آخر عمالقة الطّرب وديع الصّافي، يرحل بصمت لبنانيّ رسميّ مريب
آخر عمالقة الطّرب وديع الصّافي،
يرحل بصمت لبنانيّ رسميّ مريب
سيمون عيلوطي
ودّع لبنان والعالم العربيّ يوم الاثنين الماضي، في موكب جنائزيّ مهيب، أبرز عمالقة الغناء اللبنانيّ والعربيً، وديع الصّافي، صاحب الصّوت المعجزة الذي لا يجاريه في تاريخ الغناء العربيّ والعالميّ أحد.
لبنان الرّسميّ، الممثّل برئيسه وحكومته، سجّل إخفاقًا فادحًا حين لم يعلن الحداد على روح هذا العملاق الذي أبدع في تصوير تراث لبنان الفنّيّ لحنًا وغناءً بأسلوب سحر الألباب فتمايلت له طربًا.
وديع الصّافي عبر عمره الفنّيّ المديد، استطاع أن يرفع اسم لبنان بشكل لم ينجح فيه رجال السّياسة ونشيطو الأحزاب مهما بالغوا في إعلان حبّهم وإخلاصهم لعروبته. ألا يستحقّ هذا العظيم أن يطلقوا اسمه على شارع من شوارع بيروت؟ وأن تخلّد ذكراه بنصْب تذكاريّ في أحد مراكز العاصمة، وإقامة مؤسّسة تخلّد تراثه؟ خاصّة أنّه خصّص جزءًا كبيرًا من أعماله، ليعكس مناخ لبنان الجغرافيّ والفولكلوريّ والوطنيّ، مثل: "جبل صنيّن، نيحا، الجنوب، قطعة سما". أو مثل: "عرزالنا الأخضر، منجيرة الرّاعي، القمر سقسق على الميّات". إضافة إلى أنّه أوّل من أوجد الأغنية الطّربيّة في لبنان من خلال تلحينه لقصائد شعريّة بالعامّيّة والفصحى بطريقة لم تعرفها الأغنية اللبنانيَة التي اقتصرت على المُعنّى والعتابا والأغاني الشّعبيّة الفولكلوريّة. وديع رغم تأثره بهذا النّوع من الغناء، وإبداعه لغناء نابع من مناخه أيضًا، إلاّ أنّه كان أوّل من أبدع وابتكر الجُملة الطّربيّة في الحركة الغنائيّة اللبنانيّة عبر تاريخها القديم والحديث، كأغنية "ولّوْ" التي أدهشت محمّد عبد الوهاب في حينه، وفتحت أمامه أبواب مصر والوطن العربيّ الكبير على مصراعيها.
إن الخصوصيّة المحلّيّة اللبنانيّة التي عكسها "الصّافي" عبر مشواره الطّويل مع الغناء والتّلحين، كانت إنسانيّة في مضامينها وانطلاقاتها الاجتماعيّة والتّراثيّة والسّياسيّة، التي تمثّلت في أغانٍ مثل: "يَخْتي نجوم الليل شوفيها" أو في "لوين يا مروان عا مهلك" أو في "طلّ الصّباح" أو في "صرخة بطل" حمته من كنية الإقليميّة وأكّدت وجوده إلى جانب كبار المبدعين الّذين من خلال محليّتهم عبروا إلى العالم الواسع كـ"تولوستوي" الذي لم يكتب إلاّ عن وطنه روسيا و "بالزاك" الذي لم يكتب إلاّ عن فرنسا ونجيب محفوظ الذي لم ينشغل في أعماله الأدبيّة بغير مصر، شأنه في ذلك شأن حنّا مينا الذي أبدع في تصوير المجتمع السّوريّ في جميع اعماله الرّوائيّة. ولكن وديع بموهبته النّادرة وبمساحات صوته الواسعة، خرق ذلك حين انطلق نحو العالم العربيّ بنكهة غنائيّة مختلفة عن تلك التي حمّلها طابع وطنه. ربّما يرجع ذلك إلى شغفه وحبّه لمختلف الألوان الغنائيّة المصريّة والعراقيّة والخليجيّة التي أتقنها بشكل غير مسبوق. أو ربّما أراد أن يخاطب جماهير هذه الأقطار العربيّة غنائيًّا بلغتها وطابعها في الغناء، وقد عبّر هو نفسه عن ذلك حين تحدّث في أكثر من مناسبة، عن رغبته في تسجيل معظم أغاني محمّد عبد الوهاب، مثل رغبته أيضًا في تسجيل المقامات العراقيّة والموشّحات الأندلسيّة، بهدف حفظ هذا التّراث الغنائيّ العريق من الضّياع والاندثار.
رغبته في تحقيق ما تقدّم، لم تلقَ التّجاوب المطلوب مِنَ القيّمين على الثّقافة والفنون في العالم العربيّ، وبالتّالي خسر فنّ الغناء العربيّ ثروة لن تجد، قبل مرور أجيال، من يوثّقها أفضل من هذا العملاق الرّاحل بجسده والباقي في الوجدان، يطربنا بأعذب الألحان.
تجاهل الأنظمة العربيّة للمبدعين، سواء في عدم توفير ما يلزم بغية توثيق أعمالهم الفنيّة، أو تركهم يعملون بمجهودهم الخاصّ، من دون مؤسّسات تواكب إبداعهم وتضمن لهم العيش الكريم وما إلى ذلك، جعلنا نفقد الكثير من الكنوز الإبداعيّة التي لو تمّ العمل على حفظها بالطريقة المهنيّة التي تليق بها، لبقيت مخزونًا وتراثًا يُعتزّ به ويوفّر للأجيال القادمة من الدّارسين والمهتمّين عامّة، الكثير من المتعة والفائدة.
أنقذوا ما بقيَ للثّقافة العربيّة من تراث إبداعيّ.. ولا تكرّروا تجاهلكم لدعوة وديع الصّافي بتسجيل وتوثيق التّراث الغنائيّ العربيّ الذي يستحقّ الرّعاية والعناية والاهتمام.