الفنّ والجسد
مادونا عسكر/لبنان
إذا كان الفنّ هو البحث عن الجمال والتّعبير عنه، فالجسد هو الجمال الأوّل الّذي يستحقّ التّأمّل فيه من خلال شتّى أنواع الفنون كالرّسم والنّحت والشّعر. ولعلّ الفنّان هو الأقدر على إبراز جمال الجسد دون حرج لأنّه خرج من دائرة التّقوقع الفكريّ وانطلق بحرّيّة نحو التّأمّل في كلّ العناصر التّكوينيّة وتجسيدها واقعياً. ولعلّه الأصدق في التّعبير عن كلّ ما يخالج الإنسان من أسئلة حول وجوده وكينونته وكلّ تساؤلاته حول ماهيّة جسده كمادة حقيقيّة يترافق وإيّاها دون وعي حقيقيّ لأهمّيتها.
ولأنّ الكلام عن الجسد في شرقنا المسكين نوع من أنواع المحرّمات والغوص في تفاعلاته وانفعالاته نوع من العيب، يبقى اهتمامنا بالجسد سطحيّاً، وقد نتعامل معه بالكثير من الإهمال أو اللّامبالاة، وذلك لتأثّرنا بتقاليد إجتماعيّة أو دينيّة نُقلت إلينا وتوارثناها دون التّدقيق فيها أو مراجعة أسباب نشأتها وظروفها. كما أنّنا نخفي في داخلنا تلك التّساؤلات والانفعالات أو نكبتها بمعنى أصحّ، لتنفجر لاحقاً بشكل سلبيّ فتفقد معناها الإنسانيّ.
ولأنّ نظرتنا إلى الجسد غالباً ما ترتبط بالجنس وتتمحور حوله، وذلك لفقرنا الثّقافيّ حول إنسانيّة الفعل الجنسيّ، فيبقى مفهوم الجسد الإنسانيّ سطحيّاً وهشّاً وبعيداً عن التّمييز بين الجسد الّذي هو اللّحم والدّم، والجسد الّذي هو صورة الإنسان. اللّحم والدّم جزء من الجسد، وهما صورة تؤكّد أنّ الفرد ما زال يتنفّس ويأكل ويشرب... أمّا الجسد، صورة الإنسان هو انعكاس لشخصيّة الفرد ومكنوناتها. وهو انعكاس الأنا الدّاخليّة بكلّ انفعالاتها وهواجسها وتحرّكاتها والتأثيرات الخارجيّة الّتي تتفاعل معها وتنطبع فيها. هذا الجسد يعبّر بدقّة عن كلّ ما يحتويه ولكنّه قد يعبّر سلباً في حال عدم فهمه لذاته، كالطّفل الّذي يسرق قطعة حلوى أو بضعة قروش، ليس لحاجة ما، وإنّما ليعبّر ودون أن يعلم عن نقص عاطفيّ. وهنا عبّر الجسد عن الأنا من خلال حركة الجسد دون وعي منه وأتى التّعبير سلبيّاً. كما يعبّر المراهق عن عدم فهمه لتخبّط جسده بتغييرات فيزيولوجيّة وهورمونيّة، فإمّا أن يثور جسده ويبيح لذاته أيّ تصرّف وإمّا أن يتقوقع وينعزل ويتفرّد بأفكاره وهواجسه دون أن يتشاركها مع أحد، فينظر إلى ذاته وإلى العالم من منظار ضيّق جدّاً.
إذا كان الإنسان جسداً وروحاً، فالجسد هو الأساس الأوّل الّذي منه ننطلق لفهم إنسانيّتنا والتّعبير عنها. فالجسد هو الواقع الوحيد المرئي بالنّسبة لنا، أمّا روحنا فلا نراها بل نحن في تأمّل مستمرّ لها وقد تختلف مفاهيمها من شخص إلى آخر ومن فكر إلى آخر. كما يختلف تعريفها وأهمّيتها. ومتى كونّا الفهم الأساس لمعنى الجسد وأبدينا اهتماماً له، عندها فقط يمكننا الارتقاء بالرّوح واستيعاب قدراتها. والاهتمام بالجسد يعني محاكاة الجسد والتّعرّف إليه والتّعامل معه بصدق وشفافيّة.
لطالما اعتبر الجسد مصدر الشّرور والنّجاسة، وحتّى يومنا هذا ما زال البعض متأثّراً بهذا المفهوم، فيقمع الجسد خوفاً من انحرافه أخلاقيّاً، كما يعتبر أنّ قمع الجسد هو قداسة الرّوح، إن جاز التّعبير. إلّا أنّ القمع يولّد الانفجار والكبت يولد الإنحراف فيضيع الجسد وتضيع معه نقاوة الرّوح، ويبتعد الإنسان بكلّيّته عن قيمته الإنسانيّة. ولو فكّرنا مليّاً وباتّزان وجدنا أنّ علينا تدريب الجسد على السّلوك الصّحيح ليصل بنا إلى نقاء الرّوح. والفرق شاسع بين القمع والتّدريب، فالقمع هو منع أيّ فكرة من التّبلور متى أيقظها العقل، وقهرها وإسكاتها، أمّا التّدريب فهو مناقشة الأفكار والهواجس الّتي يتطلّبها الجسد بهدف تقويم سلوكه. بالمقابل علينا أن نتخلّى عن قهر الجسد، وكأنّه غريب عن إنسانيّتنا، وعدم اعتباره أداة جنسيّة فقط، وذلك بالنّظر إليه باحترام كقيمة وليس كمادّة استهلاكيّة. قيمة الجسد هي قيمة الإنسان بكلّيّته وصورة داخله المرئيّة، ولهذا فللجسد حقّ على الإنسان في أن يحبّه ويحاكيه ويشعر به.
من هنا، يعكس الفنّان من خلال لوحته أو منحوتته أو كلمته كلّ مكنونات هذا الجسد، وذلك وكما ذكرتُ لأنّ نظرته الحرّة موجّهة للجسد كقيمة، وليس كمادة يستثير بها مشاعر النّاس الجنسيّة والغرائزيّة. فلوحة تمثّل امرأة عارية لا تثير شخصاً جنسيّاً إلّا إذا كان مريضاً بهاجس الجنس، لأنّ التّفاعل الجنسيّ هو تفاعل حبّ بين شخص وآخر. وإنّما اللّوحة تعبّر من خلال راسمها عن رسالة معيّنة أراد الفنّان إيصالها إلى الآخر. فالجسد العاري مرسوم أو منحوت يرمز إلى حرّيّة الإنسان وليس إلى الفعل الجنسيّ. إذاً هو مستخدَم كرمز للوصول إلى المعنى الأساسي للحرّيّة. وهنا تختلف النّظرة بين من يقدّر قيمة الجسد ومن يعتبر هذا الرّسم أو تلك المنحوتة ابتذالاً وانحرافاً أخلاقيّاً.
لا ينجز الفنّان عمله عن غير وعي، بل هو مدرك لكلّ التّفاصيل الظّاهرة والمخفيّة، ويعبّر عنها بريشته أو إزميله وبنظرته الحرّة وروحه المنفتحة والخالية من التّشويهات. هو لا يريد من الجسد اللّحم والدّم وإنّما الإنسان والقيمة الإنسانيّة الّتي يمثّلها أو يصوّرها الجسد. كما أنّه يبحث عن جمال الجسد الإنسانيّ، وليس الجمال الحسّيّ المتغيّر والمتبدّل مع الوقت. لمّا نظم الشّاعر نزار قبّاني قصائده في جمال المرأة وتغنّى بجسدها وبات قارئ القصائد يرى المرأة الّتي يتكلّم عنها نزار وكأنّها نصب عينيه، لم يكن يرسم من خلال كلمته جسد المرأة كجسد غرائزيّ، وإنّما انطلق من الجسد ليظهر جمال المرأة بكلّيّتها. فأتت قصائده معبّرة عن المرأة جسداً وروحاً. إنّ استخدام الكلمات المرتبطة بأعضاء الجسد ضمن قطعة شعريّة أو نثريّة لا تكون خلفيّتها جنسيّة أو غرائزيّة، وإنّما هي تعبير حرّ وخروج عن إطار العيب الزّائف، فيأتي التّعبير صادقاً باستخدام تلك التّعابير كرمز لإظهار ما يدور في داخل الفنّان.
عري الجسد المتمثّل في الفنون لا علاقة له بالجنس، بل له علاقة بالتّعبير الحرّ والبعيد عن الأعراف، عن مكنونات الإنسان من خلال الجسد. لقد تفنّن مايكل انجلو برسم سقف كنيسة "سستينا" حين صوّر كلّ ذاك العري الطّافح بالحسّيّة، رغم تناوله قديسين وملائكة وقصص الخلق والقيامة وعوالم السّماء. وذلك ليعكس على أرض الواقع وبالمفهوم الحسّي تجرّد هذا العالم.
إنّ الفنون وعلى مختلف أشكالها تساعدنا على ترويض البصر على النّظرة التّأمّلية الّتي تسافر بنا إلى بصيرتنا، فنكتشف في داخلنا عوالم أخرى أرقى وأسمى من عوالم الرّغبة والغريزة، فعندها يظهر لنا جليّاً الإنسان جسداً وروحاً كقيمة حقيقيّة لا كخيالات تتنفّس وتحيا على هامش الحياة.