الدالي .. مجددا

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

أفضّل عادة ألا أردّ على الآراء المخالفة لي في القضايا الاجتهادية التي تحتمل أكثر من رأى وأكثر من وجهة نظر ، فمثلما أقول رأيي وأعرض وجهة نظري ، فحق الآخرين أن يفعلوا ذلك مكفول، مهما كان مخالفا أو مناقضا لي .. وما كنت أظن أن مقالي عن مسلسل الدالي الذي اختطف قصته تجار المسلسل من كتاب عثمان أحمد عثمان ( صفحات من تجربتي ) ، وحاولوا التغطية على جريمتهم بإضفاء نوع من البوليسية الأميركية عليه ، وتحوير بعض الأحداث ، واختلاق بعض الشخصيات ؛ سيثير غضب بعض الناس وخاصة من أهل اليسار الذين يمثل عثمان أحمد عثمان بالنسبة لهم حالة من الحساسية يصعب علاجها ، مع أن بعض أصحاب التعليقات التي وصلتني وزعم أصحابها أن " المصريون " حجبتها ، أشارت إلى أن المسلسل قدم الصحفي الشيوعي في صورة "نقية " و" شجاعة " " ومثالية " لدرجة أنه قدم استقالته من المجلة التي يعمل بها ، وكان حريصا على التعامل مع عثمان بندّية كاملة تصل إلى درجة التو قح أحيانا ، وهو ما لا وجود له في الواقع ، ولا يعرف عن اليساريين الذين يغلب عليهم طابع " الغاية تبرر الوسيلة "  ، فضلا عن كون عثمان من الرجال الذين لا يسمحون لمثل الصحفي الذي قدمه المسلسل أن يتجاوز حدوده.

لقد تصوّر بعضهم أنني حين ذكرت في مجال التدليل على أنهم سرقوا كتاب عثمان بأنه المقاول الوحيد الذي سافر مع السادات إلى القدس أنني أوافق على الاستسلام للغزاة النازيين اليهود ، والذهاب إليهم في عقر دارهم ، وطلب الصلح منهم .. فقد كنت من أوائل الذين عارضوا هذه الزيارة ، مع إدراكي للوضع السيئ الذي كانت تعيشه مصر اقتصاديا : الخزانة خاوية ، مظاهرات الخبز التي سماها السادات انتفاضة الحرامية ، واستغلها الشيوعيون استغلالا جيدا، بعض الأخوة العرب غرقوا في أموال البترول التي رفعت أرصدتها دماء المقاتلين المصريين في حرب رمضان ، ضنوا بالفتات على مصر ، وفضّلوا الإنفاق على حدائق الحيوان في لندن ومصارف أخرى .. الجلادون الذين كان يهمهم إشعال النار بين السلطة والشعب وإثارة القلاقل بحجة الحفاظ على الأمن إشباعا لمركبات نقص اجتماعية .. وغير ذلك من أسباب منطقية دفعت الرجل للبحث عن حل لأزمة بلاده مع عدوّ فاجر يدعمه من صنعوه وزرعوه في فلسطين .. وبالمنطق المادي فالسادات تصرف بحكمة، ولكنه بمنطق آخر فرط وضيّع .. وعلى كل حال فقد سجلت رأيي بعد أن نشرت مقالات عديدة في حينه في الاعتصام والدعوة – ردّ الله غربتهما- من خلال كتاب لي اسمه الصلح الأسود ، صدر في أوائل الثمانينيات وقبل أن يولد بعض من يريد أن يعلمني معنى الوطنية !

والمشكلة في كل الأحوال أن تقديم عمل يزيف الحقيقة ويشوه الرجال ، يسيء للأمة قبل أن يسيء إلى المعنيّين بالعمل أنفسهم ، وكان الناس يتوقعون تقديم شخصية عصامية ، تكون قدوة للشباب الذين يعانون البطالة ، ويدفعون بأنفسهم إلى الموت غرقا ، أو دخول السجون للحصول على فرصة عمل في الدول الأوربية أو البلاد العربية ، وكتاب عثمان وفقا للأصول الأدبية غني بالمواقف الدرامية والدلالات الاجتماعية ، والشخصيات الخصبة التي تمتلئ بالمشاعر والقيم الإنسانية في صورتها الإيجابية أو السلبية .. ولكن تجار المسلسل آثروا السرقة وشوهوا المسروق ، وكذبوا على التاريخ ، تنفيسا عن أحقاد صغيرة ، وسعيا لمكاسب من حرام !

لقد بدأ الرجل من الصفر ، وجاهد وكافح ، نتيجة لتربية إسلامية ناضجة ، وموهبة ربانية ساطعة ، وإرادة فولاذية لا تنحني ، وعزيمة راسخة لا تنهزم ، ورفض الوظيفة الحكومية ، وفضل العمل الحر ، وعاش تجربة من أعمق التجارب جعلته يشارك في أخطر الأحداث التي مر بها الوطن في ظروف غاية في الصعوبة والتعقيد بدءا من إعادة إعمار قرية كفر عبده على قناة السويس حيث كان الجيش الإنجليزي الغازي يحتل البلاد ، ويستذل العباد ، مرورا ببناء السد العالي ، ثم التجهيزات العسكرية في بناء حظائر الطيران ودشم الصواريخ تحت القصف الوحشي الأعمى الذي تشنه طائرات العدو الفاجر ومدفعيته ، ثم بناء مدن القناة المدمرة والجديدة ، وقبل ذلك كان بناؤه لكثير من المؤسسات في الدول العربية مابين مدنية وعسكرية ، وبعد ذلك إنشاء عشرات المصانع والشركات الصناعية والزراعية والتجارية والسياحية دون أن يحمل الحكومة عبئا أو ميزانية !

ويبدو أن الذي يزيد من حساسية بعض أهل الهوى هو الإشارة إلى دور الإخوان المسلمين في شركات عثمان ومؤسساته بما عرف عنهم من إخلاص وصبر وأمانة ووفاء وإتقان .. فالقوم يرون الإخوان أخطر من الصهاينة وأشد ؛ مع أنهم لم يؤذوا أحدا أو يتآمروا على أحد .. حتى لو افترضنا جدلا أن بعض المنتسبين إليهم شذ عنهم وعن منهجهم ؛ فهل هذا يسوغ تلك الحملة الشرسة التي يشنها بعض المنتسبين إلى اليسار ؟ وهل يجوز في المقابل أن نتهم جميع اليساريين بالعمالة والخيانة والعمل لحساب الأنظمة المستبدة والسعي للارتزاق والتكسب باليسارية ؟ لا أظن أن ذلك يجوز ، فأنا أعرف بعضا منهم أى من اليساريين ، كان يدفع من جيبه ، وكان هدفه الأساسي خدمة وطنه والوصول إلى الحقيقة .. وبالمثل فإن الإسلاميين عموما والإخوان خصوصا لا يعرفون التجارة بالدين ، لأن من يتاجر بالدين لا يدخل السجن ، ولا تصادر أمواله ولا تغلق مكتباته ، ولا يحرم أولاده من دخول الكليات العسكرية والأمنية ، أو العمل في النيابة والقضاء والجامعات ، والصحافة الحكومية ، والسلك الدبلوماسي أو وزارة الخارجية ، ولا يسجل اسمه في كمبيوتر الداخلية بوصفه ( مطلوب فورا أو مطلوب لاحق) .

وإذا كانت بعض الصحف تحاول أن تبرئ تجار المسلسل من جريمة السرقة والسطو على كتاب عثمان أحمد عثمان لتبييض وجه اليساريين وإدانة أنور السادات الذي خاض أول حرب هجومية في تاريخنا الحديث ، وطرد الروس المتآمرين الذين كانوا يمثلون حالة أخرى من الاحتلال لدرجة أن منعوا قادة الجيش المصري من دخول القواعد العسكرية في بلادهم وعلى رأسهم الفريق أول محمد فوزي – رحمه الله - وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة ،ثم طرد أتباعهم ممن كانوا يحاولون تحويل مصر إلى دولة شيوعية تابعة للسوفيت .. فإننا نأمل أن يتقدم الفنانون أصحاب الرسالة بتقديم مسلسل صادق ، ينتمي إلى الحقيقة والفن الواقعي ، وليس فن المافيا الأميركاني ؛ ليتعلم شبابنا معني الكفاح على أرض الوطن ،وصعود السلم درجة درجة ، وليس بالمخاطرة إلى حد الموت في زوارق التهريب إلى شواطئ أوروبة، أو بتأشيرات الزيارة التي تقود إلى السجون .

رحم الله عثمان أحمد عثمان ، ومن شاركوه مسيرته وأفضوا إلى ما قدموا ، وعفا عنهم وعنا أجمعين.