أضواء على تاريخ الإخوان المسلمين المسرحي (2)
أضواء على تاريخ الإخوان المسلمين المسرحي
(2)
بدر محمد بدر
بينما كان يسير عبد الرحمن البنا في أحد شوارع وسط القاهرة، في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، فوجئ بملصق على الحائط يعلن عن مسرحية جديدة تقدمها فرقة "علي الكسار"، عن القائد الفاتح عمرو بن العاص رضي الله عنه، لم يصدق ما رأت عيناه وكأنه أصيب بصدمة، وتساءل في نفسه: كيف يجرؤ "علي الكسار" على ذلك؟
تخيل الشاب المتحمس أن الفنان علي الكسار سوف يؤدي دور البطولة في المسرحية باعتباره بطل الفرقة، فكيف يجرؤ على القيام بتمثيل دور الفاتح العظيم عمرو بن العاص، وهو الممثل الكوميدي خفيف الظل، الذي يثير ضحك جماهير المسرح بطريقته الخاصة، فهل أصبح فاتح مصر العظيم مادة للضحك والسخرية؟!
غلى الدم في عروق الشاب المتدين، وانطلق إلى مكتب فضيلة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، شيخ الأزهر في ذلك الوقت، وقد كانت بينهما صداقة، وروى له وهو غاضب قصة ما حدث، وطالبه بأن يتخذ موقفا حاسما، بحكم مسئوليته الدينية، بأن يأمر بمنع عرض المسرحية، احتراما للرموز والقيم والمقدسات الإسلامية، التي على وشك أن تمتهن على يد الفنان "المهرج" علي الكسار!
كان شيخ الأزهر حصيفا وذكيا وعمليا، فهدأ من ثورة الشاب الغاضب، وطلب منه أن يذهب بنفسه إلى مسرح علي الكسار، ويحضر عرض المسرحية الجديدة، ثم يكتب له تقريرا بما رأى من مخالفات شرعية، حتى يتخذ قراره المناسب بناء على الحقيقة، وليس على الظن.
هدأ عبد الرحمن البنا قليلا، واقتنع برأي الشيخ الظواهري، وذهب إلى المسرح وشاهد العرض كاملا، وعاد بغير الرؤية التي ذهب بها.. لقد اكتشف أن بطل المسرحية، الذي قام بدور عمرو بن العاص، ليس علي الكسار صاحب الفرقة، وإنما أحد الممثلين غير المعروفين، وأن دور الكسار هو خادم هذا الفاتح العظيم، وأن النص مكتوب بشكل جيد إلى حد كبير.
كان هذا درسا بليغا من شيخ الأزهر للشاب المتحمس، مؤداه أن عليه أن يحكم بناء على المشاهدة والعلم والبينة، وليس على التخمين والظن والاحتمال، وما أن أبلغه بوقائع المسرحية وأدوار الممثلين فيها حتى ابتسم الشيخ الجليل، وكأنه يقول: كنت أعلم بذلك، ولكني أحببت أن تجرب بنفسك، وأن تحكم بناء على العلم وحده.
نقل عبد الرحمن الصورة بكاملها إلى شقيقه حسن البنا، منذ أن رأى الإعلان عن المسرحية في أحد شوارع وسط القاهرة، إلى أن ذهب بنفسه لحضور عرضها على المسرح، وكيف تغير رأيه تماما في الموضوع، ثم إدراكه أهمية هذا الميدان في الدعوة إلى الله، فقال له البنا: يا عبد الرحمن .. هذا ثغر من ثغور الإسلام، فاجتهد ألا يؤتى من قبلك.
فوجئ الشاب المتحمس بهذا التكليف من أخيه الأكبر وقائده في الدعوة، وهو تكليف يعرف قيمته وأهميته، وبدأ بالفعل يستعد لدراسة ومعرفة فن التأليف المسرحي، وكتابة السيناريو، وتصميم المشاهد، وأدوار الممثلين، وشيئا عن الإنتاج والإخراج والديكور والإضاءة، وكل ما يتصل بالعمل المسرحي.
واختار عبد الرحمن قصة عربية شهيرة من قصص الحب والغرام، لتكون موضوعا لأولى مسرحياته، وهي قصة "جميل بثينة"، حيث أنتجتها "لجنة تشجيع التمثيل" التابعة لوزارة المعارف العمومية (التربية والتعليم الآن)، وأخرجتها على نفقتها الخاصة عام 1934، "لما وجدت فيها من معاني طيبة وقيم رفيعة"، ولاقت المسرحية نجاحا لافتا، وأصبحت موضع مقارنة مع درة أمير الشعراء "مجنون ليلى".
وهكذا بدأ اهتمام الإخوان المسلمين عمليا بالمسرح بعد حوالي خمس سنوات فقط من نشأتهم، والحديث موصول بمشيئة الله.