"اورفيوس" تبني جمهورية للموسيقى في الناصرة
"اورفيوس" تبني جمهورية للموسيقى في الناصرة
نبيل عودة
كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة
تتسم ظاهرة التعليم الموسيقي في الوسط العربي في اسرائيل ، في السنوات الأخيرة ، بنهضة غير مسبوقة .
صحيح ان التعليم الموسيقي شكل لأبناء أوساط اجتماعية معينة ، تقليدا اجتماعيا ، أكثر منه ثقافة موسيقية تقود الى مستقبل موسيقي ... وكانت الظاهرة السائدة هي معرفة العزف على العود أو قطعة شرقية أخرى ، أو قليلا على الأورغ ، أو البيانو .. ويمكن تلخيص "حالة الموسيقى " ، بأنها باتت ضرورية لاحياء سهرات الأعراس .. وبالطبع دائما هناك مميزون ، كسروا التقليد وانطلقوا الى عالم الموسيقى الواسع ، خارج البوتقة المحلية الضيقة .. ولكنها ظاهرة ظلت ضيقة جدا ولم تتعدى بضع أفراد ..
منذ أواخر سنوات الثمانين ، بدأ يتشكل وعي جديد لأهمية التربية الموسيقية ، وأثرها على تطوير شخصية الطالب ، وقدراته الفنية والعلمية الذاتية .. وبدأنا نشهد انتشار التعليم الموسيقى ، خاصة مع الهجرة الروسية الى اسرائيل ، التي شملت مئات الموسيقيين الروس ، وانتشرت في تلك الفترة ظاهرة شراء البيانوهات الروسية التي جلبها المهاجرون معهم ، وأكاد أقول ان الاف القطع اشتراها العرب في اسرائيل ، وباتت تشكل جزءا من ديكور البيت .. وكان لا بد من استعمالها .. وبدأ تلاميذنا يتلمسون طريقهم لتعلم العزف ، وكان للروس دورا كبيرا في انتشار تعليم الموسيقى .. ثم رأينا ظاهرة الانتساب الى المعاهد الموسيقية في الوسط اليهودي .. وتنوع التعليم ، ودخلت قطعا موسيقية جديدة ، وبدأ الوعي الموسيقي يتطور ويتسع .. ويمكن ملاحظة حدوث نقلة نوعية مع بروز عازفين موسيقيين ، أكاديميين .. أنهوا بامتياز معهد روبين للموسيقى في القدس ، الذي يعتبر من أرقى الجامعات الموسيقية .. وبدأ يظهر جيل عربي جديد .. يحترف الموسيقى وينطلق الى الآفاق العالمية .. وبرز من بينهم عازف البيانو العالمي المشهور ، سليم عبود أشقر .. الذي رأى به المفكر الفلسطيني الكبير د. ادوارد سعيد ، تجسيما للمستقبل الحضاري الذي يحلم به شعبنا الفلسطيني وسائر الشعوب العربية . ومعروف ان ادوارد سعيد ، الى جانب فكره وابحاثة التي أثرت على الفكر الثقافي العالمي ، كان عازفا ممتازا على البيانو ...
أستطيع ان أقول ان انطلاق سليم عبود أشقر للعالمية ، شكل نقطة تحول بالغة الأهمية في ثقافتنا الموسيقية ، وفي فهم أهمية الموسيقى في العلاقات بين الشعوب ، وبناء صرح للتفاهم والتعاون بين الشعوب التي يتآكلها العداء القومي والسياسي .لذا ليس بالصدفة ان أنطلق مشروع موسيقي دولي وقف على رأسه د. ادوارد سعيد والموسيقار اليهودي التقدمي دانيئيل بارنبويم ، وما زال هذا المشروع قائما أيضا بعد رحيل أحد مؤسسية ، د.ادوارد سعيد .. وهو يدعم وينفذ مشاريع موسيقية عربية يهودية وبمشاركة موسيقيين من مختلف انحاء العالم في خطاب موسيقي انساني في مواجهة خطابات العنف والقتل والقمع التي يمارسها الاحتلال الاسرائيلي ، والذي يشكل استمرارة على الشعب الفلسطيني ، كارثة قومية للشعبين الفلسطيني واليهودي في هذه البلاد المنكوبة بالنزاع .. ومن أجل بناء صرح انساني وأخلاقي بين الأجيال الناشئة ، قادر على تغيير واقع العداء والعنف بينهما.
من نفس الرؤية انطلقت في مدينة الناصرة فكرة عبقرية ، بادخال تعليم الموسيقى للمدارس الابتدائية والاعدادية ، ومفهوم التعليم هنا يختلف عما كان متبعا في برناج وزارة المعارف وعمليا لم ينجز شيئا .
الفكرة الجديدة هي تعليم موسيقي علمي بمستوى التعليم في المعاهد المتخصصة ، مع اساتذة متخصصين .
صاحب هذه الفكرة أو هذا المشروع هو المربي ومسؤول البرامج غير المنهجية في مدرسة المطران في الناصرة في وقته ، المهندس دعيبس عبود أشقر ، والد العازف المعروف سليم عبود أشقر .
ويمكن القول انه أحدث ثورة تعليمية ملأت عالم الطلاب اثراء ، ووسعت آفاقهم الثقافية والتعليمية ، وانعكس المشروع ايجابيا على المدرسة ومستوى التحصيل العلمي والبرامج الثقافية والفنية ، وبدأنا نشاهد عشرات العازفين الشباب في كونسرتا ت ، وقام عازف البيانو سليم أشقر بتقديم عددا كبيرا من الكونسرتات للجمهور العربي ، مع فرق يهودية محترفة ، مثل فرقة السيمفونيا الجديدة في حيفا بقيادة نوعم شريف. ريسيتال للعازف ميشا بورنبويم في معزوفات مختلفة . كونسيرت للموسيقى الشرقية . فرقة الأميرتوس الاسرائيلية مع عازف البيانو فادي ديب . برامج بمشاركة عازفين اوروبيين في كونسيرتات مختلفة ، مهرجان للعازفين الموهوبين الشباب .. وغيرها من البرامج .. وأبرزها بالطبع كانت مشاركة فرقة الفلهرمونيا الاسرائيلية بقيادة المايسترو زوبين ميتا . وهو أول ظهور لها في الوسط العربي ، وشارك فيه أكثر من 2000 طالب موسيقى من مدارس الناصرة . وقد انفعل المايسترو زوبين ميتا من مستوى الموهوبين الشباب .. واعتبر ما يجري في الناصرة انجازا غير مسبوق في اسرائيل ، قائلا بالحرف الواحد : " مستوى غير مسبوق في العزف ، يتجاوز كل معاهد الموسيقى لهذا الجيل في اسرائيل "
دعيبس عبود أشقر بالتعاون مع مجموعة من الأكاديميين العرب أسسوا جمعية خاصة لنشر التعليم الموسيقي ، تعرف باسم " جمعية اورفيوس لنشر الثقافة الموسيقية متعددة الحضارات "
وبدأ نشاطهم يأخذ طابعا مهنيا أكثر ويشمل مدارس مختلفة في الناصرة ، بعضها أهلية وبعضها حكومية ، واليوم ينتشر التعليم الموسيقي في شبكة من المدارس العربية ، مدرسة الرازي ،مدرسة المجد ، المدرسة المعمدانية ، المدرسة الانجليكانية ، مدرسة المخلص ، ومدرسة مسار ، وبسبب قلة الميزانيات المتوفرة لم يشمل المشروع بعد مدارس أخرى.
وفي السنوات الأخيرة أنجزت جمعية اورفيوس اقامة معهد عربي في الناصرة لتعليم الموسيقى " معهد بارنبويم – سعيد " يدرس فيه عشرات الطلاب ، وحسب موسيقيين معروفين في اسرائيل ، مستوى هذا المعهد يتفوق عن سائر المعاهد المعروفة في الوسط اليهودي ايضا. وقد لمسنا ذلك في مهرجان المواهب الشابة عام 2007 .
اليوم يستعد المعهد لمهرجان المواهب الشابة الثاني والذي سيقام في المركز الثقافي البلدي في الناصرة .ويشمل هذه المرة ثلاثة امسيات موسيقية ، وجدير بالذكر ان "جمعية اورفيوس" و" معهد بارنبويم – سعيد " بنوا علاقات موسيقية وتعاون موسيقي مع مدارس يهودية في الناصرة العليا مثل مدرستي غلعاد وشاليط ويشارك طلابها في العزف مع طلاب المعهد في الناصرة .
بدون مبالغة ، ما يجري بصمت ، بعيدا عن الاعلام ، يكاد يكون ثورة تعليمية وحضارية تبشر بمستقبل ثقافي مختلف عما سائد اليوم . الذي لفت انتباهي هو البرناج الجديد لمهرجان المواهب الشابة للعام 2008 . والذي يمتد على مساحة ثلاث ليالي بدءا من السبت 08 – 06 -21 ثم السبت التالي 08 – 06 – 28 ثم السبت الثالث 08 – 07 – 05 في برامج متنوعة تشمل معوزفات لطلاب المعهد حيث يعزفون مقطوعات لكبار الموسيقيين العالميين ، موتسارت ، هايدن ، كوريلي ، سين سانس ، أريغا وغريك وآخرين ، مع عزف على العود والات النفخ وستشارك فرقة الات النفخ من مدارس الناصرة العليا مع فرقة الات النفخ من مدارس الناصرة في عزف مشترك .
حقا ما يجري ليس مجرد نشر للثقافة الموسيقية ، انما بناء جمهورية للموسيقى .. جمهورية للمستقبل .. جمهورية للتطوير الحضاري والثقافي لنغيير الواقع المأزوم في ثقافتنا وواقعنا الاجتماعي.