرق، وكانت في معظم فتراتها شديدة وتمثل امتداداً قوياً للحرب في جنوب السودان، إضافة إلى تأثيرها في العلاقات السودانية الإثيوبية.

وفي غرب السودان، اندلعت الحرب في الجزء الغربي من إقليم دارفور، ازدادت وتيرة التدخل الدولي ووطأة الحرب الإعلامية. وارتبطت الحرب في بداياتها بالحرب في الجنوب، ولاحقاً بالخلافات السياسية التي أدت إلى انقسام السلطة وخروج الزعيم حسن الترابي وبعض العناصر الموالية له، ومن أبرزهم خليل إبراهيم الزعيم الحالي لحركة العدل والمساواة الناشطة حالياً في دارفور.

يركز المؤلف بعد ذلك على الصراع في دارفور، فيبحث في عوامله التاريخية القديمة، إذ بدأت الصراعات في إقليم دارفور في حقبة أربعينيات القرن العشرين، وكانت دائماً تنشأ بسبب مشكلات الرعاة والمزارعين والتنازع حول المياه، فضلاً عن عمليات الثأر التي كانت تتصاعد في المناطق الريفية. إلا أن تضافر عدة عوامل أسهم في تصعيد الصراع خلال السنوات الأخيرة لأسباب محلية مثل الضغوط البيئية والجفاف والتصحر وارتفاع النمو السكاني. وقد ساعدت الأزمة بين السلطة المركزية والمعارضة في تفاقم الأزمة السياسية بإقليم دارفور في ظل تدهور الحكم المحلي فيه. وزاد فيه ضغط العوامل الخارجية -من دول الجوار الجغرافي- على مستويات متعددة.

كما يشير المؤلف إلى دور إسرائيل في تقديم الدعم العسكري والمالي لمتمردي دارفور، ومن أبرز الدلائل على ذلك شحنات الأسلحة الإسرائيلية التي كانت تصل عن طريق الحكومة التشادية. ويلفت المؤلف الانتباه إلى أن اللوبي الإسرائيلي شكل تحالفاً في أميركا حمل اسم "إنقاذ دارفور"، وفي عضويته أكثر من 150 منظمة يهودية أميركية، إضافة إلى بعض المنظمات التابعة لليمين المسيحي الصهيوني الأميركي، فضلاً عن شخصيات يهودية ذات نفوذ في بعض الأحزاب الأميركية والكونغرس الأميركي.

ويبسط المؤلف القول في شرح الأهمية الاستراتيجية لدارفور، والذي تعادل مساحته 20% من مساحة البلاد وتصل إلى 2.6 مليون كيلومتر مربع. ويصل مجموع سكانه إلى ستة ملايين نسمة يتوزعون على أكثر من 50 قبيلة، وجميع سكانه مسلمون ويتميزون بالنزعة الصوفية. وبه مخزون هائل من النحاس واليورانيوم. إذ تشير الدراسات إلى استئثار الإقليم بنحو 69 مليون طن من خام اليورانيوم العالي النقاء، ليصبح صاحب ثالث أو رابع أكبر مخزون لليورانيوم في العالم.

يبحث المؤلف بعد ذلك أهم الإشكالات التي ظلت عالقة في البيئة السياسية السودانية. ومن أهمها: التوصل إلى برنامج الحد الأدنى ضمن سقف الثوابت السودانية، فضلاً عن إشكالية ضمان التعددية والتنوع كإطار ضروري للتعايش السلمي. وتفعيل النخب السياسية واستثمارها من أجل تحسين أداء السودان. ثم يعرض لتحليل العملية السياسية السودانية بوصفها واحدة من أعقد العمليات لما يترتب عليها من مخاطر التفكك والتجزئة المحدقة بالبلاد، ونهب ثرواته التي لم يكد يفرح باكتشافها حتى بات يتحسر في ظل تكالب دولي عليها.