نفاق الفن... وردّته الأخلاقية
م. محمد حسن فقيه
الفن : شعور راق وإحساس مرهف يتمخض عنه إبداع وجمال .
يتجلى هذا الفن في لوحة بديعة خطتها أنامل مرهفة دقيقة ، تبعث في نفس من يطالعها راحة وانشراحا ، أو قصيدة شعرية مفعمة بالمعاني والقيم العالية ، ترسخ معاني الشجاعة والفداء ، أو منشد يصدح بصوته الشجي فيبث معاني الرجولة والوفاء ، ويرفع الهمم العالية ، ويوقد العزائم الوثابة ، أومطرب ينشر مشاعر الحب والإخاء ، بلحن عذب ندي يهز المشاعر الراقية والأحاسيس المرهفة ، أو في مسرحية هادفة تصور مشكلة إجتماعية أو وطنية ، تشخص الخلل وتؤطر المشكلة ، وترسم سبل الخروج من تلك الأزمة ، فتصلح المجتمع وتنهض بالأمة .
وفي جميع الأحوال فإن الفن الحقيقي الأصيل يبقى رسالة سامية ، ترقى بمشاعرالأمة نحو السؤدد والصلاح ، وتزرع معاني القيم العالية والأخلاق الرفيعة ، وتبث مشاعر البطولة والوفاء ، وتؤصل حب الوطن والذود عن حياضه .
كل انسان يمكن أن يكون فنانا ناجحا في عمله ومعاملاته ، مع البيئة التي تحيط به ويعيش فيها ، فالمهندس البارع يمكن أن يكون فنانا في تصميماته وإبداعاته ، والدكتور الماهر كذلك يكون فنانا في طريقة تعامله مع زواره ومرضاه ، أو حتى في طريقة ودقة إجراء عملية جراحية لمريضه ، وكذا المعلم في أسلوب شرحه وتقديمه وطريقة توصيل المعلومة وعرضها بشكل واضح ومشوق لطلابه ... ومثلهم الرسام ... والخياط ... والنجار ... والحلاق ... وغيرهم .
والفنان : هو ذلك الشخص المبدع الذي يتمتع بشعورسام وإحساس مرهف ، يجنده لهدف مشروع بناء ، فيصلح من حال الإنسان وينهض بالأمة .
وحتي يكون الفنان فنانا حقيقيا بمعنى الكلمة يحترم هذه المهنة ولا يسيء إلى معناها وينتقصها حقها ، عليه أن لا ينحرف بها عن جوهرها النقي ، ولا يهبط بها إلى طريق التجارة وكسب الأموال ، ويحولها إلى وسيلة للثراء على حساب الفن وأهدافه المنشودة .
فإن في هذا تجنيا على الفن ورسالته السامية وافتئاتا عليه ، ولكن الأقبح من ذلك أن يضع الفنان إمكانياته ومواهبه تحت الطلب ، فيؤجرها هنا ويبيعها هناك في سوق نخاسة رخيص ، فيتحول بالفن إلى درك الهوان والإبتذال .
عندما يتحول هذا الشخص الوصولي إلى أداة رخيصة تستعمل لخدمة الآخرين من أصحاب الشأن وتحقيق أهدافهم الشخصية الهابطة أو المتخاذلة ، بعيدا عن مشاعره وأحساسيسه وقيمه وأخلاقه ... وفكره ، عندها لا يمكن أن يسمى مثل هذا فنانا بل يصبح ممثلا وضيعا ... لا بل مهرجا محترفا .
والممثل : بيدق على رقعة شطرنج ، يحركه لاعب من عل إلى المكان الذي يريده ، وفي الوقت الذي يختاره ، وشتان ... شتان بين بيدق من قطعة خشب أو زجاج ، وبين رجل من لحم ودم ومشاعر وأحاسيس يتحرك على أرض الوطن لبنائه ،وخدمة شعبه والدفاع عن أرضه ومقدساته.
الممثل : شخص يتقمص مشاعر وأحاسيس مزيفة ومتناقضة بحسب الدورالمسند إليه ، أو الدور الذي ربما يكون قد اختاره بنفسه ... لتحقيق مصالح الذات وأهواء النفس ، متنكرا لرسالة الفن ومبادئه السامية الأصيلة ، وبطريقة مغمسة بأساليب التزلف والتذلل ، ومعبدة بأرصفة الخنوع والهوان .
الممثل : صالة عرض لبيع المشاعر والأحاسيس ..... يباع فيها الفرح والحزن معا ... يباع فيها الصدق صباحا والكذب مساء ... يباع فيها الخيانة والوفاء ... والعمالة والغدر والوطنية ... وغيرها من القيم والأخلاق والشيم والمعاني المتباينة والمتناقضة بنفس السعر .
يبيع الممثل دمعة أم ثكلى كما يبيع ضحكة عاهرة فاجرة ، يبيع نهرا من دموع أم فقدت وحيدها في حجرها ، كما يبيع الدم المسفوح لذلك الطفل الوحيد الذي فجعت به أمه .
يتبلد إحساس الممثل ويتحجر شعوره ويفقد معاني القيم والأخلاق والأعراف والرجولة وينسى كل ماحوله ، ويتحول إلى مجرد أداة توجهها المصالح الهابطة والأهواء المزيفة والأماني الرخيصة ، لا يرى معاناة الأمة وإذلال الشعب وهوان الوطن ، لا يسمع صراخ المظلومين وأنات الثكالى وبكاء اليتامى ، ويخرس لسانه أمام قمع الحاكم المستبد وقتله لأبناء الوطن وسفكه لدمائهم ، في حين ينطلق مدويا يلهج بحمد الطاغية ويسبح له ويقدس ... صباح مساء .
عندها لم يعد هذا الشخص فنانا ... ولا ممثلا ... ولا مهرجا ، لأنه أصبح من حاشية هذا الحاكم المستبد وبطانته الفاسدة ، وشريك السلطان المستبد في تضليل الشعب وتزييف الحقائق ... وقمع المواطن .
لقد أوغل في انحرافه وتنكر لرسالة الفن ومبادئه ، وباع كل القيم والأخلاق والمشاعر ، ليؤصل للطاغية ظلمه ، ويشرع له إجرامه ، ويبارك له قتله ، ويلمع له صورته المشوهة ، ويغطي على أفعاله الذميمة والقبيحة ، ويثبت له عرشه المهزوز بصخور ملحية منخورة وفاسدة ! .
لقد خان نفسه وخان شعبه .... وخان الوطن ، لقد باع نفسه وباع أهله وباع الوطن ، بسعر بخس في سوق نخاسة رخيص .
الفنان إما أن يحترم مهنته ويكون رجلا على مستوى رسالة الفن السامي وأهدافه الإنسانية ، وإلا فليكسر قلمه ويحبس لسانه ويعتزل عمله ، خير له من النفاق للسلطان وخيانة الشعب والأوطان.
إن الفنان الذي يقوم بتجسيد القيم والهمم العالية والعزائم القوية الصادقة ومواقف النخوة والشهامة أمام جمهوره ، لا يليق به كرجل وانسان وليس كفنان فحسب ، أن يتنازل عن هذه القيم والأخلاق ويتخلى عنها تحت أي ظرف من الضغوط ، ولو هدده أعوان الحاكم في رزقه ولقمة عيشه ، ولو حتى امتد تهديد الطاغية إلى أمنه وسلامته ، وما رفضه للإبتزاز والتنازل عن رسالته السامية ومبادئه الأصيلة ، إلا جزء من هذا الوفاء لمهنته التي اختارها والقيم التي جسدها ... والوطن الذي أحبه .
إن الفنان الذي اختار تجسيد عظماء الأمة ، ورسم بطولاتها ومواقفها ، وصور صدق إيمانها وقوة عقيدتها ، ومضاء عزيمتها ، وترجم وطنيتها ووفاءها ... لا يجدر به أن يخون الدور الذي جسده ويخذل جمهوره الذي شجعه ، وينقلب على القيم والأخلاق التي عززها ودعا إليها .
إما أن يكون الفنان رجل مبادئ ومواقف عند الأزمات والمحن على مستوى من الرجولة والاحترام للأدوار والقيم والمواقف التي قدمها بما يخدم مصلحة الشعب وأبناء الوطن ، متجاوزا ترهات المستبدين وضغوط زبانيتهم وحواشيهم ، ومتجاهلا تعليماتهم التي تبحث عن مصلحة الحاكم المستبد على حساب حقوق ومطالب الشعب ، وإما أن يعتزل الفن ويختفي من الساحة ، خير له من أن يطالع جماهيره كل يوم جديد بالخيانة والخذلان ، لما في ذلك من تآمر على الفن وانقلاب على أصالته وانحياز ضد جمهوره وبني وطنه ،
فاعتزال الفن خير من اصطفاف الفنان خلف السلطان المستبد ضد جمهوره العريض من أبناء أمته ووطنه .
وخير ألف مرة من هذا النفاق الفني ... والردة الأخلاقية .