عودة الطيور المهاجرة
زياد جيوسي
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
كنان الربيعي، الفنانة الشابة التي عادت إلى الوطن من الشتات طفلة، وغادرت رام الله في عمر مبكر إلى غزة، ومنها إلى القاهرة بعد الأحداث التي اجتاحت غزة والانقسام والصراع الداخلي، بقيت رام الله تسكنها، وبقي الوطن يرافقها في حلها وترحالها، وما زلت أذكر أسئلتها لي حين زرت القاهرة في بدايات العام 2009 عن رام الله، وما جد عليها عبر سنوات غيابها عنها، كانت تطلب أدق التفاصيل، وتسأل عن كل شارع مرت به.
هذا الحنين الذي كان يسكن روح الفنانة ولازمها، أبدعت التعبير عنه من خلال الريشة واللوحة، وحين عادت إلى رام الله مع والدتها كان همها الأول أن تقدم روحها من خلال معرض شخصي لها، فكانت (عودة الطيور المهاجرة) لتعبر بها عن عودتها إلى الوطن، لوحة حملت في ثناياها الفكرة، واسم للمعرض تميز بالتعبير عن الحالة التي عاشتها في الغربة، وتحليق كما تحلق الطيور في فضاء الوطن ورام الله.
ثمان وعشرين لوحة كان معرض عودة الطيور المهاجرة، وحقيقة شعرت أثناء تجوالي أن المعرض كان يجب أن يكون أكثر من معرض واحد، حسب طبيعة المواضيع المتناولة وحسب الأساليب الفنية المختلفة، ويمكننا تقسيم المعرض إلى ثلاثة أقسام حسب اللوحات والأسلوب المتبع في الرسم والإبداع.
القسم الأول: وهو مكون من سبع لوحات اعتمدت الحبر الصيني في ثلاث لوحات منها، ويلاحظ في هذه اللوحات أن المرأة كانت لب الموضوع، وكانت من هذه اللوحات اثنتان تعتمد على تخطيط عبارات مرتبطة بالمناسبات على شكل جسد لامرأة، بينما الثالثة كانت لوحة لصورة اشتهرت لامرأة فلسطينية تحتضن شجرة الزيتون التي قطعها الاحتلال وتبكي بحرقة، وكأنها تبكي أحد أبنائها، وفي لوحتين أخريين اعتمدت فيهما الألوان الزيتية (الجواش) ظهر وجه المرأة واضح الملامح، وفيهما رأيت ملامح واضحة لوجه والدة الفنانة، ما يشير بوضوح إلى مدى ارتباطها بأمها من ناحية، وبمدى اعتبار أمها رمزاً للمرأة والحلم في أعمالها الفنية، واللوحة التي حملت اسم هاجس العودة أظهرت كم أن هذا الهاجس يدور في روح الأم، ممثلة كل أم فلسطينية، وهذه اللوحة حملت رمزاً إضافة إلى الوجوه وهو الحمامة البيضاء للحلم بالعودة والسلام للروح بعد طول الغياب، بينما كانت هناك لوحة حملت اسم تأمل، وكانت متميزة جداً وحملت الملامح لوجه امرأة إفريقية وإن كانت طبيعة الشعر آسيوية، وقد اعتمدت بداخل اللوحة الخطوط المستقيمة والمنكسرة، وكانت خلفية اللوحة تثير فعلاً أجواء التأمل، بينما عبرت في لوحة أخرى عن الخوف حيث ظهرت امرأة تحضن فتاة خائفة، وفي زاوية اللوحة ظهر وجه الأم وكأنها الشمس التي تتدخل لتخفف من خوف معاش، وهذه اللوحة تميزت باللون والتعبير والملامح.
القسم الثاني: فن الملصق والمناسبة، وكان من ثلاث لوحات إحداها عن أسيرين والثانية عبارة جميلة مخططة، والثالثة عبارة عن شجرة اعتمدت اللون الأحمر على خلفية صفراء فاقعة، وكأنها ترمز لشجر الوطن الذي ارتوى بالدم ويحلم بإشراق الشمس، وهذه اللوحات الثلاث مع القسم الأول من اللوحات الذي أشرت إليه أعلاه، كان من الممكن أن تشكل معرضاً منفرداً، لترابط الموضوعات فيها.
القسم الثالث: فن تشكيلي، وكان مكوناً من ثماني عشرة لوحة تشكل معرضاً متكاملاً، فكانت اللوحات تمثل رواية المنفى القسري، فمن لوحة الطيور المهاجرة التي منحت المعرض اسمه، وظهرت فيها الطيور بألوان حرة ما بين الأصفر والأخضر والبرتقالي، وتحلق في سماء نقية وتتجه باتجاه يمين اللوحة والذي رأيته تجاه الوطن من مصر، ترف برأس امرأة كانت ملامح الوجه فيه نفس الملامح في القسم الأول، وتحمل سمات من ملامح الأم تنظر وتتأمل العودة، وصولاً إلى لوحة الخيول التي مثلت قطيعاً كاملاً من الخيول بألوان حرة أيضاً وتتجه راكضة تجاه يمين اللوحة أيضاً لتؤكد الفكرة السابقة، ولوحة الحصان الأبيض الذي ينظر للقدس، حتى نصل إلى لوحات أمل والتي كانت متميزة بجمالها، ولوحات قمر بلادي وغزة وبركان الحرية وصولاً إلى لوحة مدينة حيث تتمازج الشخوص بالمكان، ولوحة بركان الحرية والتي ترى من خلالها فكرة الثورة والحرية، حتى لوحة موسيقى حيث السكينة والهدوء، فمروراً في هذه اللوحات واللوحات الأخرى نجد الحكاية التي تبدأ بالحلم، وتمر بمراحل الوصول إلى الوطن حتى الوصول إلى بركان يتفجر من أجل الحرية من خلال تمازج الشخوص بالمكان واندماجهم فيه، للوصول إلى الراحة والسلام.
نلاحظ أن الفنانة اعتمدت الوضوح المباشر في بعض اللوحات، واعتمدت الرمزية ما بين المغرقة بالرمز والمباشرة في لوحاتها، ونجد أن الطيور مثلت مساحة جيدة في رمزيتها، فالطيور من المعروف عنها هجرتها تحت تأثير التغيرات المناخية، وهي هجرة قسرية، بينما البشر يهجرون تحت تأثير الحروب والاحتلال، والطيور تبقى تستعد للعودة كما البشر يحلمون، كما أن الفنانة اعتمدت رمزية الخيول في لوحاتها كثيراً، والخيول لها ارتباط كبير في الوجدان العربي بما ترمز به للقوة والنقاء، إضافة إلى استخدام الألوان الحرة حيناً في بعض اللوحات، وصولاً إلى الألوان الحارة والمتمازجة في لوحات أخرى، وهذا شكل انعكاساً للحالات النفسية التي كانت تمر بها الفنانة وتعكسها على لوحاتها.
كما نلاحظ أن الفنانة استخدمت وسائل متعددة في معرضها، فاستخدمت الحبر الصيني والـ (جواش) والـ (أكريلك) سريع الجفاف، إضافة إلى الألوان الزيتية، وكانت القاعدة الورقية هي الغالبة على أعمالها مقارنة بعدد اللوحات التي شكل القماش الأرضية لها، وهنا لا بد من ملاحظة أن الورق كقاعدة والـ (جواش)، لا يعطي اللوحات عمراً طويلاً بسبب تكسر اللون بعد فترة زمنية، وهذا يؤثر على القاعدة المستخدمة، بعكس الألوان الزيتية على القماش التي تعمر فترات زمنية أطول، إضافة إلى استخدام اللون البارز في بعض اللوحات وهذا منح تلك اللوحات جمالاً خاصاً، ومن جانب آخر لا بد أن أشير إلى أن المعرض كان بحاجة لتنسيق أفضل في ترتيب اللوحات للعرض.
نهاية لا بد أن أقول أن المعرض كان معبراً وجيداً، وتجربة متميزة للفنانة في معرضها الشخصي الثاني، وتشد القارئ للوحات والمشاهد أن يحلق في أفقها عالياً، ليقرأ ما أبدعته الفنانة الشابة بالريشة واللوحة، من الاغتراب والهجرة القسرية مروراً بالحلم والعودة واستمرار الحلم نحو صباح أجمل للوطن والإنسان.