الثائر إبراهيم أبن عبدكة
وتشويه حقيقته في مسلسل الأيام العصيبة
رياض جاسم محمد فيلي*
جاء مسلسل الأيام العصيبة كجزء من برنامج هيئة إعادة كتابة التأريخ ومدارسها ومناهجها التي أبتدعها النظام المُباد ، والذي أنتجه تلفزيون العراق أوائل الثمانينات من القرن الماضي وقام بتأليفه الكاتب عادل كاظم وإخرجه المرحوم إبراهيم عبد الجليل ، فلقد كان مجرد تزييف للحقائق التأريخية الدامغة التي لازالت راسخةً في حياة المجتمع العراقي عامةً والبغدادي خاصةً ، وما بقي الأذهان والذاكرة وسرد الأقاويل وتناقل الأخبار لكل الذين عاصروا مقتل إبراهيم أبن عبدكة برصاصات غادرة في مساء يوم الأحد المصادف في 5/9/1954 في مدينة الحلة على يد طالب الثأر سهيل نجم زهو العزاوي إنتقاماً لوالده عن نزاع عشائري قديم .
وقد لوحظ أن مؤلف المسلسل المذكور يشير إلى أن روايته مأخوذة بتصرف عن رواية البؤساء الشهيرة للكاتب الفرنسي المعروف فيكتور هيجو ، ولكن عندما نتبحر في أعماق التأريخ نجد أن لكل شعب تجربته الخاصة مع البؤساء ويسطرها الكتاب والأدباء والشعراء في كل زمان ومكان حسب أفكارهم ورؤياهم وما يتأثرون به من الثقافات والعادات والتقاليد والظروف الإجتماعية السائدة في دولهم ، كما أن إطلاق تسمية " أبن عنتكة " بدلاً من " أبن عبدكة " هو طمس لمعالم هذه الشخصية وإجحاف بحقها ، وخاصةً إذا ما علمنا القصد من التسمية المستعارة التي جاءت على نفس الوزن والقافية ولكن بمعنى مغاير تماماً لواقع الحال ، إذ كان الرجل بأخلاقه وصفاته ومرؤته عوناً للفقير وسنداً للضعيف ونصيراً للمظلوم وحسب ما تناقلته الروايات والأحاديث والآلسن والأمثال الشعبية التي تناولت تلك الحقبة الزمنية ، والأدهى من ذلك فقد تعمد المسلسل إخفاء أصل الرجل وجذور عشيرته الكردية الفيلية القاطنة أباً عن جد في محافظة ديالى منذ الأف السنين ، إذ تزامن مع فترة إنتاج المسلسل وقوع التهجيرات العظمى بحق الشريحة الفيلية المضطهدة ، وبالتالي كانت هناك إساءة واضحة لشخصية الرجل وأهله وما تركته من أثر طيب في نفوس الناس عموماً إلى يومنا هذا وبفضل ما يسرد عنها من حكايات وأساطير والتي أصبحت تشكل مورثاً إجتماعياً يعبر عن واقع الحياة التي يعيشها المواطن العراقي في تلك الفترة ، إذ وصل الأمر ومدى التأثر بشخصية أبن عبدكة إلى حد التشبه بصفاته وطبعه كنموذج يقتدى به نتيجةً لمواقفه المشرفة ضد جبروت وطغيان الدولة العثمانية في أواخر عهدها وفي تلبية نداء ثورة العشرين وقادتها العظام والوقوف بوجه الإحتلال البريطاني وتطهير مدينة بعقوبة من براثن المحتلين والمتعاونين معهم ، وقد تمكن أكثر من مرة الإفلات من قبضة السلطة الحاكمة وكمائنها نتيجةً لكسبه حب وود الناس ومساعدتهم له في التنقل والتخفي بين القرى والقصبات لما يربو على عقدين من الزمن ، فكانت بطولات هذا الرجل تجسد عراقية أبناء جلدته من شريحة الأكراد الفيلية ، وهذا ما جرى تشويهه جملةً وتفصيلاً في المسلسل المزيف ليتحول الثائر إلى مجرد سارق بلطجي وشقي قاطع طريق أي متمرد خارج على القانون والنظام ومطلوب للعدالة عن إرتكاب جرائم كثيرة وتهم جنائية خطيرة كالقتل والسلب والنهب وعصيان أوامر الحكومة ، بالتالي مجّد المسلسل بطريقة وأخرى السلطة وأجهزتها الأمنية وأن كانت جائرة وقمعية إضافةً إلى إبرازه لشخصيات وهمية لا وجود لها وتعظيم أدوارها مثل شخصية " عبد الله التائب " المنقذ لأخت السلطان المزعومة وبشكل خارج عن المألوف ، كما أن هناك حلقة مفقودة من حياة الرجل قد تكون المنعطف الأهم من تأريخه حينما تغافل عنها المسلسل وحجبها نورها كالشمس الساطعة إلا وهي عندما تم إلقاء القبض على أبن عبدكة في العشرينات من القرن الماضي وإرساله مخفوراً إلى بغداد وإحالة قضيته إلى محكمة الجزاء الكبرى المشكلة برئاسة القاضي الإنكليزي ودمن وعضوية كل من عبد المجيد أفندي الياسين ويعقوب أفندي سويدة وبتهمة قتل موظف حكومي هو نجم الزهو فيما تولى الدفاع عنه طوعيةً المحامي معروف جاووك متصرف لواء السليمانية فيما بعد فإصدرت حكمها بالإعدام شنقاً حتى الموت والذي نقضه المحامي المذكور أمام محكمة التمييز برئاسة القاضي الإنكليزي بريجار وعضوية داود سمرة وصالح الباجةجي وسليمان فيضي ورشيد عالي الكيلاني رئيس الوزراء فيما بعد حيث رفض هذين الأخيرين التصديق على حكم الإعدام بالرغم من الضغوط التي مارسها المندوب السامي البريطاني السير برسي كوكس وهنا أثار المحامي معروف جاووك بفطنة ذكائه مسألة قانونية لم يتطرق إليها غيره حول مدى صحة قرار التمييز لكونه صدر بالأغلبية المطلقة ( ثلاثة من أصل خمسة أعضاء ) وليس بالأغلبية المقيدة أي ثلثي الأصوات ( أربعة من أصل خمسة ) ، إضافة إلى دور الصحافة وتسليط الأضواء على هذه القضية بشكل مكثف من قبل الكتاب والمفكرين والمثقفين والتي جعلت الشارع العراقي يغلي وتتعلى صيحاته من أجل إبعاد حبل المشنقة عن هذا الثائر بشتى الوسائل والسبل لكونه لم يستطع إنقاذ حياة كل من ( كريم كنة ، وعطية أبو الكلل ) من أبطال ثورة العشرين رغم الجهود والمساعي المبذولة بهذا الصدد ، وقد إكتسبت محاكمة أبن عبدكة تأييد وعطف الناس بإعتبارها قضية وطنية كبرى شغلت الرأي العام العراقي كله الموجه أصلاً ضد الإحتلال البريطاني تثميناً لدوره المشهود في ثورة العشرين وما عكسته قاعة المحاكمة وفسحتها المكتضة بجموع الحاضرين ، وبالتالي تدخلت بمناشداتها الحثيثة لدى الملك فيصل الأول العديد من الشخصيات والوجوه الوطنية السياسية والإجتماعية المعروفة آنذاك من أمثال الشيخ مهدي الخالصي والسيد محمد الصدر والحاج عبد الواحد سكر إضافةً توسط إلى المس بيل في اللحظات الأخيرة بشكل مفاجئ لكون أبن عبدكة حماها في يوم من الأيام وأوصلها إلى حدود بغداد سالمة بعد أن أسروها قطاع طرق من قطار كركوك المتوقف في محطة شهربان ، وحتى لا تثار حفيظة السير بيرسي كوكس وإمتعاظه فقد أبقى الملك فيصل إضبارة قضية أبن عبدكة في درج مكتبه لمدة سنتين وإمتنع عن تصديق الحكم إلى أن تم تغيير المندوب السامي ومجيء السير هنري دوبس إلى العراق فوجدها الملك فرصة سانحة لتخفيف حكم الإعدام إلى السجن بالأشغال الشاقة المؤبدة لمدة عشرين عاماً وإطلق سراحه في حوالي عام 1934 ، ووضع لمدة من الزمن تحت المراقبة المشروطة ، وجرى تعيينه مراقباً للآثار في مدينة الحلة وبراتب شهري مقداره خمسة دنانير ونصف وبقي فيها عشرين عاماً تقريباً إلى أن قتل على يد سهيل نجم وهو في الثمانين من العمر أو أكثر ونصفه مشلول ولم يرزق من زواجه المتأخر سوى بنت وحيدة أسمها صبرية التي خففت جزءً يسيراً من واقع حياته المليئة بالشقاء والمعاناة الإليمة والتي طالبت بوصفها الوريثة الشرعية له براتبه التقاعدي ونظراً لوقوع الوفاة قبل صدور قانون خضوع المستخدمين للتقاعد في عام 1958 ولكون صبرية متزوجة وزوجها على قيد الحياة فلم يصرف لها راتب تقاعدي غير أنها أستلمت مكافأة نهاية الخدمة الفعلية والبالغة (135) دينار في زمن الدكتور ناجي الأصيل مدير الآثار العام آنذاك والذي كان يرعى أبن عبدكة ويكن له إحتراماً ملحوظاً ، وهكذا أستدل الستار على حياة أبن عبدكة الذي أصبح رمزاً لمحاربة الظلم والطغيان ، مع الإشارة إلى أن معظم المراجع التأريخية قد أختلفت في سرد حياته ومنها كتاب العراقيون المنفيون إلى جزيرة هنجام لمؤلفه د. محمد حسين الزبيدي وكتاب بغداد القديمة لمؤلفه عبد الكريم العلاف وكتاب شقاوات بغداد في العصر الماضي لمؤلفه يونس سعيد وكتاب في غمرة النضال لمؤلفه سليمان فيضي وكتاب لمحات إجتماعية من تأريخ العراق الحديث لمؤلفه د. علي الوردي والتي جمعها الأستاذ حسين الجاف في كتابه شذرات من التأريخ القريب والبعيد ، ومع ذلك لم تشوه كل المؤلفات السالفة الذكر حقيقته مثلما فعله مسلسل الأيام العصيبة .
* باحث قانوني متخصص بشؤون الأكراد الفيلية