الموت على أعتاب المحروسة
يسري الغول
فجع الوسط الأدبي والفني الأسبوع الماضي بوفاة الكاتب والفنان التشكيلي السوداني محمد حسين بهنس، في البلدة التي قال فيها رب العزة (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين). وقد جاء هذا العربي لأرض الكنانة كي يقيم ويشارك في فعاليات مصر الثقافية والأدبية والفكرية، لكن سوط الفقر والجوع دفعه لأن يترك منزله مشرداً في شوارع القاهرة والنوم في ميدان التحرير الذي غنى ورسم فيه كثيراً، حتى مات متجمداً من البرد على أحد أرصفة القاهرة إثر الموجة الأخيرة.
وصل الكاتب والروائي والفنان المغمور بهنس لمدينة القاهرة منذ عامين كي يقيم فيها معرضاً لرسوماته رغبة بإيصال صوته ورسالته للجميع، حيث أن الكنانة بلاد تعشق الحرية. ولم تكن القاهرة هي المحطة الأولى له، فقد سبق وأن أقام معرضاً تشكيلياً في بلده الأم السودان، ثم انتقل لدول أوروبية أخرى مثل باريس وهناك تزوج وأنجب طفله، ليعود مرة أخرى وحيداً إلى طرقات الوطن المكلوم بدم أبنائه.
وقصة محمد بهنس تكررت كثيراً وما زالت تتكرر، لأنه كغيره من الكتاب والشعراء العرب لم يجدوا ما يسد الرمق، فالدولة بمقدراتها وممتلكاتها وأربابها جعلت من الآداب والفنون حرفة البائسين الذين يموتون باكراً دون رعاية أو اهتمام، فقد سبق بهنس المسرحي السوري سعد الله ونوس وعلاء الدين كاتبه وعلي الخليلي وحسين البرغوثي وغيرهم الكثير الذين لم يجدوا أي رعاية حقيقية من الدولة تساهم في صناعة حياة كريمة وعزيزة لهم. ولقد قرأت منتصف هذا العام مناشدة من الشاعر المصري مفرح كريم لرئيس جمهورية مصر العربية بإنقاذه من المرض العضال الذي طال جسده، لأنه لا يجد المال الكافي لإجراء عملية جراحية علها ترحمه من الموت.
أتذكر كيف لجان جاك روسو، رائد حركة التنوير في فرنسا، ومؤلف كتاب العقد الاجتماعي، أن يحيا ويموت فقيراً، لا يملك قوت يومه، حتى اضطر إلى إرسال أطفاله الخمسة فور ولادتهم واحداً تلو الآخر إلى الملجأ لعدم قدرته على إعالتهم ورعايتهم صحياً. ولعل واقع الكتاب والأدباء العرب أشد سوءاً من البلاد الأخرى، حيث لا رعاية أو اهتمام بعقول ومقدرات الشبان الإبداعية. ولقد كتب أحدهم في غزة على صفحته الفيس بوكية، من أنه يحمل شهادة البكالوريوس وأصدر أكثر من خمس أعمال أدبية، إلا أنه لا يجد أي عمل يقيه بؤس الحاجة، حيث أن صديقنا ذاك، ورغم تميزه يعمل اليوم في أحد محال العطور ليجني نهاية نهاره على 20 شيقل كأجرة لعلها لا تكفي وجبه إفطار له ولصغاره.
أما صديقي الآخر، والذي يجيد كتابة الشعر، فقد اتجه لحرفة ملعونة، حيث أنه ومع الفجر يبحث في الطرقات عن علب البلاستيك كي يبيعها ويقتات بها ليومه، دون أن يفكر بعمره الذي يمضي وهو ما يزال متصلباً في مكانه، بل ويرتد إلى الوراء حيث الغضروف وأمراض أخرى.
ولعل الدولة التي لا تستطيع أن تحترم مثل هؤلاء المبدعين لا يمكن لها أن تستقيم، فبهم تحلو الحياة وبأقلامهم صوت سعادتنا.