عندما يتحول العبث إلى جحيم
"قراءة في المسرح العبثي,
وتطبيقه على أرض الواقع"
وئام البدعيش\ سوريا
- لو عاد صموئيل بيكت اليوم, لاعتذر عن المسرح العبثي, ولكتب في " مسرح الجحيم الإنساني " ...
في انتظار غودو ..
" الانتظار خلق المحطة، وشوق السفر, جاب (الترين) " ...هكذا كانت مقولة مسرحية المحطة, للأخوين رحباني...
وهكذا تكون مقولة المسرح العبثي .." الانتظار لا يولد إلا الانتظار.. والأمل شعاع بسيط, يركض أمامنا دون توقف " ...
- أنا هنا سأتكلم عن المسرح العبثي. اشكاليته التاريخية. والإدراك الجمالي له, ولماذا يجب أن يقدم الآن. أو ما هي الغاية من تقديم هذا المسرح اليوم...
- النص وما يحمله من معاني...
" في انتظار غودو " للكاتب صموئيل بيكيت, والذي حصل على جائزة نوبل عام 1969, ولم يذهب لاستلامها ...
- تعتبر مسرحية في انتظار غودو من المسرح العبثي, والذي نضُجت ورُسمت ملامحه الأساسية بعد الحرب العالمية الثانية, بعد الأهوال التي حصلت في هذه الحرب, بعد التهدم الإنساني الذي حصل, فاختل التوازن الإنساني, واختلت الرؤى الإنسانية, فظهرت المفاهيم السلبية والسلبية جداً عن عدم جدوى الفعل الإنساني, وعدم وجود معنى للحياة في الأساس, واضمحلال الأمل. وبما أن الفن كان وما زال مرآة للشعوب كان لا بد من ظهور هذا النوع من المسرح غير المتزن والباحث عن الأمل, كما الإنسان....
معنى كلمة العبث في اللغة العربية تتمحور حول معاني هي : لا فائدة منه, اللعب والهزل, والاستهزاء...
وإن كانت كلمة العبث في المفهوم الغربي.. تعطينا فهم أدق للمقصود من الكلمة مثل : ضد العقل, وضد التصور المشترك, والمخالف للصواب...
إذاً مسرح العبث لا يقترب من المسرح الواقعي, بل على العكس يختلف معه بشكل شديد..فهذا النوع من المسرح:
يتجه بدائرة منحنية نحو البداية من دون جدوى, فيعيد الكرّة من جديد, دون جديد...
لا يحمل حكاية واضحة محددة الملامح, فلا يحمل حبكة أو صراع أو حتى نهاية واضحة, مع أن الشخصيات تؤدي دورها باهتياج شديد في اللحظة التي لا تتطلب اهتياج, وتتعامل بكل بساطة مع الأمور الهامة ..
لا يحمل منطقية أو اتزان وإنما عشوائية...
الحوار في هذا النوع من المسرح يكون غير محكم بشكل واضح, وغير متسلسل, وإنما متقطع, وصحيح أن الجمل غير منساقة في بناء هيكلي واحد للمسرحية, ولكنها جمل مفتاحية تحمل خلفية كبيرة, وكلام أكبر, ولها ظل ثقيل على الواقع, وهذا ما ميّز ويميز هذا النوع من المسرح بشكل خاص, وهذا النوع من الفن بشكل عام...
الشخصيات : معدمة, ومهمشة وعدم متزنة, تصعد ثم تهبط في نفس اللحظة, لا يوجد للفرح معنى ( فنحن ممنوعون من الضحك ) ...
اخيراً, ارتباط كل الكركبة والتوتر وعدم الاتزان الداخلي والخارجي, برجوع الأمل " غودو " الذي سيصحح المسار ويرتب الأمور, ولكن في النهاية نعود إلى البداية, وبداية الدائرة والأنحناء...
لماذا تكلمت عن الخلفية بشكل سريع؟..
" لكي نستطيع إدراك الجمال, يجب على المشاهِد معرفة خلفية العمل المشاهَد " قبل مشاهدة هذا العمل .. فهذا يعزز الفهم وبالتالي يستطيع المُشاهد ادارك الجمال في هذا العمل الفني بناء على معرفة مسبقة لهذا العمل ..... "
وهنا يجب أن نفرق بين الإنجذاب للجمال, وهذا شرط إنساني وموجود في كل الناس, مثل الإنجذاب للفتاة جميلة أو صورة بديعة أو صوت شجي..
و بين إدراك الجمال وخصوصاً في الفن, يحتاج إلى فهم وإدراك لهذا النوع من الفن ولمدارس الفن. وهناك مناهج تقول لإدراك الجمال أيضاً ...
- يجب تكرار المثول, أي تكرار المشاهدة والمشاهدة العميقة, فتجعلك تعي الأمور الجمالية, لم تكن تعيها من قبل, وهنا سأتكلم عن الموضع ولكن بشكل معاكس في الفقرة اللاحقة .....
وأخيراً, النقد وخصوصاً في المسرح, وهو القراءة الثانية والثالثة للعرض, وإظهار للجماليات العرض المسرحي وما خفي منها ...
- هذه الأمور الثلاثة تساعد على ادراك الجمال بشكل فعلي وجدي وخصوصاً في الفنون الجدلية, والتي تحمل كثيراً من الجدل والأخذ والعطاء...
وأخيراً ... لماذا الآن ...؟
لماذا الآن؟؟. لماذا نتطرق للموضوع الآن.. لأننا وصلنا إلى الحضيض الإنساني...
"إنّ الخسارات الّتي ألمّت بحياتنا، هي خسارات أكبر من الهزائم العسكريّة أو السياسيّة... إنّه نزيفنا الإنسانيّ المستمر، والّذي يُحيوننا أو يُجنّنا. "ممدوح عدوان "
لأننا وصلنا بعد هذه الحرب الهوجاء إلى حالة عدم اتزان, إلى الانعدام والتهميش, إلى حالة من عدم وعي, إلى حالة ركام إنساني ينصهر يوم بعد يوم ..
" إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى .. الخسارة الأكبر هي ما يموت فينا ونحن أحياء." " محمد الماغوط "
خلال الحرب العالمية الثانية لم يكن هناك يوتيوب, لم يكن هناك قنوات اعلامية, لم يكون هناك تصوير, لم يكن هناك ذبح بدم بارد , وخرجنا بعد الحرب العالمية الثانية ببقايا مجتمع فاقد الأمل أخرج لنا مسرح العبث ...
- فماذا سيخرج لنا مجتمعنا الحالي, الذي تعود مع كل رشفة من فنجان القهوة, عشرات القتلى والشهداء, مع كل رشة عطر, رشة كيماوي . مع كل جرة للسكين في المطبخ, يُجر السكين على آلاف الرؤوس. مع كل نقطة مازوت تنزل يموت إنسان من البرد, وهذا كله يحصل على مرآة من كل العالم ...
لنعود إلى فقرة ادارك الجمال, وبتكرار المثول والمشاهدة للعمل الفني, نستطيع أن ندرك الجمال الخفي ...
وتكرار المُشاهدة للدم والقتل والتعذيب والإغتصاب, تجعلنا انقاض انسان, تظهر فينا الحيوان البدائي, تظهر فينا حب القتل والتعذيب, التي حاولت أن تنتزعه كل فلسفات وأدبيات وفنون التاريخ اللإنساني, كل ذلك يسقط في لحظة واحد, لحظة اللامعقول واللاجدوى التي تجعلنا في حالة من عدم الأتزان وعدم الوعي. تجعلنا عبيثيين كما المسرح العبثي ...
فهذا التدمير الإنساني سيخرج لنا يا سيدي, " بمسرح الحجيم الإنساني " وليس فقط بمسرح العبث ...