ابن خلدون ينهض من سباته

ابن خلدون ينهض من سباته

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

ليس من السهل استحضار شخصية مثل شخصية "ابن خلدون" على المسرح، فابن خلدون مدرسة فكرية كان لها وما زال تأثير كبير في العلوم الاجتماعية، لذا فإن استحضار مثل هذه الشخصية التاريخية إلى المسرح هو مغامرة حقيقية، وهذه المغامرة أصرت عليها فرقة "الفرينج" المسرحية القادمة إلينا من فلسطين الداخل، وقاد المغامرة المخرج "هشام سليمان" في أول أنتاج للفرقة، وتحمل معه المسؤولية تجاه هذه المغامرة فنانين مسرحيين لهم وزنهم في عالم المسرح الفلسطيني، وللحقيقة كنت أخشى على الفرقة من هذه المغامرة، حتى حضرت المسرحية بنفسي فاطمأنت روحي.

من الممكن استحضار حدث تاريخي على خشبة المسرح، إما من خلال إعادة الحدث التاريخي على شكل مسرحية، أو من خلال إسقاط التاريخ على أحداث معاصرة، لكن في مسرحية "ابن خلدون" جرى استخدام شخصية "ابن خلدون"، المفكر والعالم والموجه والفيلسوف كموجه لواقع نحياه، إعادة تصويبه ليكون الواقع أكثر حكمة، ومن هنا اعتبرت أن استحضار "ابن خلدون" من خلال نصوصه هو مغامرة ليست سهلة، وقد أشار مخرج المسرحية "هشام سليمان" لذلك في الحوار الذي جرى بيننا بعد العرض، وحين أشار لذلك أيضا في لقاء له مع "تفانين" قائلا: "إن هذه التجربة المحلية، هي مميزة جدا، فبمجرد التفكير باستحضار شخصية ابن خلدون لخشبة المسرح الفلسطيني، هذا بحد ذاته تحدي، وخاصة أن المسرحية لا تتحدث عن حياة المؤرخ العربي ابن خلدون، وسيكون استحضاره من خلال نصوصه، وكأنه شخصية تعيش في زماننا الحاضر، تتحدث إلينا عن مشاكلنا الصغيرة والكبيرة".

   المسرحية عرضت في رام الله من ضمن أيام المنارة المسرحية على خشبة "مسرح وسينماتك القصبة"، من ضمن العروض المقدمة في الذكرى الستون للنكبة الفلسطينية، علما بأن المسرحية عُرضت في بداية نيسان من هذا العام في مدينة الناصرة الفلسطينية.   ستة مشاهد مختلفة كانت مشاهد المسرحية، لكنها مشاهد تمثل مشاكلنا الاجتماعية والسياسية، ورغم أن كل مشهد منها كان من عمل وكاتب مختلف، إلا أن المخرج تمكن من التعامل معها بذكاء وكانت عملية الربط بين المشاهد شخصية "ابن خلدون"، فابن خلدون هنا هو الضمير والموجه، فهو يقف صامتا بقامته الطويلة ولباسه الفضفاض المستنبط من التاريخ، ليرقب الحدث ويدلي بدلوه فيه، من خلال مقتطفات مما كتبه فعليا وبدون تعديل، مما أعطى مصداقية للشخصية، في نفس الوقت كشفت لنا نصوصه عن وهج ما زال صالحا لعصرنا الحالي، في الوقت الذي نرى فيه التوجه لإهمال ما كتبه علمائنا من قبل المتخصصين، والتوجه إلى العلوم الأجنبية فقط، فنرى أوراق عمل أو بحوث تمتلئ بالمصطلحات والأسماء الأجنبية، وإهمال لما هو مستمد من التراث ومن تاريخنا وعلمائنا.

   المسرحية كما أسلفت اعتمدت على عملية إيراد ستة مشاهد مختلفة لكتاب مختلفين وكل منها تناول قضية محددة وفي مجملها بحثت واقعا معاشا، وهذه المشاهد كانت:

المشهد الأول: تحدث عن الانتخابات في المجالس المحلية والتي يمكن أن تنعكس على الانتخابات بشكل عام، حيث استطاع المخرج أن يتناول بأسلوب ساخر العملية الانتخابية، الحرص على بقاء المنصب لنفس الشخص حتى لو كان المرض قد استبد به، المكاسب والسرقات من الأموال العامة، الإساءة للمرشحين الآخرين بكيل التهم التي تصل إلى درجة التخوين، استخدام الصلاحيات من أجل التوظيف وإرضاء الناخبين لضمان أصواتهم مرة أخرى، باختصار تناول المشهد كل سلبيات العملية الانتخابية، وقد أبدع الممثلون أدوارهم بشكل عام في الأداء، وتمكن المخرج من إيصال الفكرة بشكل جميل وقريب من القلب، والمشهد مستمد من "مسرحية مراقب الدولة"، للكاتب أيلان حتسور.

المشهد الثاني: مستمد مما كتبه الكاتب أنجمر بريجمن "مسرحية صور من الحياة الزوجية"، والمشهد يتحدث عن فتور الحياة الزوجية والصراع الذي يظهر فيها، الذي كان حواريا أكثر من الأداء المسرحي، لذا انتابه ضعف رغم جهد الممثلين بالأداء، ورغم أهمية الفكرة التي كان من الممكن تقديمها بشكل أفضل.

المشهد الثالث: يصور واقعا معاشا من خلال إقدام سلطات الاحتلال على هدم البيوت العربية، والذي يحمل في ثناياه كثيرا من السخرية، مما أظهر الاحتلال على حقيقته البشعة التي يحاول أن يخفيها، فحين يسأل المواطن العربي الجندي الإسرائيلي إن كان هناك مهمات هدم كثيرة للبيوت، يجيبه: "كثير كثير"، ويكمل: "في انتخابات يا خبيبي"، فواقع الحكومات في إسرائيل أنها تلجأ لقتل العرب الفلسطينيين وهدم منازلهم وتشريدهم، كوسيلة للفوز في الانتخابات وكسب أصوات الناخبين، إضافة لمحاولة طردهم من وطنهم وإسكان شتات اليهود بدلا منهم، وفي أسلوب ساخر يمكن أن يكون كوميديا سوداء، أظهر سلوك الاحتلال ممثلا بالجندي الإسرائيلي، الذي يسرق فنجان القهوة من العربي، ويسبب الأذى للأطفال، ويهدم البيوت فوق الأثاث والممتلكات، وبعدها يقدم علبة دواء، وهذا المشهد مستمد من مسرحية " مشهد "عملية رد في الربيع" لحانوخ لفين.

المشهد الرابع: يطرح إشكالية الطبقة المرفهة في التعامل، فالزوج لا يفكر إلا بالمبالغ التي دفعها في حفل زفاف ابنته، والزوجة المغناج لا تفكر إلا بمكياجها ولبسها، والابنة العروس تتدلل في آخر لحظة رافضة الزواج ورافضة دعوات الأم لها والتي تريد أن تحافظ على الموقع الاجتماعي والشكليات الاجتماعية، فتقول لابنتها: "اطلعي تزوجي هلا وفيك تتطلقي بعد أسبوع"، رافضة رجاء الأب الذي يكرر حديثه عن المبالغ المدفوعة والشخصيات المدعوة، ولا تخرج العروس إلا حين يقول لها العريس: "اهدئي حبيبتي"، فلا نجد مبررا اجتماعيا لموقفها سوى الدلال المفسد في أسلوب التربية، وهذا المشهد مستمد من مسرحية "فندق بلازا" للكاتب نيل سايمون.

المشهد الخامس: يصور كيفية التربية الخاطئة التي تخلق من الطفل شخصية لا تفكر إلا بجمع المال واكتنازه والحصول عليه، فيكبر وهو لا يفكر إلا بالمادة، وهذا المشهد مستمد من "قصة كسر الخنـزير" للكاتب اتجار كيرت.

المشهد السادس: اعتمد على ما كتبه الكاتب يوجين يونسكو في "مسرحية الدرس"، وتحدث عن الإشكالية في كيفية تلقين العلوم بين المدرس والطالب، الفكرة المطروحة هامة جدا، وخاصة حين نرى كم تراجعت العملية التربوية، ورغم أهمية الفكرة إلا أن المشهد كان طويلا أكثر من اللازم، وأداء دور الأستاذ كان مبالغا فيه كثيرا بالعصبية والتوتر، مما شكل نقطة ضعف في أداء المشهد.

   ابن خلدون كان الموجه بفكره لطرح حلول للإشكاليات التي تطرح في مشاهد المسرحية، فكان يلقي بعض من مقولاته في مقدمته الشهيرة، لتشكل قاعدة تشير كيف يمكن مواجهة هذه الإشكاليات، بدون تدخل في مجريات العمل المسرحي بحد ذاته، وهنا أشير إلى أني أختلف مع الآراء التي طرحت بالمناقشة بأنه كان يجب أن يندمج ابن خلدون بالعمل لا أن يكون مراقبا وموجها، فلو تم ذلك لضعفت شخصيته وفقدت الكثير من محتواها، فالأسلوب الذي اتبع أعطى مصداقية أكبر للعمل الجيد الذي شاهدناه.

   في النهاية أرى لزاما أن أشير إلى أن الممثلين تمكنوا بشكل عام من إتقان أدوارهم، فقد أبدعت الفنانة القديرة والكاتبة "سناء لهب" بتقمصها الأدوار المختلفة، وأبدعت ميساء خميس في دور الطالبة بشكل خاص، إضافة للتميز في الأدوار التي قدمها مروان عوكل، وقدرات حسن طه التي تبشر بمستقبل واعد، ولا بد من الإشارة للممثل الشاب شادي سرور الذي قدم شخصية ابن خلدون، فتمكن من أداء الدور بإتقان سواء بالحركة والهدوء والشكل ونبرات الصوت والأداء، بدون أن أنسى القدرات الجميلة للمخرج الشاب "هشام سليمان"، ومشاركته الايجابية بالحوار وتقبل الملاحظات التي أبديناها بعد العرض على مائدة العشاء، بدون انزعاج ولا تأفف.