إمبراطورية حمامة
عاد نعمان
الإهداء ل روحي..
رائدة الإعلام الإذاعي/رضية سلطان
وسيدة الشاشة العربية/فاتن حمامة
كأي فنانة متزوجة تأخذها ظروف عملها كثيراً وبعيداً من عائلتها، تشعر بأن أمومتها ناقصة تجاه أطفالها، ويعزز ذلك الحاجز الذي تبنيه بين حياتها العائلية وعدسات المصورين وأقلام الصحفيين وفضول العامة، وهذا كان حال سيدة الشاشة العربية/فاتن حمامة، إلا أن ابنتها "نادية" من المخرج/عز الدين ذو الفقار وابنها "طارق" من الممثل/عمر الشريف أكدا أن إحساسها بالأمومة ذاته تمثيلاً بأدوار الأم المميزة التي جسدتها في السينما المصرية وحقيقةً بما قدمته لهما من رعاية واهتمام، والتزامها بالبيت، واحترامها للأوقات الأخرى خارج نطاق عملها، وهو ما عرفه عنها على الصعيد الشخصي أصدقاءها المقربين، ظهر ذلك واضحاً من خلال الصور النادرة التي نشرتها بصحبة "نادية" و"طارق" في طفولتهما، تشاركهما ألعابهما وأعيادهما.
مشوار حمامة السينمائي كان طويلاً، امتد لنحو 75 عاماً، قدمت خلالها أكثر من 90 فيلم سينمائي ومسلسل تلفزيوني؛ فكان من الطبيعي ألا تخلو أدوارها من حالات أمومة عديدة ومختلفة، قابلت في طريقها الفني أطفال وشباب من الجنسين ذوي موهبة، يعشقون التمثيل؛ فمنحتهم فرصاً، أخذوا من خلالها نصيباً وافراً من هالة الضوء المحيطة بها، ونالوا جزءً كبيراً من محبة جمهورها، وبالمقابل عوضت شعورها بنقص أمومتها تجاه طفليها آنذاك، "يا طنط، أنا عاوز أمثل"، جملة قالها طفل ل حمامة، الذي أستغل سفر والده خارج مصر، والعلاقة القوية التي تجمعها بعائلته؛ ليذهب ويقابلها، ويخطو أولى خطواته الفنية على يديها بدور ابنها الأوسط في فيلم "إمبراطورية ميم"، ويصير لاحقاً الممثل المعروف/هشام سليم.
لم تتوقف حمامة عن إطلاق النجوم في السماء مع انشغالها بالبحث عن جديد لتقدمه، وتوالت الصدف التمثيلية؛ فبعد أن لفتها بدور ابن شقيقتها في فيلم "أفواه وأرانب"، رشحته لاحقاً لتأدية دور أخيها في فيلم "ليلة القبض على فاطمة"، ما صنع من الممثل الشاب/محسن محيي الدين أبرز نجوم جيله في فترة ما بين الثمانينات والتسعينات، فيما أعربت المغنية والممثلة/سيمون بعد وفاة حمامة عن حزنها وأسفها لرحيلها، وتتذكر بأنها من رشحتها؛ للعب دور ابنتها في فيلم "يوم مر.. ويوم حلو"، وشجعتها ودعمتها لتواصل مشوارها السينمائي، بينما استعادة الممثلة/عبلة كامل الذكريات معها بنشرها صورة تجمعهما خلف كواليس تصوير الفيلم، وبذلك كانت لكل من "سيمون" و"عبلة" بداية حياتهما الفنية، وربما كانت إلهام عيني فاتن وراء تسمية المغني والممثل/محمد منير أول ألبوماته الغنائية بعد مشاركته في ذات الفيلم.
يرفض الزوج طلب طلاقها، ويطردها من القصر، ويحرمها من ابنها الذي أوهمه بأنها توفيت، حتى مع وجود حب جديد لطالما حلمت به؛ إلا أنه لم يكن ل السيدة "نوال" من ينير حياتها سوى ابنها الوحيد "هاني"، الطفل الذي صار نجماً معروفاً "وجدي العربي" عقب ظهوره مع سيدة الشاشة العربية في فيلم "نهر الحب"، الذي جسدت فيه دور والدته، التي أجبرها حبها الحقيقي وظرفها القاسي كزوجة شابة لزوج سياسي، لا يعرف معنى الحب، بارد المشاعر؛ لأن تتركه، وعندما عادت لترجو زوجها أن تسترد حياتها بجانب ابنها كخادمة، ينتقم منها برفضه طلبها؛ فينسد الطريق أمامها وخصوصاً عند علمها باستشهاد حبها في الحرب، وبعد حصولها على الطلاق، تجد نفسها على سكة الحديد بمواجهة مع قطار الموت، يقترب منها؛ ليأخذها معه.
بين مجموعة من الأفلام المعنية بالعائلة لأمهات السينما المصرية تنتظم القنوات الفضائية العربية على عرض أفلام منها تدور في فلك الأمومة العظيم عن أدوارها في البيت وخارجه وواجباتها تجاه الأسرة بمناسبة حلول عيد الأم، ويأتي على رأس قائمة تلك الأفلام "إمبراطورية ميم"، الذي تجسد فيه حمامة شخصية "منى"، الأرملة التي تأخذ على عاتقها مسئولية التفرغ لتربية أطفالها الستة إلى جانب عملها مديرة في وزارة التربية والتعليم، فتنقسم حياتها بين تزايد احتياجات أطفالها وأعباء عملها وظهور حب جديد في حياتها، ووقوعها في حيرة من أمرها، وتبدأ دون إرادة منها التدرج بقصة الحب حتى يُعرض عليها الزواج؛ فتتفاقم مشاكل تربية أطفالها وخاصة بوصول بعضهم لمرحلة المراهقة، وتتوتر العلاقة فيما بين أفراد البيت؛ لتصل إلى درجة تمردهم على توجيهاتها، وتعود ذات يوم من عملها لتجد العديد من اللوحات المعلقة التي كُتب عليها: "انتخبوا مصطفى مشجع الفنون"، "مصطفى خير من يدافع عنكم"، "مصطفى خير من يمثلكم في قضيتكم"، ويصارحونها بقرارهم الجماعي إجراء انتخابات طرفيها هي(أمهم) وشقيقهم الأكبر مصطفى(ابنها)، في مشهد تمثيلي هو الأول من نوعه من دعاية وصناديق انتخابية بمعالجة درامية في تاريخ السينما المصرية.
في تصريح ل حمامة بمقابلة صحفية مؤخراً سُئلت عن دور الأم الذي جسدته في فيلم "إمبراطورية ميم"، قالت: "شخصية الأم في الفيلم بصعود وهبوط دائم، وأنا كذلك في الحقيقة"، مضيفةً: "مهما اختلف الزمن.. الأم هي الأم، والأولاد هم الأولاد، وحب امتلاكهم لأمهم سيمثل مشكلة، وخصوصاً أن نصف عدد الأولاد بالفيلم كانوا صغيري السن؛ فكان صعباً أن يحدث هذا التوازن؛ لذلك تركنا النهاية مفتوحة إلى حد ما، لعل الزمن يترفق قليلاً.."، مشيرةً إلى أن أصل الرواية التي أقتبس منها الفيلم كان بطلها رجل وليس امرأة، ولكن صُناع الفيلم قاموا بتوظيفه لتلعب بطولته امرأة، بالإضافة إلى الحرفية العالية في الحوارات التي جمعت بين الأطفال والأم، لقد تغيرت صورة المرأة وخاصة الأم في السينما المصرية نتيجة تغير توجهها العام نحو الواقعية بتجسيد شخصيات أقرب إلى الواقع بإبراز الوجوه الأخرى للمرأة في المجتمعات المصرية، حيث قُدمت أكثر نضوجاً وقوة، وتطورت قضايا المرأة وصولاً إلى ما هي عليه، وذلك لم يكن إلا عبر المرور بالعديد من المحطات السينمائية، ولعل أكثرها تأثيراً بالمجتمع دور "عزيزة" المرأة الريفية في فيلم "الحرام"، التي يُصاب زوجها بمرض يقعده عن العمل، ويفاجئها أحد رجال القرية في إحدى الأراضي الزراعية؛ فيغتصبها، وتحمل منه، وتنجح في إخفاء حملها عن الأعين، والمعروف بين أهالي القرية أن علاقتها الزوجية معدومة بسبب مرض زوجها، وبعدما تضع مولودها تخشى أن يفضحها بكائه؛ فتحاول إسكاته، وتقتله دون وعي منها، وتعود إلى العمل متحملة آلام جسدها، ولكنها تصاب بحمى النفاس، وتموت.
وجه آخر نادر الظهور سينمائياً من وجوه الأم، قدمته حمامة بدور "نعمة" عاملة المصنع البسيطة في فيلم "أفواه وارانب"، التي تقيم مع شقيقتها الكبرى وزوجها عامل السكة الحديدية وأطفالهما التسعة، ونتيجة الظروف المعيشية الصعبة وإهمال زوج شقيقتها بتوفير لقمة العيش لأفراد أسرته وإدمانه على شرب الخمر وعدم مسئوليته، تجد نعمة نفسها مضطرة لتحمل أعباء تربية أطفال شقيقتها وكأنهم أطفالها، وتتوالى أحداث الفيلم؛ لتنتقل نعمة بشقيقتها وأطفالها من مجتمع القرية إلى مجتمع المدينة، هناك حيث يتولى محمود بيه -زوج نعمة- رعاية الأطفال، ويوظفهم في مزرعته، بعد أن يدخل زوج شقيقتها السجن معترفاً بطعن المعلم الذي زوجه نعمة بأوراق مزورة؛ لكي يتستر على ابنه. وفي فيلم "يوم مر.. ويوم حلو" تقوم "عائشة" الأرملة الفقيرة إعالة أطفالها الستة في بيت متواضع بحي شعبي، وتجد نفسها بمواجهة مع النجار الذي يماطل بالزواج من ابنتها الكبرى، وبعد زواجه منها ترضخ عائشة لكل مطالبه، ولاحقاً يتصرف وكأنه مالك البيت، ويقيم علاقة جنسية مع ابنتها الوسطى، التي تنتحر بإحراق نفسها عندما ينكشف أمرهما، وابنتها الثانية التي تهرب من البيت بعد إصرار زوج أختها تزويجها لصديقه؛ فتتزوج من جارهم الأبكم دون علمها، كما يهرب ابنها الأصغر والوحيد؛ فتمتلئ حياتها بالحزن على مصير عائلتها، وينزاح جزء من همها بعودة ابنها، وإنجاب ابنتها المتزوجة، ورحيل زوج ابنتها الكبرى سبب كل مصائبها.
وعلى الصعيد الدراما التلفزيونية أثبتت حمامة أن الكثير من الطاقات الطفولية والشبابية تتمتع بكاريزما النجوم، وتستحق أن تطرق باب التمثيل؛ فوقفت إلى جانبها وتشجيعها، وكانت بالنسبة لها حاضنة رؤوم، وصار لهم تاريخ مشهود له في الفن المصري بشكل عام، ففي مطلع التسعينات اكتشفت فاتن الشابة/نشوى مصطفى، وقدمتها بمسلسل "ضمير أبله حكمت" بدور إحدى التلميذات في المدرسة التي تعمل فيها مديرة، "حكمت" التي تعتبر نفسها أم لكل التلميذات والمعلمين/ات والمشرفات فيها، كما كانت مشاركة كلاً من "عبلة كامل" و"سوسن بدر" و"محمد الجندي" في المسلسل انطلاقة فنية جديدة لهم/ن، ومرت عدة سنوات لتعود حمامة بمطلع الألفية الجديدة؛ لتجسد دور الأم في المسلسل الرمضاني "وجه القمر"، حيث حرصت على اختيار الممثلين/ات المشاركين/ات فيه، وخضع عشرات من الشباب/ات لتجارب الأداء؛ وفي الأخير وقع اختيارها على كلٍ من "غادة عادل" و"نيللي كريم" و"عُلا غانم" و"أحمد الفيشاوي"؛ لتسطع نجومهم/ن في عالم الفن، وباستعادة ذكريات تصوير المسلسل، قالت مؤلفته: "وصل الأمر بفاتن إلى تقديمها الشاي بيديها للممثلين/ات في فترات الاستراحة من التصوير، حتى تزيل العوائق والحواجز بينها وبينهم/ن".
نالت حمامة حصاد إنتاجها الفني السينمائي الكثير من الجوائز والأوسمة وميداليات الشرف في العديد من المهرجانات العربية والأجنبية ومن رؤساء مصريين وعرب، لأكثر من مرة، بعضها عن أدوارها كأم في الأفلام التي ذُكرت آنفاً، وجاء اختيار 11 فيلم من أفلامها عن روايات لكبار الكتاب العالميين ضمن أفضل 100 فيلم مصري بمناسبة مئوية السينما المصرية، وهوما يعتبر أكبر عدد من الأفلام التي شاركت ببطولتها، متقدمة على غيرها من الممثلات المصريات في القرن العشرين، استحقاقاً لها لقب "سيدة الشاشة العربية"، ربما كانت بدايات حمامة السينمائية تقف سبباً وراء تفتيشها عن مواهب تمثيلية، بدعمها، وتقديم النصائح لها، فأول ظهورها كان بعمر التسع سنوات في فيلم "يوم سعيد"، وهكذا استطاعت تثبيت موضع قدم لها على أرضية السينما المصرية، وبعد سنوات من إنجاب ابنتها "نادية"، أشركتها في فيلم من بطولتها "موعد مع السعادة"، وبذلك كان لها أن تكرر انطلاقة تجربتها التمثيلية مع ابنتها، التي تميزت بالأداء الطفولي كوالدتها في أفلامها الأولى، إلا أنها لم تمثل بعد ذلك، وبررت حمامة ذلك بخوفها على طفولتها من أجواء السينما وأضواء الشهرة، ولكنها أخذت بأيادي الكثير من الأطفال والشباب الموهوبين إلى عالم التمثيل.
جاء في ختام الرسالة المكتوبة التي تركتها السيدة "نوال" لأخيها قبل رحيلها، بالمشهد الأخير الصوتي من فيلم "النهر الخالد"، قرأها على جانب نهر النيل: "ليعي الناس السر العظيم، إذا أرادوا حياة؛ فليفسحوا في قلوبهم مجرى لنهر الحب"، كان عرض الفيلم على قناة فضائية مصرية متخصصة بعرض الأفلام بعد أيام من انتقال حمامة إلى جوار ربها بهدوءٍ تام، كما كانت حياتها الشخصية والفنية، وابتعادها عن الوسطين الفني والإعلامي، تقاربت الرسالة بما حوته مع أخرى تركتها إحدى رائدات الإعلام بمؤسسة تلفزيون وإذاعة عدن السيدة/رضية سلطان، كتبتها في ظل ظرف عصيب كابدته على فراش المرض برحلتها العلاجية في العاصمة المصرية القاهرة، بملخص رسالتها رجت تأمل المرحلة الحالية جيداً لشيءٍ أكبر وأعظم؛ لبناء وطن حضاري وجديد وبآفاق بعيدة عن التشنج والتعصب، وتمنت الحرية والانعتاق من الظلم والبؤس والفقر منذ سنوات طويلة، وناشدت بالخير لمدينة عدن، وطالبت بالحب لها، وعدم تكرار المآسي؛ لترحل بصمتٍ وكبرياء، متمنية أن تعود عدن كما عرفتها، هي التي سيتذكرها أبناء وأهالي عدن مع كل برنامج إذاعي يُعنى بالأسرة، ولأن حمامة كانت الممثلة المفضلة ومعشوقة رضية، ولأوجه الشبه بين حياتهما، تسعى صديقتي العزيزة/نهار علي ابنة رضية من خلال نادي "يلا عدن سينما" في الأيام القليلة المقبلة؛ لعرض فيلم من بطولة حمامة على خشبة مسرح سينما "هيركين" بعدن، وأن تهدي العرض لروحيهما.