مؤسس الأغنية الحديثة الفنان إبراهيم الكاشف
مؤسس الأغنية الحديثة الفنان إبراهيم الكاشف
مبدع من الزمن الجميل
توثيقي لمدارس الزمن الجميل السوداني
سليمان عبد الله حمد
بانصرام هذا العام يكون قد مضى على رحيل الفنان الكبير ابراهيم الكاشف اربعون عاما،لكنه مازال طازجا ، غناؤه يدخل الوجدان الجمعى لهذه الامة و(يطوى جناحينو يطير بينا ) ...
بدا الكاشف حيث يجب ان يبدأ ، حيث النقطة هو للغناء الحديث ، كانت تلك البداية ، بداية لمعارك حامية ، بين اهل القديم وبينه ، من اولئك الذين حاولوا الى كبحه وإجهاض مشروعه الحداثى او التحديثى ، لكنه خرج بنهاية الامر منتصرا للحداثة والتغيير الفنى ، وخرج متوجا على عرش الغناء الحديث ، وظل على قمته بلا منافس حقيقى ، فى ذلك الحين اذا علمنا انه كان ( نجارا ) واميا فى ذات الوقت ، لم يدخل من باب المدرسة قط ، لكنه استطاع ان (يدق كل مسامير الغناء الحديث ببراعة لا مثيل لها( دقها اوتادا ابدية لا تصدأ ولا تتزحزح الكاشف ، يا له من مغن لن تجود بمثله الايام ، ربما فى زمان ما ، لكنه سرمد ، واكسير لحونه ما يزال الشجرة التى يرتاد ظلها من يشتغلون بالتلحين ، فهو( جب) الموسيقى الذى كلما نهلت منه ازداد عمقا وبات ماؤه اكثر عذوبة ، فلكم تغنى كل من شاء ان يصل الى بوابة اللحن والكلم الذى لا يضاهى عمقا ،واللحن السهل الممتنع ، يدخل الى القلب حتى ان جاء عبر صوت فنان اخر ، حين تستمع الى الكحلاوى فانت لا شك مستطعما حلاوة اللحن وسهولة الاداء(وداعا روضتى الغنا ) على سبيل المثال ، حكى لى احد اصدقاء الكاشف والكحلاوى ( انهما كانا صديقين ، وان الكاشف قال للكحلاوى ، لو مت قبلك تغنى الاغنية دى ساعة التشييع ، ولو انا مت قبالك بغنيها ليك يا كحلاوى ، وقالوا ان الكاشف يوم تشييعه كان الكحلاوى لحظة ان وضعوا الجسد على حافة القبر بدا بالغناء الباكى لتلك الاغنية) واضاف الصديق ( تبدو تلك الاغنية كانها مرثية للكاشف غنى الكاشف للعديد من الشعراء (خالد ابو الروس ، عبيد عبد الرحمن ، السر قدور ، حميد ابو عشر ، خليل فرح ، علي المســـــــــــــاح) يلفت النظر فى الكلمات التى يختارها الفنان الكاشف انها رصينة ، وذات حدس عال فى البقاء كالماس لا تتغير مدلولاتها ولا يعتريها الوهن ، تتناسب وكل مقام ومكان وزمان ، فله حدس ظل يقظا فى اختيار الكلمات بلا ادنى شك يحيلك الى صرامة معرفية بلا حدود ... وها نحن نمشى فى اثر تلك العبقرية الغنائية ،او فى سياق اخر تجده (حسبما زعم عم السر ان عبيد عبد الرحمن لم يركب طائرة فى حياته لكنه كتب رحلة بين طيات السحاب ، اورد ذلك فى ندوة انعقدت فى مركز عبد الكريم ميرغنى العام 2005 ربما فى شهر نوفمبر منه ) لكن تلك الاغنية تدخل معك كلما دخلت الى جوف الطائرة تتمثل الكاشف وهو يهدى روعك ان كنت تخاف الطيران
ويا بختنا بمطرب وفنان كالكاشف ، فلم تكن الدراما فى ذلك الحين كما مؤثرا على الحياة باى قدر لكنه استوحى مشهدا دراميا خالدا حين تستمع الى اغنية (الجمعة فى شمبات ) ترى كم ان الشاعر عبقرى وان الكاشف اكثر عبقرية فى صياغة اللحن
لاحظ ( الماء منسابا ) ويدوزن ذلك فى الموسيقى ، ولنا ان نكتشف من خلال هذه الكلمات ( المكان ) لدى الكاشف ، المكان الجغرافى ، فهو مكان تم اختياره بعناية فائقة ، لكل ماهو جميل (روضة ، نضار ، شمبات ، طيات السحاب ، شلال) مشهد جغرافى يعج بالحياة والامل ، وحبيب حاضر دائما وحتى فى غيابه يرجوه ان يكتب له، لانه يعانى
وهو دوما مهموم بذلك الحبيب ، مشغول (مشغول فكرى حاير مشطوب انشطاب )لكن حبيبه يبدو دائما عنيد ، ويحيله الى الحيرة ( يا محيرنى ومتحير ، انا عمرى غرامك انت وغرامك عمرو قصير ) والكاشف لم يشذ عن القاعدة التى انتجت مجايليه من حيث تذكير الحبيب ، فهو ـ الحبيب ـ صغير ، اسمر جميل ، محجوب لا يتم توصيفه الا عبر ذلك الحجاب (وحجبوه حاسدينى ) ، يقول شيخنا الجميل السر احمد قدور شاعر هذه الاغنية ان( الكاشف جيتو فى ورشة الوزارة ، وزارة الاعلام ، وحفظتو الاغنية دى ، مشينا عشان نسجلا فى الاذاعة ، قالو لا يمكن ، ليه ؟ قالو ليهو انت لقيتا وين عشان تلمس ايدا) الكلمة لدى الكاشف لا تنفصل عن اللحن ، فهما صنوان ، فالكلمة تحيلك الى النغم والعكس صحيح ، فانت لا يمكن ان تتخيل (الربى والسهل او جداول الموية ) بدون اللحن الذى لم يفارق الكلمة ، تنساب الكلمات كما اللحن ، وهنا يقول شيخنا الجليل السر قدور (لمن كان الكاشف بلحن فى رسايل ، سال قال ايه يعنى ربى ؟ فقلنالو المكان المرتفع ، فقال خلاص اللحن يجى عالى ،اذكر جلوووووسنا على الرباااااا كان الكلمة فيها صدى ) احيانا ينتابنى غرور وانا استمع الى هذا المغنى المطرب الفنان واحس انه يغنى لى وحدى ، احس اننى تلك المحبوبة الاثيرة لديه ، لذلك تابعته منذ اليفاعة منذ ان كانـــــــــــــــــــت ( الشاغلين فؤادى) بالرق ، الى ان غنى اخر اغنياته ، الفته وحفظته مقطعا مقطعا ، وحرفا حرفا ،وجلست الى قرنائه عم السر قدور متعه الله بالصحة والعافية ، فهو من يحفظ الى حد كبير سر هذا العبقرى ، الذى كان له شرف ادخال الاوركسترا الى فضاء الغناء السودانى وكثيرا ما يعترينى الحزن لحظة ان يغنى فنان ما من الشباب اغنية لهذا الهرم الشامخ ولا يحسن اخراج الكلمة او التدقيق فى نطقها ، ليس لان الكاشف مجرد (فنان ) لكنه قامة علينا احترام فنها ، الكاشف ، لك الرحمة ...
صفات شخصية :
يعتبر ابراهيم الكاشف مثال السوداني الذي يتسم بكل الصفات الخيرة، ويصدر في افعاله كلها عن شفافية خليقة بالفنان، كان كريماً، مضايفاً، دقيقاً متسامحاً، تنطوي نفسه على شهامة نادرة وسخاء يذهل المتتبع لسيرته، كما كان خفيف الظل يلقى بالطرفة والمزحة والنكتة بانشراح وتلقائية، كما كان حاضر البديهة لا يفوته التعليق والمفارقة اللاذعة. *يحكي عن كرمه وحبه للضيوف الكثير.. لعل من ابرز ما يحكى انه يفتح داره للقادمين إلى العاصمة من مسقط رأسه ود مدني ومنها انه جعل من داره منتدى للفنانين، يلتمون في رحابها للأنس والتفكير واقامة البروفات للأغنيات الجديدة، ويتبع ذلك تقديم الأشربة والمأكولات.
· بين الكاشف وعبيد وسيد!!
ولعل من اكثر القصص التي تدل على حقيقة ما انطوت عليه نفس ابراهيم ما يرويه العم حيدر عثمان بحيري عن الجفوة التي نشأت بين الكاشف وشاعريه سيد وعبيد يقول:
يرجع الخصام الذي نشأ بين سيد عبدالعزيز وعبيد عبدالرحمن والكاشف من جهة اخرى إلى اسباب مادية.. ذلك أن الكاشف يعطيهما من ربع الحفلات التي يقيمها بأغانيهما، كما يعطي العازفين، ويحتفظ لنفسه بقدر معلوم، ولكن سيد وعبيد ابيا الا أن يكون نصيبهما النصف فلم يستجب لهما.. وعليه قررا حرمانه من انتاجهما الجديد والبا حشدا من الشعراء ضده، فامتعنوا عن مده بالجديد حتى صار يردد قديم اغنياته لفترة طويلة.
سمع الكاشف ان سيد وعبيد وخالد ابو الروس وخالد آدم وعتيق قد اجتمعوا وقرروا ان ينظم كل منهم قصيدة ليقدموها لفنان ناشئ حينها هو المرحوم عمر احمد وذلك حتى ينافسوا به الكاشف... اتفق الكاشف مع صديقه عبدالحميد احمد الحاج على حضور جلسات خصومة وسرقة نص قصيدة سيدعبدالعزيز.
قام ابراهيم الكاشف بحفظها وتلحينها ليلته، وظل منتظراً بقيتها فما لبث أن جاء عبدالحميد بالقصيدة كاملة في الاجتماع الثاني، فما كان منه الا أن وقعها وحفظها.. وفي التاسعة من صباح اليوم التالي توجه لدار الإذاعة مع افتتحاها الصباحي، وكان الشعراء حينها يجتمعون بمقهى جورج مشرقي الذي يقع شرق البوستة، حيث توجد الإذاعة ومن مقاعدهم بالمقهى يستطيعون الاستماع لما تقدمه الإذاعة بمكبرات الصوت... ولقد بهت الشعراء حين سمعوا الكاشف يغني قصيدة سيد عبد العزيز، ولم يصلوا إلى معرفة الكيفية التي وصلت بها اليه، بينما حلف سيد ليضربن الكاشف لاجترائه على سرقة قصيدته.
فلما جاء الكاشف بعد انتهاء الأغنية ضربه سيد بعصاه ولكنه ظل محتفظاً بابتسامته، بل دعا سيد ليبرد على نفسه غلواءها بزجاجة عصير مثلجة.. وحين سئل عن كيفية حصوله على القصيدة زعم لهم ان شيطانه قد اتاه بها فصدق كثير منهم، وانتشر خبر شيطان الكاشف الذي يشبه شياطين الشعراء.
تدخل نفر من المغرضين فأثاروا الكاشف واملوا عليه ان يشتكي سيدا لأنه ضربه في مكان عام ففعل راغماً... وحين جاء يوم المحكمة التقى الغريمان فما كان من الكاشف إلا ان سلم عليه بالاحضان ومن ثم ذاب الجليد، وتصافيا والغى الكاشف دعواه.
وعن كرمه وبذله يقول حيدر عثمان: حكى لي شاويش عاد من الميدان وكان الكاشف واحمد المصطفى وحسن عطية قد بعثوا للترفيه عن الجنود، كيف ان المال يتدفق على ابراهيم حتى انه كان يوضع في الطشت لكثرته، ولكن بعد نهاية الرحلة عاد يحمل عشرة جنيهات فقط، ذلك انه كان يصرف بسخاء ويبذل من ماله دون تحسب للشكر او الجزاء.
· دور الإذاعة في شهرته!!
لا مراء في أن الكاشف قد اشتهر قبل انشاء الإذاعة.. ولكن شهرته تلك محدودة بأماكن الأفراح حيث تقام الحفلات ولا يتيسر لأحد ممن ينأوون بأنفسهم عن الحفلات لسبب او اخر. أن يقفوا على حقيقة هذا المغني الذي يسمعون به، فلما انشئت الإذاعة واقتحمت الحواجز والجدران بما تبثه من مواد، هيأت للمغنين ان يشتهروا حتى في الأوساط المحافظة.. كما هيأت للمحافظين الوقوف على انتاجه والتمتع بروائعه وبذا صارت الشهرة شاملة.
وغير الشهرة الماثلة في بث اغانيه، اتاحت الإذاعة له ولغيره من المغنين فرصة السفر إلى مصر ليسجلوا اغنياتهم في اسطوانات وثمة تم لهم التعرف على الغناء والمغنين فاستفادوا فائدة مزدوجة كما كانت الإذاعة تبعث بهم للترفيه عن الجنود السودانيين الذين اشتركوا في جيش الحلفاء... وبذا توفرت لهم الشهرة داخل القطر وخارجه مما عاد عليهم بالكثير.
· الكاشف ومصر!!
كان الكاشف مولعاً بمصر، كثير الاشتياق اليها، والذكرى لها ولمرائى الفنون المعطاة التي تغرق نفس الفنان بنبض الابداع الوهيب، وكانت اول مرة سافر فياها لمصر موقوفة على تسجيل اغنايته على اسطوانات، ثم توثقت صلته بها حتى حدث انه مكث بها قرابة السبعة اشهر، لم يكن تعلقه قاصراً على مظاهر الطبيعة بل تجاوز الرؤية الفنية إلى الاعجاب بالناس وقد تبلور هذا الأخير في زواجه من مصر حيث تزوج فتاة تدعى نوال انجب منها الهام، ووليد، ووحيد، ويهمنا في هذا السياق مدى تأثره بالفن المصري، وصلته بكبار المغنين في مصر.
تقول ابنته: كان والدي يحب الاستماع إلى اغنيات ام كلثوم ومحمد عبدالوهاب واذكر ان الإذاعة تقدم اغنية آخر كل شهر، فكان يتلهف إلى سماع الأغنية التي تتغنى بها أم كلثوم وكان يشرح لنا كلماتها وطريقة لحنها.. ويعتبرها مثلاً اعلى، وقد التقى والدي بعبدالوهاب وام كلثوم كثيراً في مصر، واذكر ان والدي شارك في الاشراف على الحفل الذي اقامته السيدة ام كلثوم عند حضورها للسودان مع احمد المصطفى.
وتقول زوجته عن صدى مصر في نفسه: كان دائماً ما يذكر لي مصر وكان انطباعه عنها انها بلد جميل يوحي للفنان بالخالد من الألحان، وعندما سافر إلى مصر اول مره مبعوثاً من قبل الإذاعة كانت تنتابني مشاعر الألم والفرحة معاً، الألم لفراقه والفرحة لأنه سيكون ذا شأن في مضمار الفن، وكان يعجب بمصر غاية الاعجاب ويعتبرها وطناً ثانياً له.
· مع الشعراء!!
غنى الكاشف لعدد كبير من الشعراء وخاصة في اخريات انتاجه حيث صار الاعتماد على شاعر واحد من الأمور غير المرغوب فيها... وبتتبع انتاجه نجد انه غنى للمساح ولسيد عبدالعزيز، وعبيد عبدالرحمن، وعثمان عبدالله وقيع الله، ورحمي محمد سليمان، وطه حمدتو، السر احمد قدور، واسماعيل خورشيد، وخالد عبيدالرحمن، وحميدة ابوعشر، وحسين عثمان منصور، وعبدالمنعم عبدالحي، وحسين محمد حسن، واحمد ابراهيم فلاح، وهناك اغنية واحدة من تأليفه هو هي اغنية (الحبيب وين)، كما أن هناك أغنية كتب أو بالأحرى ألف مطلعها ثم طلب من الشاعر اكمالها وهي أغنية ( توبة يا أنا) للشاعر خالد ابو الروس تغنى الكاشف بأغنية (توتي) ...
أما أول قصيدة تغنى بها لعبيد عبدالرحمن فهي (الشال منام عيني) وقد جارى سيد عبد العزيز هذه القصيدة بقوله ( الليلة لاقيتو وملأ السرور قلبي وباسمه ناديته).
· الحان الكاشف!!
كانت بداية الكاشف تنبئ عما سيؤول إليه أمره بعد حين.. ذلك انه استوعب في صباه الباكر ضروب وطرق أداء الدوبيت، ثم التقط بحاسته الفنية روائع كرومه وسرور وخليل فرح وغيرهم ولعلنا ذكرنا موقفه أمام هؤلاء في غير هذا الموضع، كان يتصل بهم ويأخذ عنهم ويوجهونه التوجيه السليم عن طرق الأداء وعمل الألحان.
وكان الكاشف سريع الاستيعاب، حاضر البديهة، ولكنه مع ذلك لم يبادر بتلحين أغنياته بنفسه.. لأن الشعراء يمدونه بالأغنيات ملحنه وبعد فترة التلقي والاستيعاب لأنماط الألحان بدا يبدي ملاحظاته على الألحان التي يمده بها الشعراء ويعدل فيها بما يتسق ومضمون القصيدة ومسار اللحن الأول.
اكتسب رهافة وشفافية وقدره على معايشة الكلمات كما استطاع بعد الكثير من التجارب أن يلتمس مخرجاً لمنابع الألحان الدفينة في نفسه، فانطلق يشدو بما يجود به إحساسه المرهف من روائع الألحان حتى اعتبره دارسو الموسيقى اليوم رائداً من رواد التأليف الموسيقي الناضج.
هذا وقفات مع مبدع وزمن نتفيأ ظلالها في زمن قله فيه الإبداع والمبدعين ... !!!!!!!!!!
( فهل أنت معي ) و إلى ان يحين اللقاء مع مبدع وزمن لكم تحياتي أحبتي ...