مع الشاعرة المغربية نجاة الزباير
مع الشاعرة المغربية نجاة الزباير
إثر صدور ديوانها: أقبض قدم الريح
حوار: عبد الله المتقي
1- ما علاقتك بالقصيدة ،أهي جزء منك ، أم أنك جزء من قصيدة لم تكتب بعد ؟
كيف أصف علاقتي بها وأنا في بلاطها مثل شهرزاد بدون حكايات،لكن دعني أطوف بك في خباياها، لعلك تستشف الخيوط التي تجمعني بها.
هي من تمد أريجها بين أهداب الكون، فتخلع باب حكمتها لألج في صوتها الشبقي، أقتات من سحرها الذي يضيء قرني غزالة مسحورة بالإشارات.
هي حريق بُدِّلَتْ خَرَائِطُ معصميها، لتتدلى من شهوة الغبار مدائن ترمم أعطابي المشروخة.
هي الشبابيك المفتوحة لاكتناز الشمس؛ حيث يختفي وجه الأرض الكئيبة،وفي صدرها أمواج تعلمني مدار الحلم والسفر.
هي مدائن غريبة لها جذور من ماء يجرحها البكاء.
هي عصفور يهاجر في أغنيتها ذات النوتات السرية فتتعرى الأشياء.
هي سكرة حبلى بشظاياي ترقد في وطن الكلام.
هي غمامة ليل تطوف بين أهداب الموتى لتتصبب مطرا يحمل مراياي.
هي قبضة من تربة الرسول يستيقظ في ياسمينها شعب أُطْفِأتْ قناديله، فتوصله سحابة نحو الأمان.
تلك هي القصيدة الطالعة من أزمنة قصية؛ تفتح لي طريقها. ولا أملك غير الانهيار فوق سريرها،فكيف تكون جزءا مني وهي كلي، أمشي بخطاها، وأتبسم بحرائقها، وأنام تحت مظلة ليلها؛ تفتح بيتي أمام جرأتها، وتغريني دوما بالغابات والمطر في مدن من نور ومن حجر.
2-قصيدتك تارة ماكرة ، متسولة ، وتارة أخرى عارية ومبعثرة ،بالمناسبة ، أين قصيدتك ؟
تقول العرافة وهي تقرأ كف سطوري بأنها ضائعة في فلوات حروفية ، ينبت وجهها فوق هضبة رؤاي. تتجاوز الأمكنة والأزمنة، فهي عارية من الجبن ، متسولة تحت أمطار الواقع، ماكرة تشنق دهاء الحكام الذين يسكرون بدم الأبرياء تبعثرها أصابع الظن.
ورغم كل هذا أراني لا أعرف لها مستقرا، لذا أترك الأمر للنقاد لإخباري عنها.
3-ماذا تمثل الأسماء التالية في شعر نجاة ووجدانها
الأسماء لحاف تتدثر بها القصيدة في لحظات الدهشة، لا أضبط جريانها في دم الوقت، وهي تتسرب من بين أصابعي لغة تستوطن أرض المجاز.لكنها تحضر في لحظات انبعاثي بين تمزقي في مجاهيلها واستيهاماتها.
* فبلقيس : شموخ أشعر به كلما علوت منصة الإلقاء، ووجدت هذا الخشوع الرهيب في عيون الحضور الأشبه بالسفر في عوالم غير أرضية، حيث تعزف كلماتي على وتر الإصغاء الجميل، وهذا لعمري لأمر يشعر من خلاله الشاعر بهذه العلاقة السرية الروحية التي تربط بينه وبين الآخر.
ترجمت هذا في قولي:
فِي صَوْتِهَا اُلْعَاشِقِ
أَشْعَارٌ عِذَابٌ
تُرْقِصُ خِصْرَ اُلْقَصِيدَةِ
كَانَ اُلْعَالَمُ حَوْلَهَا يُولَدُ
فَيَسْقُطُ خَرَزٌ أَخْضَر مِنْ شِفَاهِ اُلْوَالِهِينَ.
*ماوية :الحب المطارد في قصائدي
* إلزا :قصة استمتعت ذاكرتي بالحفاظ على بقاياها التي استوطنت أرض الأدب العالمي بأنامل أراغون
* دنانير: صوت جميل سمعته من خلال صفحات التراث العربي خاصة كتاب الأغاني للأصفهاني، استعرته مرة لتكون مزماري الغيبي الذي أعبر به الذات.
ليلى: الحلم الضائع بين جفون التقاليد و قصة الحب المذبوحة تحت قدمي الأعراف.
4 ما هي طقوس ميلاد قصيدتك؟
لست أدري كيف تَحْبِكُ خيوطها وترمي بها حول صحوي عندما يلفني اليباب،و يمزقني عواء الشوارع. هكذا أراوغ أشرعتها لكنها تتبعني كما الكمان،تضطجع في سراويل حيرتي وأنا تحت أقبيتها أتناثر زهرا ولوزا وياسمين، تفتح شفتي الليل الغريب، وتنسج من شجني أشجارا تقطر حبرا ولوعة.
فما أكثر اللحظات التي تصطاد فيها حسرتي، و فوق ثوبها أحلام بألوان قزحية، حالما أمنحها مزماري الأول، تترك وجهي سَبِيًّا تدور حوله فراشات من نار لألملم بقاياي.
5-الأنثى؛ هل هي الظل و/أو الضوء ؟ أم الحلم المفقود و/أو الموجود؟
هي اللؤلؤة التي تعانق شرفات الكون بضيائها، فيفتح الحلم بلدانه وحدوده لهسيس الشمس.
هي الثلج والنار، حيث تصنع من الظلام قنديلا يضمد جراحات الوجود.
6-" لم يكن في الجنازة سوى نهار يئن
وشعب يلعن
ووطن يلعق التراب "
هل منحت الوطن كل ما في جبتك من حدس ، خيال، ورؤيا ،
أم أن هناك أشياء لا يسمح بقولها ؟
ما هو المسكوت عنه في نظرك؟
الشعر سلطة عليا لا تتكئ على عكاز أعرج بعيد عن رماح نيرون، فكلما ردمت المسافات وعانقت الوطن لألعق جراحاته، أجد دماءه المسفوحة على أرض الصمت، فيعلو وجودي غبار أشبه بالنقع الذي يثيره فرس المتنبي، فأحاول الإمساك به في صحراء المجهول، لكني كلما اقتربت منه لأبين له كذب الكهان لم أجد غير الريح ، فيصطادني معناي وأنا ممددة في اشتعالاته، حولي رائحة الفوضى، حيث لا أمسك بغير بضع كلمات يتمازج فيها الزبد بقش من تراب .
فماذا منحته؟ غير بعض الشغب المسيج بالحطام.وما زالت يدي تجوس في عروقه النازفة ولا أظنني اكتفيت، ما دامت الأرض قد انهارت أمام الحصان الطروادي الذي يقضم عشب بهائنا ولا يصغي لغير الخسارات.وهذا أمر لا تتوقف رؤيته على زرقاء اليمامة فقط!!.
ولا نظن أننا استطعنا الإفراج عن كل استفزازاته التي ترمينا دوما في سهوبه الجذباء.
7-كيف كانت قدم الريح وأنت تقبضين عليها ؟
دعني أقول وأنا أتعثر في ثوب مازح :
لقد كانت شفافة و ما إن اقتربت من كعبها حتى أردتني بئر الحرمان ، توسلت حضورها في أناي لكنها سخرت من معناي، و تركتني أتلظى في أوجاعي بعيدة عنها، فشددت الرحال من جديد نحو أرض غير الأرض لعلي أصطاد يتمها، لكن الطريق طويل وأنفاسي متعبة لا تتهجى غير تفاصيلي الصغيرة .
هل تيقنت الآن، بأن القصيدة التي أبحث عنها أشبه بقدم الريح التي لا يسجنها حذاء اليراع، فكلما سكبت لظاها وجدتُني أرمس ذكراها لأبحث عن أخرى لعلي أجدُني فيها.فأراوغ الوقت منتظرة قصيدة قد لا تأتي...
كُلَّمَا وُلِدَتْ قَصِيدَةٌ
جَاءَنِي زَائِرٌ يَقْرَعُ بَابَ اُلْمَعْنَى
يَتْلُو عَلَيَّ رِسَالَةً غَرِيبَةَ اُلَّلحْظِ
أَطْرُدُهُ مِنْ مَنْفَايَ
لَكِنَّهُ يُصِرُّ عَلَى نَشْرِ فَضِيحَتِي
أَتَوَارَى مِنْهُ فِي بَيْتٍ لَيْلِيٍّ
أُخْفِي مَلَامِحِي اُلْمَكْسُورَةَ
وَ أَهْتِفُ مِنْ جُرْفِ اُلظَّلَامِ
لَا تَدْخُلْ إِنِّي عَارِيَةٌ
لَيْسَ فَوْقَ جَسَدِي غَيْرَ ثَوْبِ اُلشِّعْرِ
فَاُرْحَلْ فَإِنِّي هُنَا بَاقِيَةْ
لَكِنَّهُ يَخُونُنِي لِأَلِدَ قَصِيدَةً ثَانِيَةْ.
وهكذا تستمر دورة الشعر في دورانها ليكون القبض على القصيدة الغزالة أشبه بالقبض على الهواء. فكأنها ماء ينسرب من بين أنامل الروح ليعانق تجاويف العمق الإنساني. وأنا جالسة فوق فخذ كوني أنتظر ...
8-أصدرت"أفروديت " إصدارات متنوعة ومتميزة ، كيف تقيم نجاة هذه الإصدارات ،وما مصير هذه السلسلة ؟
كتاب أفروديت صرخة نورس في ساحة زرقاء، ورهان أدبي على التميز والاختلاف ، خضنا غماره منذ سنين بمعية المشرف العام الشاعر الكبير أحمد بلحاج آية وارهام، وها نحن نتابع إصداراتنا التي تعتبر إضافة نوعية للمشهد الثقافي المغربي والعربي، وحسب علمنا هذه أرض بكر لم تحرثها أقلام غيرية.
فهي بمثابة أيدي تمنح للعطشان للثقافة الجادة ماء الحياة. فكانت ثماره والتي هي عبارة عن أعداد تناولنا فيها مواضيع عدة، تغترف غواية الاشتهاء الغائر في التميز.ولعل احتفاء المنابر الجادة والكتاب والمهتمين، ومراسلات النقاد والمنشغلين بالحقل الثقافي بهذه الدورية ، يعتبر دعما قويا لنا على الاستمرار، رغم ما يعانيه الكتاب المغربي من متاعب لا تخفى على أحد.
وطبعا أمامنا ملف جديد عن الشعر المغربي المعاصر وآليات اشتغال النقد التطبيقي عليه، والذي سيرى النور قريبا
فعن أي مصير إذن سأحدثك؟ غير مصير التألق والسير قُدُمًا نحو ترسيخ اسم يدعى كتاب أفروديت في الذاكرة الثقافية المغربية.
9-كيف تقرئين وتواكبين تجارب زميلاتك من المجايلات لك ؟
كم هو جميل أن تفتح الملاحق الثقافية وتجد أسماء تردم العدم بالكتابة، فهذا يشعرني بالفخر والزهو أن أقرأ لشاعرات يسكنهن هاجس الحرف مثلي، فيرتدين عباءته النورية وهن يعتلين جباله.كما ألمس هذا التألق عند حضوري للمهرجانات الوطنية الكبرى، فأجد إلى أي مدى تملك الشاعرات ناصيات المعاني المنصهرة في عوالم الكتابة ويصبغن غلالاتهن بقوافل من ضوء، ولعل اهتمامي بتجاربهن قد ترجمته في الترحيب بهن، خاصة في العدد الثاني من كتاب أفروديت الأنثى والكتابة. كما أحتفي بهن في اللقاءات الثقافية التي ننظمها، حيث أبقى على صلة وثيقة بدواوينهن الشعرية وبقصائدهن المسافرة كشعر غجري داخل القاعات.دون أن أنسى الإضاءات التي تتركها شاعرات عربيات على درب قراءاتي المستمرة.
10- ما الذي نحتاجه للوصول إلى مشهد ثقافي حقيقي ومتكامل ؟
المشهد الثقافي أصابه الهرم وأتلفتْ عراه العلاقات الشخصية، فأصبح مسجونا في بيت بلا مفتاح ولا نوافذ، فقد غررت به أسماء لا علاقة لها بالكتابة، فالكل يريد أن يصبح فارسا للقلم. ليكون هو وحده ومن بعده فليأت طوفان جلجاميش. وهذا أمر لا يخفى على أحد،
لقد كانت من بين أهدافنا عندما أعلنا عن كتاب أفروديت في العدد الأول، أن نحتفي بقيم الحب والجمال على كل الأصعدة،وكما قال أمبرتوإيكو "الكتابة هي دائما فعل حب وفي الحب هناك دائما شريك وإلا ليس هناك حب"،ولكن هل مشهدنا الثقافي حقا يسكر من هذا المعين الخالد؟!! لا نظن.
فلو اختفت المجاملات التي تنام كتعويذات في جسد الأبجدية ، واكتفى النقد بالنص بدون محاباة، كنا سنرتاح من التفاهات التي تسكن دواوين عدة، وتطبل لها جرائد كثيرة.
لكن رغم هذا فهناك أسماء تولد كما طائر الفينيك من بين رماد هذه الترهات، لتقول ذاتها في تميز يحمل مشعلا حداثيا، يعزينا عن ما آلت إليه قداسة الكلمة.