مسرحية نص كيس رصاص تسأل
وعلى الفلسطيني والعربي أيضا، أن يجيب
حذام العربي
شاهدت العرض الافتتاحي لمسرحية نص كيس رصاص، على خشبة المسرح الوطني الفلسطيني – الحكواتي، في القدس، وقد فاجأني ما شاهدت، انها مسألة توقعات، فلم أكن أتوقع من أحوالنا الفلسطينية المبعثرة والمترهلة والهزيلة والمشروخة والمستباحة حتى النخاع، انتاج شيء كهذا، رائع، شكلا ومضمونا وآداءا.
فنيا، قدمت المسرحية، مزيجا من تراث الحكواتي في القهوة المحلية، مصحوبا بمسرح خيال الظل، حيث تداخل هذا مع أداء تمثيلي للطاقم المشارك في المسرحية، وأحيانا آداءا غنائيا. تم تصميم المسرحية بحيث تلتحم بالناس، بالحضور جميعهم لمدة قصيرة من الوقت، ثم تتعامل مع بعض المشاهدين كجزء من الآداء المسرحي من بداية العرض الى نهايته.
ادوات المسرحية متواضعة جدا، تماما كما هي امكانات الشعب الفلسطيني في مرحلة الهزال والترهل، هذه التي يعيشها اليوم، وهل في هذا عجب؟
لكن ما قالته المسرحية، فاق كل توقعاتي، فقد استطاعت من خلال النص، أن تكثف أكثر من ستين عاما، في 70 دقيقة، ولامست الكثير من القضايا والمحاور المفصلية في حياة الفلسطيني.
وجاءت هذه الملامسة مجدولة بعناية، وانسيابية فيما يشبه لعبة تداعي الارتباطات الذهنية.
المسرحية تربك المشاهد، من حيث لا يدري أين تبدأ؟ وكيف بدأت؟ وكالموج الخفيف الدافئ تحمل المشاهد، باحتفاء واحتفالية، الى الابتسام، ثم يجول معها ضحكا وينساق معها غضبا، وفي أحيان أخرى يختنق بالدمعة حزنا وكربا، إلى أن تنتهي بحمله على طرح التساؤلات الجوهرية والمصيرية، وتلزمه بالتفتيش عن الأجوبة، ثم بالتمحيص والتأمل فيها.
انها مسرحية تحاكي الكثير من المشاعر الانسانية، متعة حسية بالدرجة الأولى ثم بصرية.
النص بسيط ومغرق في المحلية المقدسية، مفرداته مأخوذة من يوميات بسطاء القدس وأهلها، تحت الاحتلال الاسرائيلي، من ذاكرتهم الجمعية والمجتمعية لشخصيات بعينها، ولكنه يطرح تساؤلات قيمية اجتماعية، سياسية واقتصادية كذلك، حول هذا الواقع.
يمكن للمشاهد أن يحمـِّل هذا النص الكثير من الأفكار والمشاعر المعتملة في وجدانه، ويمكنه أيضا أن يشاهد نصا محليا بسيطا آسرا.
تحكي المسرحية قصة عائلة فلسطينية في القدس المحتلة عام 1967 .
على محور الزمان، ترصد ارهاصات حاضر رمادي، تعرج على ماض مذل وقاهر، وتلكز المشاهد، ليتبصر بالآتي، تتقافز بين ثلاث محاور زمنية بخفة ورشاقة.
على محور المكان، تتشبث بالقدس كمنطقة جغرافية، بتضاريس جبالها ووديانها، بالكروم الباقية والصامدة في خرائب قرى ريفها، وهذه تتوازى بأهميتها، مع مكان منسي ومهدد بالمصادرة في حواري القدس العتيقة، رأيت فيها رحاب فلسطين بكاملها.
الانسان الفلسطيني انماط هو المقهور وقد عششت في ثنايا قلبه نفسية الذل والهزيمة، وهو الباحث عن يومه، متناسيا أمسه وغده، وأحيانا بالفعل ينسى ولا يتناسى، ثم راح يشق طريق الحياة، ما يعنيه ويهمه في هذه المرحلة، الحفاظ على البقاء، البقاء بأبسط معانيه دون التوقف أو الإلتفات الى معاني قيمية كالكرامة الانسانية والهوية الشخصية، وهو ايضا من تشبث في المكان والزمان على الرغم من كل المصائب التي تنهال على رأسه لا زال يؤمن أن "المستقبل جاي"، وانه حلقة في سلسلة، تماسكه يعني شد أزر السلسلة بأكملها.
لقد إعتدنا، كما عودنا أهل الابداع، اختزال فلسطين في القدس، واختزال القدس في رقعة صغيرة هي الحرم القدسي الشريف، للمرة الأولى، ومنذ زمن طويل، أشاهد عملا لا تختزل فيه القدس، لتصبح بعض أحجار في معبد مقدس يؤمه المصلون من كل مكان وفي كل زمان. القدس في المسرحية، بسطاء الناس، وزمان موغل في الزمن، ومتسعات جغرافية، انها ببساطة فلسطين.
شخصيات النص : الأب، يجسده الممثل رجائي صندوقة، المواطن البسيط العادي، الذي يعكس نمطا سلوكيا لفئة عمرية تراوحت بين نكبة ونكسة، أيّ انها مواليد ما بين 1948 –1967. وهي شريحة مجتمعية واسعة، ولكن صامتة أو أنها تلوذ بالصمت، تتعامل مع الواقع والاحتلال ومؤسساته، من حيث تستطيع الاستفادة للصمود المادي المعيشي اليومي، ولكنها تلقي بأثقال أحلامها على التمني والغد والآخر. هذا مع يقين علمها، أن ما هو آت، لا محالة آت. هو جيل التيه الذي دار وما زال يدور في صحراء الأمم وبوادي العرب. هو يؤيد المفاوضات السلمية الجارية حاليا بين السلطة الوطنية الفلسطينية ودولة اسرائيل، وهو نموذج لشريحة واسعة، يعكس ضياع جيل التيه العصري والمفاوض، في متاهات التمنيات على خطط الانقاذ.
الإبن، يجسده الممثل عامر الأشهب، الذي تضيق به سبل العيش، فيذهب للعمل في المدن اليهودية في فلسطين المحتلة عام 1948 ، يضطر لتقديم بعض التنازلات لتسويق عمله، كالظهور تحت غطاء اسم عبري، انه جيل تراكم الغبار على هويته الذاتية، معارفه ضحلة، مداركه محدودة بالحاجة، واللهاث في أثر الحياة اليومية، ومظاهرها وأدواتها، حتى انه أصبح لا يملك جوابا لأبسط الاسئلة حول ميراثه وإرثه. هو جيل التساؤلات والتحقيق والتمحيص والتمرد ايضا، لكنه جيل لماح ومقدام ومبادر.
الأم، تجسدها الممثلة ريم تلحمي، القاهرة والمقهورة، المتهمة بأنها "عدوة السلام" وتهمتها الأكبر انها "تحب الحرب". معارضة للمفاوضات الجارية بين السلطة الفلسطينية ودولة اسرائيل. تنظر حولها، فتبصر تداعيات الواقع الحياتي اليومي، تلتف حول عائلتها فتشرذمها. وتكاد ترى نفسها تتشرد من جديد، من هذا المكان. لكن التشرد هذه المرة، تصاحبه معادلة جديدة، تجترحها هذه المرأة، ما كان كان، ولكنه لن يكون ومعركتها اليوم فاصلة، ليست فقط على مكان، كبيت أو قطعة أرض هنا أو هناك، أو زمان أغبر كان، ووردي آت، انها معركة كيانية.
شخصية الجار، يجسدها الممثل عبد السلام عبده، وتشكل العامل الخارجي المتدخل والمحرك للخلافات العائلية، من خلال إيحائه بعلاقة تتعدى الود البريء بينه وبين الأمّ. لكنه يدخل البيت ويتدخل في شؤون العائلة، من نافذة، لا بل من باب واسع، هو قصور الأب وتقاعسه عن آداء دوره الريادي، ماديا ووظيفيا بوصفه رب العائلة..
تجوز مشاهدة المسرحية وقراءة نصها بسذاجة عينية، تماما كما يمكن تحمليها الكثير من التأويلات.
فهذه تحتمل قراءة اسقاطية لأوضاع "البيت الفلسطيني" وما آلت اليه الاوضاع فيه مؤخرا. تماما كما يمكن اسقاطها على أوضاع "البيت العربي" في مشارقه ومغاربه. أو على أيّ جزء من هذا الوطن العربي.
تقوم المسرحية، بشخصية الأمّ، بإيضاح وفرز لمعركة الإنسان الفلسطيني، الذي يعي الفرق بين حياته كفرد – كإنسان، وبين حياة الشعب، في حياة الفرد معارك ومتطلبات، محكومة ببداية ونهاية، تمتد بين سنة أو أربعين أو سبعين، وقد يكون المئة عام، لكن الأجل محتوم والنهاية واضحة. لكن في حياة الشعب، معارك وصراعات تمتد لأجيال واجيال، تتعدى مئات السنين. هذه الأمّ المقهورة والقلقة، تفهم بالفطرة دورها، وتستشعر وظيفيتها الاجتماعية، التي فيها تشكل حلقة في سلسلة، جزء من جيل وزمن، قدم ما استطاع، يحاول نـَحْتَ حاضره بأسنانه، يتأمل حوله فيبصر خرابا ويبابا، على الرغم من واقع التردي والنكوص هذا، يعي أن ما عليه الآن، تمرير رسالة، الرسالة واضحة وقول قاطع لا لبس فيه، ولا مفاوضة ولا مساومة. تقوم الام بذاتها، وبحسها الفطري والسليم، بصياغة الرسالة للجيل القادم، لا تـُصالحْ، قاومتُ فقاومْ. هذه الحلقة في السلسلة، وهي تلك الأمّ الفلسطينية، تسعى لإزالة الغبار المتراكم على انتماء الابن. ثم صقل صورة حاضر فلسطيني ارتبك بين مفاوض ومقاوم في فلسطين، وتوضيح صورة الماضي التي اختلطت في ذهن الفلسطيني وتفاوتت حتى تراوحت بين نصر وهزيمة.
تقوم المسرحية، بشخصية الجار، بخلط الحابل بالنابل. فهو المهماز المحرك للخلافات، علما ان مرد الخلافات أصلا هو الأوضاع الذاتية والموضوعية، مكمنها الضائقة الاقتصادية، والانهيار السياسي، الاحتلال واستشعار التشريد القادم، والجار الذي يتطوع للمساعدة، من حيث تدخله في حياة العائلة، بود لا يخلو من ايماءات تتعداه، لكنها لا تبلغ مداها، يساهم في اضطراب العلاقة العائلية، لكن المشاهد لا يستطيع أن يؤطر هذه الوظيفية، فتبقى عائمة، يستشعرها المشاهد، لكنه يستصعب وضعها في سياق، تستدعي إيماءات الجار ردود فعل عنفية بين أفراد العائلة، مردها يكمن في اسباب مغايرة لدى الأمّ عنها لدى الاب. هذه البلبلة التي تحدثها الشخصية في حياة العائلة، ليست ببعيدة، لا بل تنطبق على المشهد السياسي الفلسطيني خاصة والعربي عموما، فهذه صورة مصغرة عن أوضاعنا، فيها الحاكم لا يملك، حيال التدخل الخارجي، سوى المساهمة في استباحة الوطن وفتح مصاريعه امام الخارج بالاقتصاد الريعي والترهل الاجتماعي والانسياق السياسي، واستلاب الوعي واستعمال العنف.
ما لم تقله المسرحية تصريحا، كان أبلغ مما استبطنته تلميحا، وقد كان قولا مفجعا، ان في قمة الهرم الفلسطيني فراغ مريع ومروع، فراغ مؤسساتي، غياب لقيادة سلطوية مركزية ومسؤولة، وفي كل البناء شروخ تتسع، البيت الفلسطيني يتداعى آيلا للسقوط، ويفتقد قيادة شرعية تستقي شرعيتها من الموافقة الشعبية، في ظل هذا الغياب تتقدم المرأة الفلسطينية، بشخصية الأمّ هنا، لتمسك الزمام، وتعبئ ذلك الفراغ، ففي زمن الفوضى الخلاقة، هذا الذي نعيشه اليوم، تتحمل المرأة وزر الحفاظ على الكيان الفلسطيني، بأدق تفاصيله، من احتياجاته المادية الحياتية اليومية، حتى المحافظة على الهوية الكيانية، حمل ناءت به قياداتنا الفلسطينية المتعاقبة، وحكوماتنا العربية في مشارق الوطن العربي ومغاربه.
في ظل كل هذا الترهل والإنفلات حيث "كل ينسق على ليلاه"، بدءا بتنسيق أمني واقتصادي مرورا بتنسيق معنوي نفسي، وانتهاءا بتنسيق إجتماعي مفاوضاتي، وإذ يطال التنسيق كل وأيّ فلسطيني، من المواطن العادي، وحتى ما يسمى ، تطاولا وتجاوزا على اللغة، وزيرا في السلطة الوطنية الفلسطينية، تتصدر المرأة الفلسطينية المشهد، متحدية كل الظروف الموضوعية والذاتية، وكافة المخاطر وتستشرس في الدفاع عن الحاضر والمستقبل، بدءا من الخلية الاولية للمجتمع ووصولا الى مقارعة جلاوزة الاحتلال بما أُتيح لها من موارد وقدرات متواضعة.
تتوخى المسرحية إدانة العنف، وإذا ما اعتبرناها انعكاسا وتقعيرا لصورة البيت العربي و/أو الفلسطيني، فشخصية الأب، تستبطن تجسيد السلطة الذكورية السياسية القامعة، الخائبة والمعتاشة كالفطريات على فتات يلقيه ذلك الغريب، الغرب الطامع، الاحتلال، انها السلطة السياسية التي لا تجيد سوى الايحاء بالقدرة والايهام بالعزة والكرامة الوطنية، لكنها فاقدة الارادة والشرعية، اذ لا تجد سوى العنف علاجا للخلاف مع الآخر، وقد التبست عليها حدود المسموح والممنوع، فخلطت بين التناقض الأساسي والثانوي، بين العدو والخصم، فأضحت فاقدة البصر والبصيرة ايضا.
اذا ما انسحبت المسرحية على المشهد الفلسطيني حصرا والعربي عموما فقولها واضح، تدعو الى فرز واضح وجلي بين الخصم الداخلي والعدو الخارجي، الى نبذ التكفير وتهميش الآخر، بأشكاله السياسية والاجتماعية وغيرها. ونبذ استعمال العنف. تقول بشرعية الاختلاف مع الخصم، وأما المعركة فهذه للعدو. ويبقى صدى السؤال الجوهري المقض والموجع يؤرق المشاهد، أين البوصلة؟ وهل أهل البيت، الخصم الداخلي، الذي ينسق أمنيا مع قوات الاحتلال، أو جاء على دبابة أمريكية كان ويبقى خصما؟ أم انه يتحول في مرحلة ما الى عدو؟! ومتى يتحول الى عدو؟!
هذه المسرحية تشكل مدماكا هاما وعلامة فارقة في الحركة المسرحية الفلسطينية.
انتاج فلسطيني مقدسي جدير بالمشاهدة، وجدير بأن يعرض في مدن العالم، وعلى الأخص مدن عالمنا العربي بمشرقه ومغربه، تماما كما هو جدير بالعرض على مصاطب منسية في مخيمات الشتات الفلسطيني.
جاء على الغلاف الخارجي لكراسة المسرحية انها من تأليف : كامل الباشا.
تصميم واخراج : عبد السلام عبده وطاقم العمل
تمثيل وغناء : ريم تلحمي، رجائي صندوقة، عامر الأشهب، عبد السلام عبده.
المسرحية من انتاج المسرح الوطني الفلسطيني – الحكواتي – القدس 2010 .