ليلتان من الفن الإنشادي الراقي في الدوحة

علي الرشيد

[email protected]

كان النشيد الإسلامي يرتبط بأذهان الناس إلى ما قبل ثلاثة عقود خلت بالابتهالات والمدائح النبوية، دون أن يبرح هذين المحورين ـ على أهميتهما ـ، ومع انتشار الصحوة الإسلامية، والبحث عن بدائل للفن الهابط، وحاجة المحسوبين على التيارات الإسلامية بأطيافها المختلفة للترفيه المباح والترويح عن النفس الذي لا يمكن الاستغناء عنه، تطور هذا النشيد شكلا ومضمونا، فصار من حيث الموضوعات يلامس كل الاهتمامات الحياتية كتنمية الجانب الروحي والإيماني في النفس، والأخلاق بجوانبها المختلفة، والجوانب الاجتماعية والأسرية كالحض على بر الوالدين، وتماسك الأسرة، وخدمة المجتمع، وحقوق الأخوة، والأفراح والأعراس، والغزل العفيف، وقضايا نصرة الأمة لاسيما في بؤرها الساخنة كفلسطين وغيرها، ومن حيث شكل الإصدار والمنتج الفني فلم يعد هذا الفن يقدم مسموعا من خلال الكاسيت، كما كان الحال سابقا، بل تطور الأمر ليقدم من خلال "فيديو كليبات" راقية، تستخدم فيها كل متطلبات العمل التليفزيوني والسينمائي بتقنياتهما المتطورة من إضاءة وصوت وصورة ومونتاج..، وظهرت هناك شركات متخصصة في إنتاج هذا اللون الفني، وإن كانت المتميزة منها ما تزال نادرة.

وخطا هذا اللون الفني (النشيد أو الإنشاد) خطوات أخرى على هذا الطريق فصارت له مهرجاناته السنوية، التي تقام على المسارح، وصارت له قنواته التليفزيونية، ومواقعه ومنتدياته على الانترنت، وبرامجه التليفزيونية.

ففي مجال الفضائيات ظهرت خلال العامين الماضيين قنوات مثل: شدا، والروح، وطيور الجنة، ويتوقع أن تباشر قناة أو قناتان أخريان بثهما خلال العام الحالي، ومن المهرجانات المهمة ما يقام في الأردن والجزائر، وعلى مستوى الخليج في البحرين وقطر ودولة الإمارات، وآخر هذه المهرجانات هو مهرجان الدوحة الفني العاشر الذي أقامه مركز شباب الدوحة على " مسرح قطر الوطني" التابع للمجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث يومي الخميس والجمعة الفائتين، وقبله المهرجان الدولي للأنشودة الذي أقيم بمدينة وهران الجزائرية في شهر مارس الماضي.

 وتخصص قناة الشارقة الفضائية منذ عامين برنامج مسابقات سنويا للإنشاد يتنافس فيه منشدون من مشرق العالم العربي ومغربه، ويشكل تظاهرة مهمة للنشيد، كما أنها تفرد برامج أسبوعية لهذا اللون الغنائي، وآخر هذه البرامج الذي يبث حاليا هو: " أعذب الألحان".

وثمة مواقع الكترونية للإنشاد يأتي في مقدمتها موقع " إنشاد كوم" في الإمارات العربية، وموقع "نسمات الفن" من المغرب أو الجزائر.

وكنوع من التخصص ظهرت شركات وقنوات معنية بأناشيد الأطفال اهتماما بهذه الشريحة العمرية التي تعتبر الأناشيد أحد الأساليب المهمة في تربيتها وتنشئتها وتعليمها كمؤسسة "سنا" في جدة بالسعودية و"طيور الجنة" بعمّان ـ الأردن.

ونظرا للتقارب في البيئة الجغرافية وألحانها الموسيقية فقد انبثق عن الفن الإنشادي ما يمكن تسميته فنا إنشاديا خليجيا وظهرت أسماء مهمة صار لها حضورها وجمهورها، يساعدهم في ذلك كل الوسائل المعينة التي سبقت الإشارة إليها آنفا.

وتقدم بعض أناشيد هذا اللون باللهجة الخليجية (الشعر النبطي)، وإن كانت تؤدى كثير منها باللغة العربية الفصحى، وقد كرست قناة "سما دبي" في شهر رمضان قبل الماضي برنامج مسابقات للاحتفاء والاهتمام بهذا اللون من خلال برنامجها " سما الإنشاد".

وعودا إلى مهرجان الدوحة الفني العاشر الذي سعدت بحضور ليلته الافتتاحية الأولى، فإنه يمكن القول أن هذا الفن قد صار راسخ الجذور، مكتمل الأركان، وبسماع بعض المنشدين من ضيوف المهرجان فإنك تدرك أنك أمام لوحات فنية مكتملة الشروط، فأصحابها الذين انتقلوا من إطار الهواية إلى ما يمكن اعتباره احترافا عبر السنوات الأخيرة، هم ذوو أصوات شجية، وعلى دراية بالأنغام والمقامات الموسيقية، ويؤدون أناشيدهم باقتدار بمصاحبة الإيقاعات، ويعكس الحضور الذي امتلأت به قاعة المسرح وتفاعله مع نجوم المهرجان نجاحا إضافيا لهذا اللون الفني، وإن كان ذلك لا يعفي من الإشارة إلى تفاوت بين مستويات المنشدين، قد يصل عند بعضهم درجة الإخلال بأحد الجوانب الفنية، وهو ما يقتضي التنبيه إليه ليتداركه القائمون على المهرجان في المرات القادمة حتى يحافظ المهرجان على مستواه المتطور.

اللوحات التي قدمت تراوحت بين المديح النبوي وعشق المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وبين الوجدانيات والغزليات الراقية، والتغني بحب الأوطان، والالتحام مع قضايا الأمة كفك الحصار عن غزة والشعب الفلسطينيين وبالمجمل فإن الأناشيد تركز على انتقاء الكلمات القوية والمعبرة، وهو ما يميزها عن كثير من غث الأغاني التي يقدمها المطربون الجدد اليوم، والتي لا لون ولاطعم لها ولارائحة.

الأناشيد كما هو أي فن ملتزم تجمع بين الإمتاع والترويح عن النفس، وشحذ العزائم والهمم، والتأثير في النفوس والسلوك، لذا فهي تؤدي رسالة مهمة، ومن المهم أن تحظى بالرعاية والتشجيع من الجهات الرسمية والشعبية كبديل للفنون الهابطة التي تخرب الذوق العام لشبابنا وفتياتنا، وتدغدغ مشاعرهم وعواطفهم فقط، وتشغلهم بتوافه الأمور، وشكليات الحياة.

تحية لمركز شباب الدوحة، ولكل الجهود المخلصة التي عملت على إنجاح هذا العمل الفني الراقي.