الحوار في الدراما
الحوار في الدراما
أ.د. حلمي محمد القاعود
الحوار في الدراما السينمائية والتلفزية والإذاعية والمسرحية يمثل ركناً مهماً من أركانها، حيث يفصح في الغالب عن تاريخ الشخصيات الدرامية أو رؤيتها للأحداث، أو خططها للمستقبل، أو يعبر عن مدى ثقافتها وقدراتها الفكرية والذهنية والأدبية، وترجع أهميته في الأعمال الدرامية بصفة عامة إلى التأثير في المتلقي بما يريد الكاتب توصيله إليه من أفكار وقيم وعادات وسلوكيات.
والحوار الجيد هو الذي يتوافق مع المستوى الثقافي للشخصية الدرامية، ويتلقاه المشاهد أو المستمع بسهولة ويسر لأنه في هذه الحال يعبر عن مستوى واقعي يرقى به الكاتب من خلال الاختيار والانتخاب للفظة والمفردة والتركيب والصورة، ويحقق في النهاية صياغة فائقة ذات قيمة وتأثير.
وإذا ضربنا مثالاً بشخصية درامية قريبة إلى الأذهان يتحقق من خلالها الحوار الفائق، باللغة الفصحى الراقية فهي شخصية "عمر بن عبد العزيز" التي أداها الممثل الكبير "نور الشريف" فقد جرت اللغة على لسانه سهلة سلسلة، بعيدة عن التقعر والفضلات، ممتزجة بالتصوير الحي المؤثر بحيث كانت شرائح المجتمع على اختلاف ثقافتها وأعمارها وطبقاتها تتفاعل مع الحوار، وتنفعل به، ولديها استعداد لسماعه مرات عديدة، ولا أخفي أنني كلما شاهدت حلقات المسلسل تذاع على شاشة أية قناة، فإني أتحول إليها على الفور، ففي الحوار البارع الذي كتبه الراحل "عبد السلام أمين" رحمه الله سحر وموسيقى وقوة بيان وسمو بلاغة.
على العكس من ذلك، نرى "نور الشريف" نفسه، وهو يمثل دور العقيد حسام "ضابط مباحث، في فيلم "الكلام في الممنوع" يهبط بمستوى الحوار والتمثيل أيضاً إلى درجة غير مقبولة، على الأقل من ضابط شرطة، يتسم بالضبط والربط، والجدية في القول والسلوك، لقد تناثرت على لسانه في الحوار مفردات بذيئة شكلت معجمه الذي يخدش الآذان والعيون جميعاً دون مسوغ فني أو أسلوبي، فهناك من هذه المفردات ما يمكن استخدامه في موضعه بطريقة فنية بعيدة عن الابتذال والترخص، ولكن حوار الفيلم من خلال شخصية الضابط جاء مرادفاً للسوقية والحوشية، وجعله مباراة في فن الهجاء أو "الردح" باللهجة العامية.
قضية الحوار في الفنون الدرامية، ليست مرتبطة بالمذهب الواقعي، الذي يطابق ما يجري على أرض الحياة من شخصيات وأحداث ولغة وأفكار، فالواقعية المطابقة إذا أمكن احتمالها في مجال الفنون المكتوبة، فإن احتمالها في الفنون المرئية والمسموعة يبدو أمراً صعباً وغير مقبول...
والواقعية الجيدة بألوانها المختلفة، التي تزيد على ثلاثين لوناً تقوم على الانتخاب والاختيار من الواقع لتقدم الصورة الجميلة والفكرة الممتعة والشخصية المقنعة.. والفنون الدرامية في كل الأحوال تتجاوز مهمة تقديم الترفيه إلى مهمة التربية.
إن الناس قد لا يتأثرون بآلاف الخطباء والوعاظ الذين لا يتقنون مهمة الدعوة والإرشاد، ولكنهم يتأثرون بفيلم أو مسرحية أو مسلسل، سواء كان جيداً أو رديئاً.. ومن هنا تأتي أهمية رقي الحوار في التعبير، وابتعاده عن الابتذال والسوقية، لأن المفردة أو اللفظة أو العبارة تصل لأسماع فتلتصق بها، يقلدها الصغار، والكبار أحياناً، وتدخل إلى معجم الحياة اليومية، وقد لا تخرج منه أبداً، بل تتأكد وتتكاثر إذا تواترت أعمال درامية تنهج أسلوب الحوار نفسه وتتبناه، بما يحول لغة المجتمع إلى لغة بذيئة وقبيحة، يعتادها الناس دون احتجاج!
اللغة الراقية المحترمة تعبير عن مستوى ثقافي راق محترم، والعكس صحيح أيضاً، لذا أعجب من بعض كتاب الحوار في الدراما بألوانها لمختلفة حين يصرون على البحث عن المبتذل والقبيح من الألفاظ والمفردات، في صورة شتائم أو مزاح أو خطاب اجتماعي، واستخدامها دون ضرورة فنية أو خلقية أو تربوية، ودون إتاحة الفرصة لمعجم مقابل يعبر عن الرقي والاحترام، أو يستنكر الابتذال والقبح، ويعطي إيحاءً مؤثراً بأن المبتذل أو القبيح ليس اللغة الصحيحة ولا الطريقة لمناسبة للكلام أو الحوار.
في الأفلام القديمة التي سبقت الموجة الواقعية الدميمة، وموجة أفلام المقاولات أو الأفلام التجارية كما يطلق عليها، كانت الألفاظ راقية، والعبارات سامية، والمستوى التعبيري للشخصيات يشعرك بالاحترام والجمال، حتى في أفلام الكوميديا التي يغلب عليها المزاح والتنكيت وما إليهما، بل إن بعض أفلام يوسف وهبي وحسين صدقي وليلى مراد، وفاتن حمامة، ومحمد عبد الوهاب، تشعرك بقيمة اللغة وأهميتها دون افتعال أو تكلف.
قد يقول قائل: إن ما تتحدث عنه كان نتاج زمن جميل، تتساوق فيه نظافة الشوارع، مع تضامن المجتمع، مع تغلغل القيم الخيرة، مع النزعة الرومانتيكية، مع.. وكان لابد للحوار في الأعمال الدرامية أن يكون منسجماً مع العناصر السابقة، أما الآن، فالدمامة تغلف كل شيء، الشوارع والسلوكيات والمجتمع والزحام والسكن والعمل والحياة بأسرها، لذا لا بد أن يكون للحوار نصيب من هذه الدمامة.. وإذا صح هذا القول على إطلاقه، فإنه لا يصح في الفن، لأن الفن عالم من صنعنا، ويمكننا أن نصنع عالماً جميلاً يعوضنا عن عالم القبح الذي نعيشه، وهذا في إمكاننا بسهولة، ولن يكون مفتعلاً كما يتوهم البعض، فالإحساس بالجمال ينبع من كل مكان وفي كل زمان، واللغة الجميلة تستطيع – لو استخدمناها بفن وحذق – أن تطرد اللغة القبيحة، وتحل محلها، لأن عالم القبح إذا ساد المجتمع أحرقه وحوله إلى رماد..